سقط خبر رحيل زياد الرحباني عليّ كما تسقط القذيفة. لا أقصد التشبيه عبثًا؛ بل لأنني من غزة، من مكانٍ أعرف فيه كيف يُسمع صوت القذيفة، وكيف يرتجّ القلب معها قبل الجدران. في غزة حيثُ ولدتُ لاجئة تعود أصولي إلى قرية زرنوقة قضاء الرملة المحتلة، ونجوتُ من موتٍ محقق في الإبادة الجماعية الجارية.
زياد لم يكن فنانًا فقط. كان رفيقًا في هذه الحياة القاسية، ونيسًا في الليل حين تنقطع الكهرباء في غزة عندما كان صوته يطلّ علينا كنكتة سوداء، أو كمقطوعة حزينة من "عودك رنان"، فنسخر من أنفسنا ومن أوجاعنا، حين يُعمدها أبو الأحزان، عرّاب السخرية، الثائر، العاشق، النبيل، المثقف الذي ليس له سعر... زياد.
لم نكن نبحث عن الترفيه بل عن الحياة. عن معناها، عن نُبلها وسط هذا الحصار والخذلان. وكان زياد يشرحها لنا بنبرة الساخر الموجوع فنفهمها ونهدهد النار في صدرونا لأن هناك من هو يجعل هذا العالم القبيح متوازنا.
رحل صاحب “الجوع كافر” بينما أنين الجوع في غزة صارخ ومدوٍ. غنى زياد للناس الذين اجتمعت فيهم كل الأشياء الكافرة، وضع أصابعه على جرحٍ تخجل منه أنظمة بكاملها، وتخشى الاعتراف به .
لكن نحن؟ نحن لا نحتاج من يشرح لنا كفر الجوع. نحن من أكلنا من عدس الإغاثة، وشممنا رائحة الخبز الذي لا نملك ثمنه، وفتّش أطفالنا في الحاويات عن لقمة. نحن فقط كنّا نحتاج من يصرخ باسمنا، أن يقولها كما هي دون مواربة.
وكان زياد هذا الصوت.
في وداعه، لا نبكيه كفنان فقط، بل كرفيق جيل. لم يعش في غزة، لكنه سكنها.
كان يجلس معنا على الأرض في الصفوف الأولى لعروض الدبكة ومحاضرات الثورة، يدخن السيجارة تحت ركام البيوت، ويخربش على حيطان مخيم النصيرات، وعلى باب مدارس الأونروا. غنّى في رأس الناقورة، فسمعنا صدى صوته في غزة.
أغنياته ليست مجرد أغنيات بل بيان سياسي محمَّل بالحب، بالثورة، باليسار المُنهك على كثرة ما جُرِّم .
زياد الذي يحوّل القضايا الكبرى إلى مشاهد حيّة، إلى ضحكة جارحة، إلى موسيقى تحفر في القلب.
حتى أغاني الحب كانت عنّا نحن؛ عن كل من سُحقت أحلامهم تحت بساطير الأنظمة والدبابات وفساد السوق..
وما هزّني أكثر هو أنني ظننت أن حزني على غزة قد أفرغني من الحزن على أي شيء آخر.
لكنه هو، زياد .. رحيله جاء في أكثر لحظات غزة وحدة، ما جعل هذه الوحدة أكثر قسوة.
أرثيك، يا زياد، بمقطوعة "و قمح" التي لا أدري إن كانت موسيقى، أم صلاة، أم بكاءًا مكتومًا من زمن آخر.
أدمنتها حتى صارت جزءا من وجداني، طيفا من الحزن البشري الجمعي مجتمعاً مع الجمال, حزنا استثنائيا يُذيبني كقطعة سكرًا في فنجان شايٍ مرّ.
موسيقى تستدعي كل انكسارات الطفولة، ومأساة اللجوء، وأحلام المراهقة، وجوع الصغار، وموت الأمهات تحت الأنقاض، لكنها أيضا محملة بالحب والعاطفة والنشوة.
حين أسمعها، أشمّ الأرض، أستشعر آثار أقدام المسيح، وتغسلني دموعه.
هي حوار بين القلب وجرحٍ لم يلتئم، بين وطنٍ ممزق وروح تبحث عن حضن.
كتبها زياد لنا، لجوعى غزة، ليتامى بيروت، لمن فقدوا أسماءهم تحت زحمة الطائرات الحربية، للمهمّشين تحت حرب التجويع الأممية. أقول هذا وأراه من بعيد يبتسم ساخرا ويقول : الموسيقى الصامتة من امتين بتحكي! وأنت من اعترفت بأنك وقفت عاجزا أمام الغناء للقضية الفلسطينية بشكل مباشر رغم أنها قضيتك التي تستحوذ على مساحات بارزة من خيالك.
لكنهم العباقرة لا يعرفون مدى أثرهم في ذاكرة الناس الجمعية أمثال زياد لا يحتاجون أغنية لتصنيفها، زياد الذي تمرّد حتى على الفن الملتزم وأفلت من قيوده لشدة ما يحمل في رأسه من عشق للحرية.
لم يكن زياد "لبنانيًّا فقط".
كان عربيًّا فلسطينيا ويمنيا وتونسياّ، صوته يصرخ بوجهنا، بأسمائنا، بحكاياتنا، فتَحمرّ وجناتنا ثم يُربّت على أكتافنا بعد أن يجلدنا.
كان غاضبًا لا من موضع الاستعلاء والتفوق، بل من موقع الألم، وعلّمنا أن نكون كذلك:
لا نخجل من دمعنا، ولا من سخريتنا، ولا من هشاشتنا الثورية.
لكن صاحب "الجوع كافر" لم يحتمل أن يرى الجوعى في غزة يموتون بصمت. قلبه الواسع لم يحتمل هذه الخيانة الجماعية، فانكسر، واستسلم للحزن... ورحل.
زياد الذي لم يعلق على الإبادة الجماعية في غزة فيما كان تحت فكّ المرض والآلام كان حاضراً في أذهاننا في الكلمات التي لم ينطق بها، وفي الأغاني التي حاصر فيها الجوع والقصف قبل أن يحاصرنا..
ومن يعرف فن زياد وقلم زياد يعرف أن صمته كان أجمل بيان. وكأنه صرخة عابرة للحدود وموسيقى لازالت داخل رحم الإبداع تحمل بين حروفها دمار المدن ونزيف الحضارات ومرارة الخذلان.
في زمن يُطبّع فيه القاتل وتُحاصر فيه الضحية، كان زياد نشازًا جميلاً في انسجام عالمي رأسمالي بغيض.
واليوم، لا أعرف هل أحسده أم أحسد من سيستقبله هناك؟
ربما يلتقي غسان كنفاني، وناجي العلي، وجورج حبش، والسيد الذي ظل يحبه وينتقده في آن.
أما نحن، فسنظل نُشغّل موسيقاه على مسامع أطفالٍ لم يأكلوا منذ يومين.
وسنقول لهم:
هذا الذي تسمعونه، ليس فنانًا فقط.
هذا الذي صرخ باسمكم حين صمت العالم.
يا رفيق .. بلا ولا شي، بنحبك… بلا ولا شي.. فما بالك وأنت أحد شرارات وعينا، وعزاء حزننا، ورفيقنا الذي لم يخن. لكننا نمشي ومنكفي الطريق .. يا رفيق ..
