النرجسيون

Flowers in a Wan-Li Vase by Balthasar van der Ast 1073.

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

أواخر التسعينيات، ترجمتُ قصيدة وليامز عن السيكلامان القرمزي ليقرأها نزيه أبو عفش، مربّي تلك الزهور التي تسمّى في جبال سوريا ولبنان "بخور مريم". لا أدري إنْ كان نزيه قد رسم زهرة السيكلامان الكبيرة التي حلم بها، أم تراه أرجأ اللوحة مثلما أرجأ أموراً كثيرة في الرسم والكتابة والحياة،

للكاتب/ة

انهمك وليام كارلوس وليامز طوال تجربته الشعرية بحيوية الوصف، المشفوعة بالانتباه الدائم إلى اللحظة الراهنة في محيطه القريب ببلدة باترسن الأميركية. في واحدة من قصائده القصيرة، وصف بضع لحظات من حياة قطّة حين التقط رشاقة قفزتها إلى سطح الخزانة لتضع قدمها في أصيص ورد فارغ.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

08/10/2025

تصوير: اسماء الغول

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

جولان حاجي

مقيم في فرنسا

بين الأندلس وحلب

ولما أطلعني روبن موجر، الترجمان الأمين جار الديار الأندلسية، على مقدمة "البديع في وصف الربيع" للإشبيليّ، وقعتُ في ثاني سطورها على "إنّ أحقَّ الأشياء بالتأليف، وأَوْلاها بالتصنيف ما غفل عنه المؤلّفون"، ورأيتُ أنّ شاعراً من قرطبة قد خاطب زهرةَ الخيريّ الأصفر بلسان زهرة الخيريّ النمّام، وآخر قال: 

إعلان

أشهدَ الأقحوانُ أنّ شذاهُ/كافرٌ بالذي سواهُ جناهُ

ألّف أبو الوليد الإشبيلي كتابه الصغير في القرن الثاني عشر. كان في حداثة سنّه قد بوّب مختاراته، نظماً ونثراً، مما أنشدت مجموعة من القضاة وقادةُ الشرطة والوزراء وزوّار البساتين والحدائق. توفي الإشبيلي "معتَبطاً [أي مات شاباً سليماً لم تُصبه علّة] وهو ابن اثنتين وعشرين سنة".

إعلان

ضحكة النرجسيّ الأعظم

وإذْ صادفتُ "وردٌ كمثلِ دمِ الوريد" في منتخبات الإشبيلي عدتُ إلى الصنوبري شاعر حلب، كأني سمعت موشَّحاً نسيت كلماته:

فالأرض ياقوتة والجوّ لؤلؤة/والنبتُ فيروز والماء بلّورُ 

المؤرّخون عَدُّوا الصنوبريّ واحداً من شعراء البلاط في القرن العاشر. لقّبه النقّاد القدماء "الحبيب الأصغر" [الحبيب الأكبر هو أبو تمّام]. لعلهم أهملوه أو رأوه على رقّته ضعيفاً، إذْ لطالما انشغل عن الإنسان بالطبيعة. ربما مدائحه لمدينة حلب ونهرها قويق أبقى من مدائحه القليلة لأميرها سيف الدولة وآل البيت.

قال صديقه الأعزّ كشاجم عن صداقتهما: "جسمان والروحان واحدة/كالنقطتين حواهما خطُّ [...] وتواضع يزدادُ فيه علا/والحرُّ يعلو حين ينحطُّ".

لم يسئ الصنوبري أن يُكنّى شاعر "الروضيّات"، وقد يضاف إليها "المائيات" و "الثلجيات". قال معلّقاً على كنية جدّه:

وإذا عُزينا إلى الصنوبرِ لم/نُعزَ إلى خاملٍ من الخشبِ

فالحمد لله أنّ ذا لقبٌ/ يزيد في حسنه على النسبِ

روى ابن جنّي أنه حكى لأبي الطيب المتنبّي هذه الحكاية بمدينة السلام فتذكرّها وضحك لها-

قال الصنوبري: خرجتُ من حلب أريد سيف الدولة، فلما برزتُ من الصور [السور]، إذا أنا بفارس متلثّم قد أهوى نحوي برمح طويل، وسدّده إلى صدري، فكدتُ أطرح نفسي عن الدابّة فَرْقاً، فلما قرب مني ثنى السنان وحسر لثامه، فإذا به المتنبي، وأنشدني: "نثرنا رؤوساً بالأحيدب منهم/كما نُثِرتْ فوق العروس الدراهمُ"، ثم قال: "كيف ترى هذا القول؟ أحسنٌ هو؟" فقلت له: "ويحك قد قتلتني يا رجل!"

أيُّهما أقتل: شعر النرجسيّ الأعظم أم رمحه؟

نابغة الزهور

في طغيان الصور المرئية، وما ترسّخ من علوم "النرجسية" والعيش الموحش أمام المرآة في العصر الحالي، تُفَتقد الصور التي ترى بعين الخيال، على ما فعل القدامى عبر الكلمات ليبصروا الموجودات في غيابها. أنْ تقرأ فترى، ثم تعينك عين قلبك على التفكير بما رأيت. لكنّ الكلمات تغيّر أقنعتها أيضاً. فمثلاً، لا تزال كلمة "القلب" حية، فيما دخل "الوجدان" القواميس المدرسية، وسُخّر بالاستخدام الطبي لتصنيف بعض الاضطرابات النفسية المسماة "الوجدانية".

ما دام الشاعر في قلب المعجزة العربية التي اسمها "القرآن"، فما حاجته إلى الأساطير؟ علامَ ستبرهن الأسطورة؟ لمن؟ كتب الصنوبري في شقيقة النعمان: "حمرةٌ فوق خضرةٍ وسوادٌ/بين هذين معلَّمٌ ببياضِ". ليست شقائقه كتلك التي تنبت من دم أدونيس الصريع، كما تصوّرها بدر شاكر السياب في "تموز جيكور" حين كتب: "ناب الخنزير يشقّ يدي/ ويغوص لظاه إلى كبدي/ ودمي يتدفق ينساب/ لم يغْدُ شقائق أو قمحاً".

احتفظت شقائق الصنوبري بنضارة رسمها، حية في وجودها المباشر. قد نعود إلى ما ذممناه في الماضي، ووسمناه بالانحطاط أو بالضحالة والجمود والسهولة، في تلك الرحلة المبهجة من عفن الأعماق إلى ضياء السطح. أأعود إلى الصنوبري لندرة ما صادفتُ من وصف الطبيعة في الأدب العربي المعاصر؟ كان جادّاً في اللهو. كم من زهرة وصف: زهور الفستق وزهور الكتّان ذات الزرقة الخفيفة، وزهور الريحان البنفسجية الضئيلة، وزهر اللوز والتفّاح، والنيلوفر والخيريّ النمّام، والنسرين وشقيقة النعمان ("الشُّقر") والجلنار والسوسن والزنبق والأقحوان الأصفر (المسمّى أيضاً "البهار"، الكلمة التي تعني بالفارسية والكردية: "الربيع")، وتخصيصاً النرجس:

وكأنّها أقمارُ ليلٍ أحدقتْ/بشموسِ أفقٍ فوق غصنٍ أملسِ

وإذا نعستَ من المُدامِ رأيتَها/ترنو إليك بأعينٍ لم تنعسِ

 إنه الشاعر النرجسي بالمعنى المباشر للوصف. نرجساته، بطبيعة الحال، بعيدة عن مرايا فرويد ولاكان ولوحات عصر النهضة. لا أساطير في شعره لتذهب تداعياتنا إلى نرجس محمود درويش أو "نرسيس" بول شاوول. شاغل الصنوبري متعة العين، فنراه، عبر الاقتضاب الذي يقتضيه الشعر، دقيقاً في وصف الزهر وألوانه وحركاته، لكنه لا يقترب من الروائح. كان يعلم أنّ شعراء حسيّين مثل أبي نوّاس قد استفاضوا في خمرياتهم منشدين متعَ اللمس والشمّ والذوق. وإذا كان أبو نوّاس قد سخر من الوقوف على الأطلال في بيته المعروف:

قُلْ لمن يبكي على رسْمٍ درسْ/واقفاً ما ضرَّ لو كان جلسْ

فقد داعب الصنوبري الفكرة نفسها بطريقة أخرى:

وصف الرياض كفاني أنْ أُلمَّ على/وصف الطلول فهل في ذاك من باسِ

بخور مريم

انهمك وليام كارلوس وليامز طوال تجربته الشعرية بحيوية الوصف، المشفوعة بالانتباه الدائم إلى اللحظة الراهنة في محيطه القريب ببلدة باترسن الأميركية. في واحدة من قصائده القصيرة، وصف بضع لحظات من حياة قطّة حين التقط رشاقة قفزتها إلى سطح الخزانة لتضع قدمها في أصيص ورد فارغ.

خفيفةٌ أشعار الصنوبري الذي حبَتْهُ الطبيعة نعمةَ النسيان، فقال: 

ما أتى الناسَ مثلُ هذا العامِ عامٌ/لا ولا جاء مثلُ ذا الحينِ حينُ 

لاهياً وصف الهرّ الذي قلّده معاصرونا لقب الحيوان النرجسي:

ناصبٌ طرفه إزاء الزوايا/وإزاء السقوف والأبوابِ

يسحب الصيد في أقلّ من اللمـ/ح ولو كان صيده في السحابِ

أواخر التسعينيات، ترجمتُ قصيدة وليامز عن السيكلامان القرمزي ليقرأها نزيه أبو عفش، مربّي تلك الزهور التي تسمّى في جبال سوريا ولبنان "بخور مريم". لا أدري إنْ كان نزيه قد رسم زهرة السيكلامان الكبيرة التي حلم بها، أم تراه أرجأ اللوحة مثلما أرجأ أموراً كثيرة في الرسم والكتابة والحياة، لكنّه لم يسأم ما ردّده الأمير الصغير للطيّار إكزوبيري الذي سقطت طائرته في الصحراء: "النجوم جميلة، لأنّ فيها زهرة لا نراها". الأنوار هنّ الأزهار في لسان العرب، الزواهر هنّ النجوم.

الكاتب: جولان حاجي

هوامش

موضوعات

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع