موسيقى الرحابنة بين الضيعة والمدينة

July 28, 2025. (AFP) Modified.

أسامة كمال أبو زيد

كاتب من مصر

هكذا اختلفت مرآتان: مرآة الرحابنة الكبار التي صاغت لبنان واحدًا بصوت فيروز وألحان الوحدة الرومانسية، ومرآة زياد التي صاغت لبنان آخر، مشوشًا، صاخبًا، ممتلئًا بالسخرية واليأس والأمل المكسور.

للكاتب/ة

الأولون حلموا بدولة، أما هو فاختار الحرية الفردية، حتى ولو أثقلته. وفي هذا كان أكثر صدقًا مع لبنان الحقيقي: بلدٌ صعب، متناقض، لا يُطاق إلا بالموسيقى.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

21/10/2025

تصوير: اسماء الغول

أسامة كمال أبو زيد

كاتب من مصر

أسامة كمال أبو زيد

ربما لم تعرف أرض في المشرق عائلةً حملت وحدها تقريبًا هوية بلدٍ صوتية كما فعلت عائلة الرحبانية. من أعالي المتن خرجت أشجار أرزٍ صغيرة لتصير غابة كاملة من الأصوات والألحان، غابةً تمتد من الإذاعة إلى المسرح، من الشاشة إلى السهرة البيتية. فيروز وحدها كانت كافية لتصير نشيد وطن، لكن الأخوين عاصي ومنصور جعلا منها ومعها مشروعًا صوتيًّا يشبه دولةً وليدة، دولة تصنعها القصيدة والموال والعتابا والزجل والإنشاد الكنسي، وتصبها في قالب أوركسترالي حديث، كأن لبنان كله قد وجد في الموسيقى تعريفًا لنفسه، وفي الغناء جواز سفره.

لكن لنتذكر أن لبنان المستقل عام 1943 لم يكن قد امتلك هوية موسيقية خاصة. كان الشام كله يغني على إيقاع واحد: الموشحات الحلبية، الأدوار المصرية، الطقاطيق البيروتية، مواويل دمشق وطرابلس. بل إن بيروت نفسها لم تكن بعيدة عن القاهرة: محيي الدين بعيون تعلّم الغناء على يد موسيقي مصري هو أحمد البدوي. الأصوات كانت تتشابه، والذائقة واحدة. حتى بدايات الاستقلال جاءت تجريبية مرتبكة: "حول يا غنام"، "يا جارحة قلبي"، أغانٍ بدوية أو شعبية، يحاول أصحابها أن يصنعوا ملامح «لبنانية» مميزة، مثل سامي الصيداوي وإيليا المتني وزكي ناصيف، الذي ظلّ يسأل نفسه: ما الموسيقى اللبنانية حقًا؟ أهي غربية، أم أقرب إلى الدبكة، أم مزيج منهما؟

إعلان

ثم جاء الأخوان رحباني. ومن منتصف الخمسينيات، بدأ مشروعهما يحظى بدعم رسمي وجماهيري، لأنه بدا مشروعًا جامعًا: صهروا كل المؤثرات في بوتقة واحدة، من الموشحات والأدوار المصرية إلى الزجل الجبلي والإنشاد البيزنطي والسرياني، ومن النقد الاجتماعي على طريقة عمر الزعني إلى الجملة اللحنية الأوروبية الحديثة، ومن الفالس والتانغو إلى الرومبا والتشاتشا. كل فئة من اللبنانيين وجدت نفسها في هذا الصوت الجديد. وبدعم من شعراء كبار ـ جبران، الأخطل الصغير، ميشال طراد، سعيد عقل، طلال حيدر ـ تشكلت مدرسة شعر غنائي لبنانية، رومانسية وحديثة في آن، حلمت بريف أخضر وبحب مستحيل، فيما كانت المدينة تكبر بسرعة تحت ضغط الحداثة.

بهذا المزج، وبذلك التوزيع الأوركسترالي المصقول، لم يكن الرحابنة يقدّمون موسيقى فحسب، بل صورة للبنان ذاته: بلدٌ صغير لكنه وسيط بين الشرق والغرب، بين الأصالة والتحديث. بدا مشروعهم وكأنه «هوية رسمية» للبلد. ومع مطلع الستينيات صار صوت فيروز ـ بحنوّه وصفائه ـ مرادفًا للبنان نفسه، حتى حين اندلعت الحرب الأهلية.

إعلان

لكن مع السبعينيات، وقبل أن تنفجر الحرب، أخذ المشهد يتشقق. فقد عادت الأغنية البدوية إلى الصدارة مع سميرة توفيق، وظهر الفرانكو أراب مع سامي كلارك، وتسللت اللهجة المصرية في أغاني وليد توفيق، وتمايز الصوت الجبلي مع آلان مرعب وطوني حنا. تفتّتت الهيمنة الرحبانية، وفي هذا المناخ بالذات ولد صوت جديد من البيت نفسه: زياد.

كان زياد ابن المشروع لكنه لم يقبل وصايته. لم يكن وريثًا مطيعًا، بل معترضًا. بدل عبد الوهاب، ذهب إلى الشيخ إمام وسيد درويش. بدل الموشحات، لجأ إلى الموسيقى الكردية، وبدل الرومانسية الأوروبية، غرق في الجاز والفانك والشانسونيه. بدل لغة الضيعة الحالمة، كتب بلغة المدينة: عامية ساخرة، أحيانًا سوقية، مليئة بالخيبة والملل والروتين. لم يكتب عن الحب المستحيل، بل عن الحب المتعثر الذي يخنقه المال والوقت والزمن.

ومع ذلك، لم يكن زياد خارجًا تمامًا عن المشروع؛ لقد لحّن لفيروز من كلمات طلال حيدر وجوزيف حرب، أعاد توزيع تراث أهله في ألبوم «إلى عاصي»، ألّف أغانٍ لبنانية خالصة (مع مروان محفوظ ومنى مرعشلي)، وموسيقى فيلمونية (مثل «أنا عندي حنين»)، وأخرى مصرية الطابع («بعثتلك»)، بل وأغانٍ شعبية سرية يرددها شباب حوران وطرابلس وحمص في جلساتهم الخاصة. وعندما سمعهم يعيدون أغنيته «ما شاورت حالي» بالدبكة والمجوز، قال إنها أجمل مما كتبها هو نفسه، لأنها عادت إلى المزاج الشعبي الأول.

زياد كتب موسيقى لكل شيء: للمسرحيات والمسلسلات، للدبكة والزجل والعتابا، للتراتيل الكنسية، للإذاعة والتلفزيون، للجاز والديسكو والبوسا نوفا. أعاد التوزيع عشرات المرات، وكأنه يريد أن يقول: لا يوجد وجه نهائي للجملة الموسيقية، كل توزيع احتمال جديد، والهوية ليست قالبًا ثابتًا بل حركة مستمرة.

ومع هذا الاتساع، طرح زياد سؤالاً جوهريًّا: ما الموسيقى اللبنانية؟ لم يكن له خطاب نظري مثل أهله، ولا دعم من دولة تبحث عن رمز وحدوي. مشروعه لم يزعم أنه جامع، بل على العكس: أعلن فرديته، ورفض أن يغني لفلسطين أو لعواصم العرب، مكتفيًا ببيروت وضجيجها. الهوية عنده لم تكن «وحدة» بل «تشظي»، لم تكن «ريفًا حلميًا» بل «مدينة متعبة». ليست صورة جماعية بل ملامح فردية.

هكذا اختلفت مرآتان: مرآة الرحابنة الكبار التي صاغت لبنان واحدًا بصوت فيروز وألحان الوحدة الرومانسية، ومرآة زياد التي صاغت لبنان آخر، مشوشًا، صاخبًا، ممتلئًا بالسخرية واليأس والأمل المكسور. الأولون حلموا بدولة، أما هو فاختار الحرية الفردية، حتى ولو أثقلته. وفي هذا كان أكثر صدقًا مع لبنان الحقيقي: بلدٌ صعب، متناقض، لا يُطاق إلا بالموسيقى.

هوامش

موضوعات

للكاتب/ة

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع