كتب محمود درويش في ديوانه «لا تعتذر عما فعلت»، 2003، غير قصيدة عن القدس أتيت عليها في دراستي للديوان التي نشرتها في مجلة «الأسوار» في عكا في العام 2004.
إن قصيدة “في القدس”مرتبطة بالقصيدة التي تليها “بغيابها كونت صورتها“.
مرة عاشرة أشير إلى الناقد الفرنسي ميخائيل ريفاتيري الذي درس قصيدتين للشاعر الفرنسي بودلير ولاحظ أنهما تعكسان البنية نفسها، وإلى ما قام به الناقد العربي كمال أبو ديب في كتابه «جدلية الخفاء والتجلي» حيث درس ثلاث قصائد لأبي نواس ولاحظ أيضاً أنها تعكس البنية نفسها.
كلا الناقدين يتكئ على مقولة بنيوية هي “الصلة بين” -الأصح هي أحد تعريفات البنيوية- فالبنيويون يربطون بين الأجزاء وينظرون إلى التشابه والتوازي بين النصوص وإلى الأنساق الثابتة.
كما لو أن الشعراء كتبوا قصيدتين؛ قصيدة حب وقصيدة حرب. هذا ما تقوله البنية العميقة وهي خلاف ما تقوله الأشياء في الظاهر. ما صلة هذا كله بمحمود درويش وقصيدة القدس لديه؟
الجدل حول قصيدة القدس في شعر محمود درويش دار بيني وبين الشاعر فاروق مواسي في تسعينيات القرن العشرين وعلى إثره كتبت دراسة مكثفة هي “إشكالية قصيدة القدس“ ونشرتها في مجلة «كنعان» في صيف 1998.
نفى مواسي أن تكون قصيدة محمود درويش “تحت الشبابيك العتيقة” قصيدة قدس وأنا درستها على أنها قصيدة قدس. وأنا أكتب “إشكالية قصيدة القدس” غاب عن ذهني رسائل محمود إلى سميح القاسم. في رسالة “هو.. أو هي” (الرسائل ط2 1990. ص 99/ حيفا) يأتي درويش على قراءته في مدينة روتردام قصائد عن القدس تمثل الشعر الفلسطيني، في الوقت الذي قرأت فيه شاعرة إسرائيلية هي شيرلي هوفمان قصائد عبرية عن القدس أيضاً.
يكتب درويش في رسالته “قرأت شعراً عن أزقة القدس، وهي قرأت شعراً عن حجارة القدس“. هذا يعني أن الشاعر خص القدس بقصائد، وليس من قصيدة في أشعاره حتى 1986 أبرز من “تحت الشبابيك العتيقة“.
في كتابه «يوميات الحزن العادي»، 1973، هناك مقال نثري عنوانه “تقاسيم على سورة القدس“ يظهر فيه تصوره للمدينة. كان الشاعر زار القدس بعد حزيران 67 حين كان ماركسياً، ولذا قدّم تصوره الماركسي.
لم ينظر إلى المدينة من منظور ديني. نظر إليها من منظور ماركسي فبين ما تعنيه للنظام العربي ولبرجوازية القدس، وبين أيضاً ما تعنيه لبائع الصحف الفقير.
“اليوم تبكون على القدس والقدس لا تبكي على أحد“
“والقدس عاصمة الخيام البعيدة وعاصمة الأموال البعيدة والشهداء البعيدين“
“سأستبدل القدس بالجنة“
“من علّم القدس هذا الجمال. من علّم القدس هذه السخرية؟”
“من يشتري صدر تاريخي وظهر تاريخي وعورة تاريخي بلحظة انتصار واحدة؟“
والقدس كما يقول بائع الصحف: “لم تكن القدس لي في يوم من الأيام… أنا بائع الصحف في كل زمان ومكان” و”أصحاب القدس يبيعونني ويستقبلون الفاتحين“.
كل ما سبق يقول إن الشاعر كتب قصائد عن القدس قبل رحيله عن فلسطين في 1970، وأن ما كتبه عن المدينة بعد خروجه ليس بعيداً عما كتبه بعد خروجه وبدا واضحاً في ديوان «أحبك.. أو لا أحبك»، 1971. والسؤال الآن هو: هل تعد قصيدتا “في القدس” و”بغيابها كوّنت صورتها“، 2003، قصيدتين منفصلتين عمّا كتبه الشاعر قبل 1973؟
تتطلب الإجابة عن السؤال قراءة دقيقة لكل ما كتبه الشاعر وذكر فيه القدس؛ شعراً ونثراً. هنا يمكن العودة ثانية إلى تعريفات كلمة بنية وموقف البنيويين من علاقة النصوص ببعضها. في “في القدس“، 2003، سطر شعري لافت عن الشاعر والمجندة: “هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟“
سؤال المجندة يعيدنا إلى “تقاسيم على سورة القدس“، 1973، الذي يسترجع زيارة الشاعر للمدينة بعد حرب حزيران، 1967. في «يوميات الحزن العادي» في “تقاسيم على سورة القدس” يكتب درويش: “أوقفتني جندية صغيرة وسألتني عن قنبلة وصلاتي. حسبتني الجندية شاعراً فأخلت سبيلي وتساءلت: لماذا جئت إلى القدس إذن؟” وسيجيبها الشاعر: “أنا لا أحارب ولا أصلي” .إذا لم تحارب وتصلي فلماذا جئت إلى القدس؟“ وفي “بغيابها كوّنت صورتها” يأتي على تلال سبعة وكان كتب عن هذا في ”تقاسيم…“: “لوحة من الصخر معلقة على تلال سبعة”.
هل كتب درويش إذن قبل 1971 قصائد عن القدس؟ وهل ما كتبه في «لا تعتذر عما فعل»، 2003، منقطع الصلة عما كتبه قبل 1973؟ لن تنتهي قراءاتي لأشعار الشاعر. حتى وأنا أموت سيظل في نفسي شيء من أشعار الشاعر.