في أحد أيام 1994، فتحت عيني على رحيل قوات الاحتلال الإسرائيلي، حيث أخبرتني أمي أن “الجيش” انسحب وأبو عمار عاد لفلسطين. كان ” أبو عمار” بذاته، مؤسسة وليس شخصًا، وكانت عودة أبي عمار تعني عودة جيش التحرير الفلسطيني.
فتحت باب البيت وخرجت للشارع، فرأيت الناس يهرولون غربًا، باحثين عن نظرة للقوات الفلسطينية. كان ذلك مشهدًا لا يزال يرن في مخيلتي حيث الآلاف من الناس يحيطون بمقر الجيش الإسرائيلي (والذي أصبح لاحقًا مركز شرطة الشجاعية) هاتفين لفلسطين ولأبي عمار.
من ذلك اليوم حتى بداية الانتفاضة الثانية، كنت أشعر أننا جيل الأمل والجيل الذي من الممكن أن يحمل الراية ويشهد على حرية الإنسان الفلسطيني وأرضه. بعد أكثر من عشرين عامًا، أفكر، الآن، ماذا جرى؟ عشرات الأسئلة تطرح نفسها بحق وبدون حق، في موعدها وفي غير موعدها ولكن هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات.
ربما يكون لي الحق أن أطرح السؤال باسم جيلي الذي كان يومًا جيل الأمل وأصبح جيل الخلاص الفردي والجيل المسحوق. من سخرية القدر أنني أكتب وقد أرسل الأمن الداخلي لحركة حماس في غزة استدعاءً لبعض الأصدقاء بسبب كلمات يكتبونها على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى بعد أقل من مئة كيلومتر، سيتناول طعام العشاء اليوم وزير الخارجية الامريكية “بومبيو” مع قيادات إسرائيلية لإعطائهم الضوء الأخضر لضم الضفة الغربية لدولة الاحتلال الإسرائيلي. نحن هنا أمام مأزقين، مأزق التساؤلات التي نبحث لها عن إجابات، ومأزق التصدي للإبادة السياسية والاجتماعية والوجودية في فلسطين وخارجها.
أصابتنا الخيبة وما تزال تصيبنا الخيبة يومًا بعد يوم، حيث تم تجيير كل التضحيات الفلسطينية منذ نهاية الحكم العثماني حتى الآن نحو استراتيجيات طالما طرحنا، كأجيال جديدة وقديمة، جدواها. بعد أكثر من عشرين عامًا، ندرك نحن الجيل الجديد أن القيادة الفلسطينية وقعت في فخ، وأن ما جرى من تسليم لقطاع غزة وبعض قطع الأرض في الضفة الغربية هي عبارة عن خطة استراتيجية إسرائيلية لتحويل التضحيات الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية وحركات المقاومة كحماس إلى حماة للأمن الإسرائيلي وأن الدولة الفلسطينية المستقلة ما هي إلا سراب وأن المفاوضات ما هي إلا ضرب من الخيال. في خطابه في العشرين من رمضان، قال الرئيس عباس مهددًا، إنه سيلغي كافة الاتفاقيات مع إسرائيل إن أقدمت على مخططات ضم الضفة الغربية. ربما يكون هذا التهديد العاشر في أقل من سنتين بنفس الصيغة ونفس اللهجة. ومن هنا يحق لنا طرح السؤال، لماذا لم تراجع القيادة الفلسطينية المتمثلة في منظمة التحرير الفلسطينية وقياداتها مسار المفاوضات بعد فشل تلو الفشل؟ من هو المسؤول عن عدم البحث عن مسارات أخرى غير مسار سراب المفاوضات؟
في العام 2018 اعترفت الإدارة الأمريكية بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، فهددت القيادة الفلسطينية باتخاذ إجراءات مضادة منها وقف التنسيق الأمني، وأعلنت صفقة القرن ولم تحرك القيادة ساكنًا، بل ومنعت التظاهرات ضدها. وبعدها أعلنت إسرائيل خطوات أحادية تلاها إعلان قطبي السياسية الإسرائيلية (جانتس ونتنياهو) استعدادهم وخطتهم لضم الضفة الغربية، لم تفعل السلطة الفلسطينية ولا القيادة الفلسطينية أي فعل ولم تحرك ساكنًا سوى التهديد باتخاذ إجراءات غير مسبوقة وتصريحات من هنا وهناك بإلغاء التزامات السلطة الفلسطينية باتفاقات السلام الموقعة مع إسرائيل. لربما بعض القيادات لا تعرف أن الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال وليس بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”، وأن السلطة هي ذراع تنفيذي لمنظمة التحرير الفلسطينية، كان يجب أن تنتهي في العام ، 1999 لتتحول إلى دولة فلسطينية. ومن هنا يحق لنا طرح السؤال، من يمثل من؟ السلطة الفلسطينية تمثل منظمة التحرير أم العكس؟ من الذي يمثل الشعب الفلسطيني؟
في بداية عام 2019 صدر تقرير لمنظمة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) ينتقد فيه ممارسات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحركة حماس في قطاع غزة والتي ترتقي لممارسات أنظمة ديكتاتورية بوليسية. ومنذ بداية الانقسام تمارس السلطتان سياسات قمعية ضد الشباب أدت لزيادة البطالة والمحاباة، وأنشأت حماس وفتح هياكل مؤسسات دولة بدون دولة فعلية ولكن في محاولة لشراء المناصرين وتضخيم الفعل وتصويره كإنجازات وطنية. وفي ظل جائحة كورونا تصدر مشاريع قرارات نافذه تؤسس لسلطة شخص واحد وتحول النظامية السياسي الفلسطيني الى نظام رئاسي بإنشاء ديوان رئاسة له من الصلاحيات ما يتعدى على صلاحيات الوزراء وتسلب أموال المتقاعدين حقوقهم لمجموعة متنفذه من الوزراء بالإضافة إلى قوانين أخرى غير قانونية تُقدم خارج إطار الشرعية التي تنص عليها القوانين الأساسية.
إن منظمة التحرير الفلسطينية وعلى مر خمسة وعشرين عامًا من الزمن، راكمت رأس مال رمزي بين الشعب الفلسطيني والشعوب العربية ليس بقليل، وعادت إلى غزة وبعض أراض من الضفة الفلسطينية حيث انخرطت قيادات منظمة التحرير في خطاب سياسي مفاوضاتي أدى لخلق طبقة وسطى غنية حيث تزاوج المال مع المنصب السياسي، فخسرت منظمة التحرير رأس المال الرمزي والقدرة على المضي في النضال لتحقيق الأهداف الوطنية.
وللحفاظ على المناصب والنفوذ والامتيازات لبعض الطبقات والأفراد، كان لا بد من تبنى خطاب سياسي محابٍ للاحتلال من جهة وسلطوي يفرض معايير قاسية للتحكم في أصوات المعارضة والمعارضين والشباب من جهة أخرى لاستدامة تفرّد البعض بمقاليد الحكم والنفوذ والامتيازات على حساب قضايا وطنية. وهنا نطرح السؤال، من هو المسؤول عن ذلك؟ وكيف وصلنا لهذا الحد وما هي الاستراتيجية الفلسطينية للتخلص من النظام الريعي والسلطوي الذي أدى لحالة استغراب وطنية غير مسبوقة لدى الشباب الفلسطيني في الداخل والخارج؟
هذه التساؤلات ليست تساؤلات محقة فقط، بل هي تساؤلات عن فلسطين اليوم والفلسطينيين اليوم وعن مستقبل الاثنين معًا. نحن الفلسطينيين لا نعيش انسدادًا سياسيًا سببه الانقسام الفلسطيني فقط، بل نحن نواجه تحديات كبيرة منا ما سيمر على أشلائنا وتعمل على ذلك إسرائيل كدولة أبارتهايد وأخرى على كرامتنا ومستقبلنا وتعمل على ذلك سلطتي الانقسام في الضفة الغربية وقطاع غزة. على القيادة الفلسطينية بما فيهم حركة حماس والجهاد الإسلامي أن تجيب على الأسئلة التي لم نجد لها إجابات حتى الآن والتي لا يمكن تبرير الخطابات والسياسات الجديدة المصاحبة للخطاب الجديد (للجميع) دون توضيح وإبداء الأسباب.