الحكاية الثانية
من جهة مؤيدي النظام فقد كان الظن نفسه موجوداً بحسب ما يرونه هم بأن على الفلسطينيين أن يردوا جميل النظام لمعاملته الحسنة لهم، وعليهم أن يكونوا مستعدين للموت في سبيله، وهذا أقل ما يمكنهم (أضعف الإيمان) أسوة بالسوريين.
كانوا ينطلقون من فكرة شائعة تقول: إن نظام الأسدين (الأب والابن) أعطى الفلسطينيين الامتيازات التي يتمتعون بها، وعاملهم كالسوريين بل وأفضل من السوريين في كثير من الحالات، ولذلك فالسلوك الطبيعي للفلسطيني هو أن يكون مدافعاً شرساً عن ولي نعمته، وهو بذلك يدافع عن مصلحته!! (هذا عدا عن مقولة الممانعة وقلعة الصمود في وجه إسرائيل التي سنأتي على مناقشتها لاحقاً).
النظام نفسه كان مقتنعاً بهذه الفكرة لأنه مقتنع بأنه هو الذي يعطي ويمنع، ويحيي ويميت، وإذا كان، في زاوية ما، نظر إلى السوري المتظاهر الذي نزل إلى الشارع على أنه متمرد ولا حق له في مجرد الاعتراض على رئيس بلدية فاسد أو محافظ مقرب من النظام، فكيف بتمرده على رأس النظام كله؟! الحجة التي تشدق بها هؤلاء فكرة ساذجة وغبية وهي أن النظام السوري الأسدي حقق للمواطنين أمناً واستقراراً لا يمكن لولاه أن يعثروا عليه في أي مكان في سورية ولا أي مكان في العالم. وتلك النكتة الغبية التي اشتهرت عن أحد المواطنين من مؤيدي النظام على شاشة قناة الدنيا الفضائية الموالية للنظام بأن أخته كانت تعود إلى البيت في الساعة الثالثة صباحاً ولا يتعرض لها أحد! وكأن شوارع بقية دول العالم ساحات حرب مفتوحة للمجرمين. وفي الحقيقة كان الحديث عن حجم الجرائم المرتكبة في شوارع المدن الكبرى في الغرب، كان يقال مثلاً: شو مفكر حالك بشيكاغو؟! للدلالة على أن الجريمة هناك شائعة، هذا حديثٌ كان شائعاً في الشارع السوري، والظن بأن سورية هي المكان الأكثر أمناً في العالم كان اعتقاداً راسخاً، وعلى افتراض ذلك (وهو افتراض جدلي لا أكثر) كنت أتساءل دائماً:
ما الذي يمنع أن يتزاوج الأمن مع الحرية والكرامة؟!
و لماذا تكون الكرامة والحرية ثمناً للأمن؟!
مَن الغبي الذي قال: إن الأمن يستلزم هذا الحد من القمع والقهر؟! لماذا على الشعب السوري أن يدفع كل هذا الثمن من حياته وكرامته وإنسانيته مقابل مقولة زائفة لا قيمة لها واقعياً؟!
هذا القهر والاضطهاد لم يكن حكراً على طائفة واحدة، فكل الشعب السوري بكافة طوائفه كان واقعاً تحت خط القهر.. وهذا ما سيعزف النظام على أوتاره عند اندلاع الثورة الشعبية السورية، وستعمل شياطينه لتمزيق هذه الروح التي انتشرت في سورية شاملة كل طوائف الشعب.
لم يستطع مؤيدو النظام أن يدركوا أن الشعب السوري أدرك أن النظام نفسه هو المجرم وهو صاحب الحق الحصري في الإجرام، وأن هذا الأمن المزعوم ليس إلا كذبة لم يصدقها أحد على الإطلاق، ولكن على الجميع أن يصدقوها ويسبِّحوا بحمد النظام الحارس الأمين، ولا خيار لهم في ذلك! الجميع كانوا يعرفون أن أي رجل أمن يستطيع أن يوقف حارة بأكملها ويصفع رجالها واحداً واحداً لمجرد أنه (يقاقي: أي يتكلم بلهجة العلويين)، مجرد استخدام هذه اللغة ترعب الناس وتدفعهم إلى السكوت والرضوخ، وصل الأمر إلى أبعد من ذلك فقد كان رجل الأمن يتحرش بأية فتاة وهي برفقة أخيها أو حبيبها أو أبيها، والويل له إذا اعترض، فليس هناك أسهل من اتهامه بأية تهمة كافية لتدميره وتدمير أسرته كاملة، ولكل سوري قصة من هذا النوع مع رجال المخابرات المنتشرين كالوباء في هواء سورية، وكل سوري كان يحلم بهواء نقي يتنفسه أولاده كغيره من شعوب الأرض.
فلماذا لا تكون له ثورته أسوة بثورات الربيع العربي التي كان يشاهدها السوري على الفضائيات ويتحرَّق لتكون له ثورته الخاصة وهو أولى بها؟!
إذاً هذا الأمن الزائف جاء من حجم الرعب الذي زرعه نظام الأسدين، وهو مختلف جداً عن السلام الاجتماعي الذي يأتي من التعايش والرغبة بالعيش المشترك. ولعل هذا ما يفسر حجم العنف الذي رأيناه منذ اليوم الأول في الثورة السورية، ذلك أن النظام رأى هذا القطيع من الغنم (في رأيه) وقد بدأ يثغو خارجاً عن رغبة الراعي، وهو لا يمتلك إلا العصا، فهو أساساً جاء بالعصا وحكم بها.
أما بالنسبة للفلسطيني المعارض فإن نظرة النظام إليه في حدها الأدنى تراه خائناً ويجب الانتقام منه أشد انتقام بل والتخلص منه نهائياً. إذا فصلنا هذا عن الجغرافية السياسية في المنطقة، أعني مصلحة (إسرائيل) في إبعاد الفلسطينيين عن حدودها، فإن هذه القناعة هي التي كانت تفسر شراسة النظام في التعامل مع الفلسطيني المنحاز للثورة والتي تحولت في مجرى الأحداث إلى شراسة ضد كل فلسطيني، ومن جهة أخرى تفسر عنف الشبيح الفلسطيني الذي يريد أن يثبت تميزه وولاءه لولي نعمته.
وتوضيحاً لهذا الأمر نعود خطفاً إلى سورية وتحديداً إلى تاريخ 10/7/1956 فقد صدر هذا العام القانون رقم (260) من مجلس الشعب السوري آنذاك، و قد تضمن القانون نصاً واضحاً يُعامَل من خلاله الفلسطينيون المقيمون في أراضي الجمهورية العربية السورية كالسوريين أصلاً في جميع ما نصت عليه القوانين والأنظمة المتعلقة بحقوق التوظيف والعمل والتجارة وخدمة العلم، وذلك مع احتفاظهم بجنسيتهم الأصلية.
وبحسب هذا القانون عومل الفلسطينيون كالسوريين تماماً، باستثناء حق الترشح للانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، وصارت الكتب الرسمية الصادرة عن مؤسسات الدولة تقول: السوريون ومن في حكمهم، أي الفلسطينيين.
كان هذا في عهد الرئيس السوري المنتخب شكري القوتلي، وصادراً عن مجلس شعب منتخب أيضاً، فهو لذلك لم يكن -كما يُشاع- إنجازاً من إنجازات الحركة الانقلابية لحافظ الأسد، ولم يكن حتى نتيجة نضال حزب البعث العربي الاشتراكي.
بدأت هذه الحقوق بالانحسار منذ انقلاب الأسد الأب في عام 1973 فقام بتخليص الجيش مثلاً من الضباط الفلسطينيين، ومنع الفلسطيني من أن يصل إلى رتبة مدير عام بعيداً عن تفاصيل أخرى ليس هنا مكان نقاشها الآن.
من هنا أدركنا انتماءنا للشعب السوري وأدركنا أن الذي احتضننا منذ العام 1948 هو الشعب السوري الذي عشنا في كنفه، تصاهرنا معه وانصهرنا فيه حتى لم تعد قادراً على التمييز بين فلسطيني وسوري، ولعلي أحب أن أتذكر أنني كنت أحب مجالسة جارنا الحمصي، من القصير تحديداً، أكثر من مجالسة جارنا الطيراوي
عاش الفلسطينيُّون في مخيماتهم كأغلبية ولكنهم لم ينفصلوا عن وسطهم العام الذي هو سوري، وهذا ولَّد نوعاً من ازدواجية الجنسية أو ازدواجية الهوية فهو سوري بمقدار ما هو فلسطيني، وفلسطيني بمقدار ما هو سوري، لم تطغَ هوية على الأخرى ولم تلغِها.
نعرف جميعاً اتفاقية التقاسم الاستعماري المشهورة بسايكس بيكو (1916) بين فرنسا وبريطانيا، ولو افترضنا أن التقسيم كان بطريقة أخرى لكانت مدينة صفد الفلسطينية من ضمن سورية وربما كانت دير الزور من ضمن العراق وهكذا.
المسافة بين قريتي القيطية الواقعة قرب مدينة صفد شمال فلسطين ومدينة دمشق أقل بكثير من المسافة بين مدينة دمشق وحمص السوريتين، أما عن التداخل الاجتماعي فهو أبعد من ذلك بكثير، فالكثير من العائلات الشامية أصلها من فلسطين، وعائلتي أنا شخصياً مقسومة بين فلسطين ومدينتَي جباب وغباغب الدرعاويتين ومدينة المليحة في غوطة دمشق الشرقية، وعائلة خرمندي كبيرة ومعروفة في درعا.. عداك عن تطابق اللهجة والعادات والتقاليد واللباس وهذا معروف.
بعيداً عن الجغرافيا والقوانين والتشريعات كنا خيطاً حقيقياً جامعاً النسيج الوطني السوري، هذه السجادة الغنية بالألوان، وكان علينا أن نكون لوناً حقيقياً.
من هنا أدركنا انتماءنا للشعب السوري وأدركنا أن الذي احتضننا منذ العام 1948 هو الشعب السوري الذي عشنا في كنفه، تصاهرنا معه وانصهرنا فيه حتى لم تعد قادراً على التمييز بين فلسطيني وسوري، ولعلي أحب أن أتذكر أنني كنت أحب مجالسة جارنا الحمصي، من القصير تحديداً، أكثر من مجالسة جارنا الطيراوي، وأفضِّل الشراء من دكان أبو علي، وهو من جبلة، على أن أشتري من دكان أبو محمد أبو وجه ناشف، والأهم من كل ذلك أن عدد الفتيات اللائي أحببتهن من السوريات كان أكبر بكثير من الفلسطينيات.
كيف نتنكّر لكل هؤلاء؟!