أخطأ كثيراً من أطلق هذه التسمية على ذلك المخيم الذي كان يغفو على ضفة نهر احتار في مشيته، وكأنه يريد أن يمر في كل الأمكنة في الوقت ذاته، أو أنه يمشي الخيلاء متباهياً بالخضرة التي ينثرها في كل ناحية وصوب، فُسمِّي بالنهر الأعوج، ذلك النهر الذي يرافق المخيم من أوله إلى آخره كان خافقاً بالحياة ذات يوم، يروي حكايات المخيم منذ النكبة الأولى، وينبئ بنكبة أقسى، كان شاهداً على كل تفصيل من تفاصيل حياة الناس، ولم يصدق أهله أنه صار مجرد غبار بعد أن امتص أصحاب المزارع الوطنية ماءه وتركوه جثة هامدة لا سبيل لإحيائها، كيف يجف نهر؟! ومن يصدق؟!
لم يكتف هؤلاء بامتصاص دم النهر، بل أرادوا أن يمحوا كل أثر للحياة من حوله، هكذا هم هؤلاء الغربان منذ أن سطوا على كل معاني الحياة، واستمر زحفهم كالجراد حين لم يبق للنهر أثر ليقضوا على كل أثر لحياة رافقت هذا النهر.
النساء كنَّ على موعد كل صباح، يجتمعن على ضفة النهر ليغسلن ثياب الفقر والقهر بعد نكبة أصابت كل خلية في الفلسطيني ولكنها لم تستطع أن تصب إرادته المتمردة للحياة، كن يغسلن الثياب و ينهرن أبناءهن لئلا يتجرؤوا على هدير النهر، ويروين لهم قصص المتهورين الذين جربوا أن يتحدوا النهر فكان مصيرهم ما كان، ويتبادلن قصص العشيرة وأيام البلاد، ويصغين إلى أحاديث النهر عن قصص الغرام لعشاق المخيم الذين تلاقوا على الضفاف ذاتها قبل مساء، ويهللن للضيوف، وينجبن أنبل الرجال وأخوات الرجال، وأخيراً يغنين أغاني العشق الأول الذي ظل هناك في الناصرة ومرج ابن عامر دون حارس وما حملن منه إلا طِيب الذكريات:
(قطعن النصراويات مرج بن عامر ولما قطعن المرج فاضن بالبكا
معهن حبالى ومعهن مراضع ومعهن بنات البكر ما ينسخا بيهن
وما ينسخا إلا ببنات النذايل واحنا الأصايل بنات الأصايل
وإحنا اللي ننزل عليهم كيف النزايل وإحنا اللي لا نقال عنا ولا جرى
ولا تعيرت شبابنا في المجالس)
أما الرجال فلا راحة من بحث عن رزقهم ورزق عيالهم، لم يكن بإمكانك إذا زرت أحد أصدقائك في ذلك المخيم أن تنجو من ثالث غداء، عليك أن تهيِّئ نفسك أنك ستتناول طعام الغداء ثلاث مرات، وإذا استطعت أن تفلت قبل غروب الشمس تنجو من إحراجِ عند مَنْ من أصدقائك ستنام، لا خيار لديك.
ذهب النهر لتلك المزارع المنهوبة من دم الشعب على امتداد النهر، ومن يجفف نهراً ليملأ مسبحه لا يمكن أن يعرف معنى للحياة ولا يمكن أن يحترمها. في ذلك المخيم رجال ونساء وأطفال يريدون أن يرووا قصة المجزرة إذا سُمِح لهم بالحياة.
مخيم خان الشيح هو مخيم الأبواب المفتوحة، لا تغلق في وجه ضيف، ولا ترد ملهوفاً. هذا المخيم يعيش أهله حياة طبيعية، متحابين متفاخرين على بعضهم البعض، مختصمين أحياناً، ولكنهم لم يفكروا يوماً أنهم سيُشتَّتُون في كلِّ ناحية واتجاه، لم يخطر في بالهم يوماً أن الطائرات الحربية ستهدم كل ما بنوه بعرق جبينهم، لم يصدقوا أن الطائرات الوطنية والمستوردة لن تتركه حتى تحيله إلى ركام لا أثر للحياة فيه، تماماً كما فعل أعداء الحياة بالنهر.
نعرف أن الحضارات كانت تموت عندما تجف الأنهار، ولكن ليس في القرن الحادي والعشرين. أخطأ كثيراً من أطلق هذه التسمية على المخيم، ربما لو كنت أنا لأسميته ( مخيم خان النشامى)، فمنذ أن وطئت أقدام أهله فيه لم يرَ أحد الشيح.
ذهب النهر لتلك المزارع المنهوبة من دم الشعب على امتداد النهر، ومن يجفف نهراً ليملأ مسبحه لا يمكن أن يعرف معنى للحياة ولا يمكن أن يحترمها. في ذلك المخيم رجال ونساء وأطفال يريدون أن يرووا قصة المجزرة إذا سُمِح لهم بالحياة.