مثلما يمعن نص في الخفاء ويخفي آلية اشتغاله أمام القراءة الأولى، تقف بعض الأفلام السينمائية شبه مستعصية أمام محاولات حل نسيجها، فتبدو كأنها تطالب بأن تُشاهد أكثر من مرة حتى تقدم نفسها بوضوح أكثر أمام هذه المحاولات. كذلك هو فيلم “حصان تورين” للمخرج المجري بيلا تار الذي أنهى به مسيرته في الإخراج السينمائي.
يبدأ الفيلم بصوت راوٍ يخبرنا عن حادثة مدينة تورين عام 1889، حيث يرى الفيلسوف فريدريك نيتشه سائق مركبة يجلد حصانه بقوة، فيقوم بوضع حد للمشهد، ويحيط برقبة الحصان بكلتي يديه ويأخذ في البكاء، فيأخذه جاره إلى منزله ليستلقي لمدة يومين على الأريكة صامتاً وهادئاً، حتى تمتم بكلماته الأخيرة “أمي، أنا أحمق” وعاش بعدها عشر سنوات مجنوناً في رعاية أمه وأخته، لينفتح المشهد بعدها على حصان هرم وهو يجر عربة يقودها رجل متوجه إلى منزله الريفي الذي يعيش فيه مع ابنته فقط.
يستعرض الفيلم باختصار الحياة اليومية لسائق العربة وابنته أثناء عاصفة استمرت لستة أيام مرت على منطقتهم، وطالت العالم بأسره ربما، ودمرت موارد الحياة في طريقها. تبدو أيام العاصفة الستة كأنها مسيرة للأفول، تحيل إلى تاريخ الخسارات التي مني بها الإنسان وتدعوه للتفكير فيها.
ملامح الخطاب النيتشوي في الفيلم تظهر بوضوح أكثر، عندما يأتي الجار في يوم العاصفة الثاني ليشتري الخمر ويحدِّث سائق العربة عن “موت الإله” و”العود الأبدي” قبل أن يرحل تاركاً مفاهيم نيتشه هذه موضع تساؤل وتأمّل لدى المتلقي.
في اليوم الثاني من العاصفة يرفض الحصان المشي بعد إخراجه من الإسطبل، وفي اليوم الثالث يتوقف عن الأكل، لنصل إلى اليوم الرابع إذ تجف مياه البئر (وهو مصدر المياه الوحيد المتبقي) فيضطر الرجل وابنته إلى الرحيل عن المنزل مصطحبين الحصان معهم، لكنهم سيعودون بعد المشي لمدة قصيرة، إذ لم تُبقِ العاصفة مكاناً آمناً للذهاب إليه. وينتهي الوقود من المنزل في اليوم الخامس. يُحرم الرجل وابنته من موقد النار ومن إضاءة الفوانيس، ليصلا في اليوم السادس ــ دون أدنى مقومات الحياة ــ إلى حالة قصوى من اللاجدوى، مضطرين إلى أكل البطاطا ككل أيام العاصفة ولكنها نيئةً هذه المرة.
في بداية سفْر التكوين في الكتاب المقدس عملية بناء، ينهي بها الله خلق الكون والإنسان بستة أيام ليستريح في اليوم السابع، أما في الفيلم فنشهد عملية تدمير لا تنتهي باليوم السادس، ولا يستريح أثناءها الإنسان، بل تقوم بتدميره. لا وجود هنا لليوم السابع، ولن يبقى إلا الصمت أمام الأب وابنته كحيلة أخيرة أمام ثقل الوجود وثقل النفس البشرية. الصمت هنا عنوان لهذا السفر السينمائي المصحوب بموسيقا جنائزية، وكونه سفر للصمت، فهو سفر للأحداث العظام، فـ “الأحداث العظام ليست لحظاتنا الأكثر صخباً، بل تلك الأكثر سكوناً” على حد تعبير “نيتشه”.
في اليوم الثالث من العاصفة تأتي جماعة من الغجر في عربة يجرها حصانان، يشربون من البئر ويعطون الفتاة قبل أن تطردهم مع أبيها، كتاباً بعنوان “نقيض المسيح” ولكنه ليس كتاب نيتشه الذي يحمل نفس العنوان، هذا الكتاب يحملُ نفساً تبشيرياً كما يبدو عليه من قراءة الفتاة لبدايته، يتكلم عن وعد الله بالخلاص بعد أن تم تدنيس الأماكن المقدسة، بينما الفيلم بكليته يعمل على تقويض المقدس، فخطابه منذ البداية يشير إلى مكان يقف على الدوام موقفاً مناهضاً لأي منظور ميتافيزيقي، هذا المكان هو فلسفة نيتشه.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى نصين من نصوص نيتشه، الأول كتابه “نقيض المسيح” الذي أضاف إليه ملحقاً صغيراً جعله بستة بنود وعنونه (قانون ضد المسيحية/حرب بلا هوادة على الرذيلة)، والثاني هو فصل “كيف تحول العالم الحقيقي بالنهاية إلى خرافة/تاريخ خطأ” من كتابه “غسق الأوثان” والذي جعله أيضا بستة بنود، تحل في آخر بنوده ساعة الزوال الزرادشتي. ملامح الخطاب النيتشوي في الفيلم تظهر بوضوح أكثر، عندما يأتي الجار في يوم العاصفة الثاني ليشتري الخمر ويحدِّث سائق العربة عن “موت الإله” و”العود الأبدي” قبل أن يرحل تاركاً مفاهيم نيتشه هذه موضع تساؤل وتأمّل لدى المتلقي.
لا شك في أن “حصان تورين” المصوَّر بالأبيض والأسود، لا يقبل حكماً حاسماً، حكماً من قبيل “متشائم” أو “متفائل” فنحن هنا أمام مغامرة حسية فكرية لا ينتهي أثرها بانتهاء الفيلم، بل ترافقنا في لحظات صمتنا لمدة طويلة وتقبل التأويل إلى ما لا نهاية. إنه نشيد مدائحي للحياة بالرغم من قسوته وثقله على النفس، إنه نقيض للسينما المليئة بالثرثرة.