بعد إعلان مكتب النائب العام للسلطة الفلسطينية في رام الله مصادرة رواية “جريمة في رام الله” لعباد يحيى، واستدعاء كل من الموزع والناشر والكاتب للتحقيق معهم، على خلفية اعتبار الرواية “مخلة بالحياء والأخلاق العامة” يقرع جرس الخطر مجدداً، فإعلان كهذا يثير مخاوف وقلق شرائح واسعة من أدباء ومفكرين وسياسيين وأبناء الشعب الفلسطيني، لتعديه الواضح والسافر على حرية الرأي والتعبير المكفولة بموجب القانون. وقد جاء القرار بناء على تهم فضفاضة لا يمكن ضبط حدود أو أطر لها، فهي تهم تقديرية عائدة إلى المزاج السياسي أو الاجتماعي لصاحب القرار، فضلاً عن كون القرار يعكس تطاول الدوائر القانونية والأمنية على حقوق الكتابة والنشر على اعتبار أنها المخولة بتحديد أطرها، وبهذا تتحول الأجهزة الأمنية من حفظ الأمن العام وحماية المواطنين -وهو الدور الذي لا تقوم به خصوصاً في مواجهة قوات الاحتلال- إلى محاصرة الإبداع والخيال الفني والأدبي، فضلاً عن تحكمها بشروط النشر.
ومما يثير المزيد من السخط والغضب هو تحييد كل من الدوائر الثقافية والتعليمية عن القرار، ممثلة بوزارة الثقافة ووزارة التربية والتعليم، وبالتالي يبدو القرار سعياً من الأجهزة الأمنية الفلسطينية لتطويق وتكبيل المجتمع والفكر والإبداع، وتنصيب ذاتها كسلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية وحيدة، وغير قابلة للمس. كما يمكن اعتبار القرار وتوقيته محاولة من السلطة الفلسطينية لحرف الانتقادات لسلوكياتها ولاستقطاب الشرائح الاجتماعية المتشددة في معركة السلطة مع منتقديها.
حيث يبدو أن السلطة الفلسطينية تعمل على تحويل المناطق الخاضعة نظرياً لسيطرتها أو تحت حكمها إلى نموذج أكثر انحطاطاً، عبر تكريس دور الأجهزة الأمنية في جميع مناحي الحياة الفلسطينية، بدءاً بالسياسية عبر قمع واعتقال العديد من الصحفيين والكتاب في مواقع التواصل الاجتماعي، ومن ثم عبر فرض الخيار الاستسلامي على المجتمع الفلسطيني ومنعه من ممارسة حقه الطبيعي في مواجهة قوات الاحتلال وبشتى الطرق والوسائل، وصولاً إلى محاولتها اليوم لضرب حزام أمني على خيال وأسلوب الأدباء والروائيين، فتضع مختلف شرائح الشعب الفلسطيني أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الخنوع والاستسلام لإرادة الاحتلال عبر ذراعه المحلي أو المضي في معركة الحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية يداً بيد.
إن توحيد كلمتنا في الدفاع عن كافة أشكال الحرية هو ضرورة ملحة، فقد نتمكن اليوم من خلال التضامن مع كل من الناشر والمؤلف ومن خلال رفع الصوت عالياً في وجه التمادي الأمني الأخير، من إعادة طرح الرواية في الأسواق الفلسطينية ومن إعادة الاعتبار لكاتبها، لكننا لن نتمكن بذلك من قطع الطريق على التحكم الأمني في الأدب والإعلام والخيارات السياسية، فمن المعلوم لنا أن منظومة الحكم الأمني لن تتوقف عن محاولتها تكبيل المجتمع وأبنائه وستعمل مراراً و تكراراً على غرس سياجها من حولنا حتى تخنقنا وتحاصرنا وتكتم خيالنا وأفعالنا وكلماتنا وأفكارنا ومواقفنا، ولنا في العديد من الأقطار العربية وغير العربية مثال على تذرع الأجهزة الأمنية بجملة من التهم والشعارات الفضاضة، مثل التذرع بالمساس بالأمن القومي أو المساس بوحدة الأمة، أو الإرهاب، أو الخروج عن عادات وتقاليد وقيم المجتمع ومنها التذرع بأنها مخلة بالحياء والأخلاق العامة، وعادة ما تترافق هذه التهم مع العديد من الحملات الترويجية من قبل إعلاميي ومثقفي السلطات الأمنية الذين يعبرون وبشكل درامي عن ذعرهم وهلعهم من المخاطر التي قد يتعرض لها الوطن والشعب، إن لم يناصروا ويدعموا الممارسات والتجاوزات القمعية لأجهزة الأمن، لتعاد هذه التوليفة مراراً وتكراراً حتى ضمان سطوة وبطش الحكم الأمني وتحكمه في جميع نواحي الحياة.
وبالتالي يجب أن لا يكون هذا الدفاع آنيا ولا مجزأ، وعلينا أن نعد العدة لننطلق في دفاعنا عن حريتنا من وحي حرية الخيال الأدبي، فلا حرية أدبية دون حرية للإعلام، ولا حرية للإعلام دون حرية للعمل السياسي، ولا حرية للعمل السياسي دون حرية الوطن.