وهو هنا يجزم بأن هذا هو موقع نظر الطبقة العاملة، والفكر الماركسي، حيث الاقتصادي يتحدد بعلاقة الإنتاج وليس بالوجود المادي الذي يُنتج هذه العلاقة. وهو يرفض الفكرة القائلة “أن العامل المحدِد (في المنهج الماركسي) للتطور الاجتماعي، وبالتالي لتشكيل البنى الثقافية والسلوك الإنساني هو عامل اقتصادي يتمثل في تطور وسائل الإنتاج” (129). معتبراً أنها فكرة تقول بها الأيديولوجية البرجوازية (129)، “لهذا كله نقول إن تحديد الاقتصادي بوسائل الإنتاج، أو بالقوى المنتجة، هو، ببساطة، تحديد له موقع نظر البورجوازية المسيطرة” (130).
إذن، الاقتصادي ليس هو لا وسائل الإنتاج ولا قوى الإنتاج، بل أنه “علاقات الإنتاج”. بهذا خلط بين الاقتصاد والطبقات، حيث أن علاقات الإنتاج هي تلك العلاقة بين الطبقات في عملية الإنتاج. لكن هذه العلاقة هي نتاج وجود مادي، وليست خارج هذا الوجود المادي. بالتالي، ما هو الوجود المادي؟ هو وسيلة الإنتاج والرأسمال وقوة العمل (أي العامل). هذا ما أشار إليه ماركس في مقدمة كتابه “اسهام في نقد الاقتصاد السياسي” وما اعتبر أنه اكتشافه، اكتشافه الأساس. يقول ماركس: “تقوم بين الناس، في الإنتاج الاجتماعي لحياتهم، صلات معينة ضرورية مستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تقابل درجة معينة من درجات نمو قواهم الإنتاجية المادية، ويؤلف مجموع هذه العلاقات الإنتاجية البنية الاقتصادية للمجتمع، وهي القاعدة المشخصة التي تقوم فوقها بنية حقوقية وسياسية، والتي تقابلها أشكال معينة من الوعي الاجتماعي”. يتوضّح هنا أن ماركس يربط علاقات الإنتاج بنمو قوى الإنتاج المادية، ويعتبر أن علاقات الإنتاج هي نتاج القوى المنتجة، وهي العلاقات التي تقوم في “المجال الاقتصادي”، وتقوم فوقها بنية طبقية. يقول إنجلز: “أن الإنتاج الاقتصادي والبناء الاجتماعي، الذي ينشأ بالضرورة عنه، يؤلفان في كل عهد تاريخي أساس التاريخ السياسي والفكري لهذا العهد” (مقدمة «البيان الشيوعي»).
والإنتاج الاقتصادي يتشكل، كما شرحه ماركس في «رأس المال» من الصناعة والعمال، التي باتت تسمى قوى الإنتاج. ولا شك في أن مهدي يخلط بين علاقات الإنتاج وعلاقات الطبقات، حيث الأولى تتعلق بمجال العمل، والثانية تتعلق بمجال المجتمع. بمعنى أن علاقات العمل بين العامل والرأسمالي تتحوّل إلى علاقة بين طبقات في المجتمع: البرجوازية والبروليتاريا. بالتالي فإن الاقتصادي هو القوى المنتجة بالطبع، وهذا ليس مفهوماً برجوازياً بل أنتجه ماركس كما جرت الإشارة في الاستشهادات السابقة. فالاقتصادي هو قوى الإنتاج والعلاقات التي تنتج عنها، وأساس العلاقة هو الوجود المادي لقوى الإنتاج، حيث في الرأسمالية الرأسمال الذي يتمظهر في المصنع، والبروليتاري الذي يقدّم قوة عمله. هذا هو أساس علاقات الإنتاج، وبدونها لا علاقات إنتاج. وتغيّر وسائل الإنتاج هو تغيّر في وسيلة الإنتاج وطبيعة العمل، حيث كانت الأرض هي وسيلة إنتاج، وكان الفلاح هو العامل فيها. وكان نشوء الصناعة هو النقلة التي أحدثت تطوراً هائلاً في قوى الإنتاج، بحيث نشأ البرجوازي والبروليتاري. ودون فهم هذه الصيرورة في قوى الإنتاج لا نستطيع فهم التاريخ.
إن علاقات الإنتاج هي العلاقات الاقتصادية الناتجة عن وجود قوى الإنتاج، وهذا يفرض الانطلاق من فهم طبيعة قوى الإنتاج لفهم التكوين الاقتصادي، والمجتمعي، وبالتالي نمط الإنتاج. وحين نعتبر أن الوجود المادي يتحدد في “علاقات الإنتاج” نكون قد انتقلنا من الفهم المادي إلى الفهم المثالي، لأن العلاقة باتت هي المحدِد للوجود المادي، وهذا قلْبٌ للماركسية، وتحويل لها إلى منظور مثالي. فالوجود المادي لوسيلة الإنتاج وللعامل هو الذي يُنتج العلاقة الاقتصادية، وبالتالي العلاقة الطبقية، ويكون في أساس نشوء الأفكار والدولة (البنية الفوقية). هذا هو الاكتشاف الجوهري لماركس كما أشار، وكما كرّر إنجلز، فكيف يمكن أن نقلب الأمر لتكون العلاقة هي الأساس المادي؟
العلاقة هي نتاج وجود، وليس من علاقة دون وجود معيّن. والوجود هو التحديد المادي الذي تؤسس الماركسية كلية منظورها الديالكتيكي عليه. فهذه هي عملية القلب التي أجراها ماركس لجدل هيغل كي يوقفه على قدمية، والتي أنتجت الجدل المادي. كيف يمكن لنا أن نعيد قلبها تحت مسمى “علاقات الإنتاج”؟
ماركس في «رأس المال» بدأ من السلعة لأنها الشكل المتداول، المكشوف، لكنه ذهب إلى العمق، إلى الجوهر، أي أساس وجود السلعة لكي يكشف طبيعة النمط الرأسمالي. لهذا بحث في الرأسمال والعمل. بحث في الصناعة والبروليتاريا. بالضبط لأن ذلك هو أساس النمط الرأسمالي، ولم يتوقف عنذ “علاقة الإنتاج” بل ذهب إلى الإنتاج ذاته. وهذا هو ما جعله يتوصل إلى فضل القيمة، والاستغلال، والصراع الطبقي. يؤسس كل ذلك على أساس مادي.
الوجود يبدأ من الملموس، المادي، ليرتفع إلى العلاقة، والطبقات، والأفكار، والدولة. والمادي هو الإنتاج الاجتماعي، أي وسيلة الإنتاج وقوى الإنتاج. وهذا الوجود هو الذي يُنتج العلاقة، علاقة الإنتاج، والعلاقات الطبقية، والسياسية وغيرها. إن التوهان في البحث عن العلاقات، والبحث في الاقتصاد كتكوين منعزل، هو الذي أنتج كل التشوّش في فهم الواقع، وأدى إلى سوء الفهم الذي انتشر منذ عقود طويلة. لقد طغت التخصصية بما جعل الاقتصاد معزولاً عن الطبقات والصراع الطبقي. لكن ليس المقابل هو تجاهل الاقتصاد لمصلحة العلاقة الاقتصادية أو الطبقية، أو حتى السياسية (وهذا هو الغالب). إن كل تحليل ماركسي لا بدّ من أن يبدأ من الاقتصاد، أي من قوى الإنتاج (وسائل الإنتاج وقوى العمل)، ليتصاعد إلى علاقات الإنتاج، والطبقات والدولة والأيديولوجية. بدون هذا الأساس ستكون كل التحليلات هزلية، وتنحكم لمنظور مثالي.