كل الصراعات الفكرية والمطلبية والسياسية التي جرت طيلة عقد من الزمان (1897/1917)، تكثفت في أكتوبر. حيث كان يجب اتخاذ قرار حاسم بالثورة. كان واضحاً أن المشاركة في الحرب الأولى قد زادت من مشكلات الشعب، حيث تزايد الفقر والبطالة، وأصبحت الحرب تستهلك ميزانية الدولة. لهذا ربما منذ سنة 1916 أخذت حالات الاحتجاج تتصاعد، ومع تفاقم أزمة الدولة كانت الوتيرة في تزايد. وأخذ الجنود يفرون من أتون الحرب، التي ظهر أنها عبثية بالنسبة لهم، حيث تدور بين إمبرياليات كل منها يريد النهب والسيطرة والاستعمار. وقد ركّز تكتيك البلاشفة على هذه المسألة في مواجهة أحزاب الأممية الثانية التي اتخذ كل منها سياسة “الدفاع عن الوطن”، فوقف مع برجوازيته. وهذا كان موقف المناشفة كذلك.
فرض كل ذلك نشوب ثورة شباط/ فبراير سنة 1917، التي كما أشرت أوصلت الأحزاب البرجوازية إلى السلطة بدعم منشفي. كان واضحاً أنها لا تحمل حلاً لمشكلات الشعب، ولا تريد وقف الحرب وتحقيق الاسلام، هذا ما حدسه (أو فهمه) لينين، الذي كان يفهم طبيعة البرجوازية جيداً، ويعرف أنها لن تحقق مطالب الفلاحين في الأرض، ولا مطالب العمال بأجر أفضل، ومن ثم لا تريد الخروج من الحرب كي لا تخذل حلفاءها: البرجوازية الإنجليزية الفرنسية. لهذا عرف بأن الأمور لن تستقرّ وأن ثورة أخرى قادمة لا محالة، وليس في وقت بعيد، الأمر الذي دفعه لأن يعلن إستراتيجية جديدة تتعلق بهدف الثورة القادمة.
لقد بنى إستراتيجيته سنة 1905 انطلاقاً من موازين القوى الطبقية، ومن قدرة الحزب البلشفي الواقعية، لهذا طرح شعار الدكتاتورية الثورية للعمال والفلاحين. لكن الوضع تغيّر كثيراً، فرغم بقاء وضع الفلاحين كما هو، فقد تراجع دورهم في الثورة، مقابل تصاعد دور البروليتاريا، التي باتت تمتلك حزباً قوياً متماسكاً وفاعلاً. هذا الأمر جعل لينين يطرح في نيسان/ إبريل “موضوعات” جديدة تتعلق بسياسة الحزب إزاء الثورة، فقد رفع شعار دكتاتورية البروليتاريا، حيث أصبحت البروليتاريا قادرة على قيادة الثورة والاستيلاء على السلطة كما أشار. وحين ووجه باختلاف الشعار عما كان سنة 1905، حيث ظل من البلاشفة من يتمسك بذاك الشعار القديم، أجاب لينين بكل بساطة الوضع تغيّر، وأن البروليتاريا باتت قادرة بدعم الفلاحين الاستيلاء على السلطة. فقد تغيرت موازين القوى الطبقية، حيث أصبحت البرجوازية في السلطة، وحولها رهط من الفلاحين (جناح من الاشتراكيين الثوريين) والفئات الوسطى (المناشفة)، وباتت الطبقة العاملة أقوى وأشدّ بأساً، وقادرة على اجتذاب الفلاحين خلفها. خصوصاً أن لينين لم يطرح أن الهدف هو تحقيق الاشتراكية، بل أكد في الموضوعات على أن: ليس “تطبيق” الاشتراكية بعد، فهو معني بحلّ مسألة الأرض، ووقف الحرب، والخبز.
إذن، لقد بات استلام السلطة على أجندة الحزب، وبات عليه التحضير الجدي لهذا الأمر. كانت النظام الجديد قد وجه ضربة للحريات وقمع الأحزاب في حزيران/ يونية، الأمر الذي فرض العودة إلى السرية. لكن تصاعد الاحتجاجات، وزيادة هرب الجنود من الجبهة مع ألمانيا كان يعطي الأمل بأن الثورة قادمة، وأن الشعب سينهض من جديد. في سبتمبر بات واضحاً أن الثورة على وشك الانفجار، وأن على الحزب تنظيم خطة الاستيلاء على السلطة.
“لقد كانت الظروف التي تنبأ بها لينين في “أطروحة إبريل” على أنها تبرر الانتقال إلى المرحلة الثانية من الثورة تنضج بسرعة” إذن كما كتب إدوارد هاللت كار في سفره «ثورة البلاشفة 1917 – 1923». لهذا أعلن لينين أواخر شهر سبتمبر/ أيلول بعد أن استبدّ به تردد “الرفاق” مقالة بعنوان «نضجت الأزمة». وانتقل حينها من فنلندا التي هرب إليها بعد الهجوم على الحزب، إلى قرية على حدود روسيا لكي يكون قريباً من الأحداث، ومن ثم عاد متخفياً إلى بتروجراد. وكان منظور لينين يقول: “لأني أعتقد اعتقاداً جازماً أننا لو “انتظرنا” حتى مؤتمر السوفيات وتركنا اللحظة الحاضرة تفلت من أيدينا، سندمر الثورة“. هذا ما كتبه إلى اللجنة المركزية قبل أن يصل إلى بتروجراد. لكن حال وصول انعقدت اللجة المركزية وقررت “التمرّد المسلح” الذي بات يتولاه تروتسكي العائد إلى الحزب بعد هجران طويل.
هذه الخطة التي أثارت انقسامات في الحزب بعد أن رفض بعض قادته (زينوفيف وكامينيف) التقدم من أجل الاستيلاء على السلطة. لكن الحزب قرّر الأمر، وليس من مناص لتحضير القوى، حيث أن الوضع على وشك الانفجار، وحيث بات يتزايد عدد الجنود الفارين من الجبهة. زينوفيف وكامينيف فضحا الخطة في مقال كتباه يشير إلى قرار الحزب بالاستيلاء على السلطة، ولا شك في أن هذا الأمر أربك الحزب حيث باتت خطته مكشوفة. ورغم مطالبة لينين بفصلهما من الحزب كخونة، إلا أن الأمور كانت تندفع بشكل متسارع. وأصبح الشعب يملأ الشوارع والجنود يتمردون. ومن الواضح أن السلطة باتت ضعيفة، عاجزة، وبلا قرار.
كانت انتخابات السوفيتات قد أظهرت نجاحاً كبيراً للبلاشفة في بتروجراد وموسكو خصوصاً، وكان الميل لأن تقرر مجالس السوفيت تغيير النظام. وكان الكل في انتظار اجتماعها من أجل ذلك، الاجتماع الذي كان في 20 أكتوبر وتأجل إلى 25 أكتوبر. وكانت اللجنة المركزية في الحزب البلشفي تراهن على الاجتماع، ولهذا كانت تنتظر انعقاده كذلك. أما لينين فقد كان “محتجزاً” في بيت بعيداً عن الأحداث، حيث كان واضحاً أن قيادة الحزب كانت تماطل رغم قرارها القيام بانتفاضة مسلحة، بينما كانت تروتسكي يحضّر لها. ولمعرفة لينين ببنية القيادة “هرب” من مخبئه متجهاً إلى القاعة التي كان يحتشد فيها الآلاف، وتلقى فيها الخطابات، ليصعد إلى المنصة ويقول بكل وضوح: بالأمس كان قرار الثورة خاطئاً، وغداً سيكون متأخراً، الآن. هذه هي ثورة أكتوبر.
منْ يتابع مسار لينين ومجمل كتاباته يلمس أنه يمسك بقرون التاريخ، أو يعي كل حركة يتقدم فيها الواقع، ويعرف ماذا يفعل لكي يطوّرها وفق المنظور الذي يوصل إلى ما اعتبر أنه ضرورة، ليس نتيجة إرادوية بل نتيجة تحليل عميق للواقع ذلك، وتلمّس ما يؤدي إلى تغييره، سواء في سياق الصراع المجتمعي الذي كان يتلمس أنه يتطور لدى العمال والفلاحين، أو في دور الذات/ الحزب الذي يجب أن يرتبط بهذه الطبقات، ويهم في تطور وعيها وقدراتها وتنظيمها. ويلمس بالتالي كيف أنه يربط الذاتي بالموضوعي، ويجدلهما جدلاً لكي يقودا إلى الانتصار. فهو يعرف أن العمال والفلاحين مستمرون في الثورة لحين تحقيق مطالبهما، وأن البرجوازية ليس لديها مصالح في تحقيق هذه المطالب، وبالتالي أن ثورية هاتين الطبقتين مستمرة. ويعرف أن على الماركسي، بالتالي أن يحقق هذه المطالب وهو يسعى إلى الوصول إلى الاشتراكية، وبالتالي عليه أن يؤسس كتلة طبقية موحدة، رغم اختلاف مصالح العمال والفلاحين، وأن يصبح الحزب هو المعبّر عن العمال والفلاحين الفقراء، لكي يستطيع الاستيلاء على السلطة. ولا شك في أن العمق النظري الذي امتلكه، وتشرّب الجدل المادي (الجدل الذي كان يعتبر أنه مقياس الماركسي من غيره)، كان يسمحان له بكل ذلك.
لكن، كل ذلك تحقق في مسار عشرين سنة، ويمكن القول أنه تكثّف في أكتوبر سنة 1917، حيث ظهر واضحاً فهمه لمسار الواقع الذي لم يكن ناضجاً في أغسطس/ آب نتيجة ضعف تغلغل الحزب في السوفيتات، لكنه أخذ ينضج منذ سبتمبر/ أيلول، وبات حتمياً التقدم للقيام بالثورة، فقد نضج الوضع، بات للحزب قوة في السوفيتات، وأصبحت الأحداث تصبّ في صالحه نتيجة دقة تحليلاته ومواقفه (التي كان لينين هو الضابط لها). رغم أن نضج قادة الحزب لم يكن على مستوى نضج لينين، وكان متأثراً بميول منشفية بشكل ما، أو مراهناً على التراكم الكمي الذي يمكن أن يحدث في وضع السوفيتات لمصلحة الحزب فتحسم الأمور “سلماً”. بينما كان لينين يلمس منذ انقلاب كورنيلوف الفاشل أن الانتقال السلمي من الحكومة المؤقتة التي شكلتها البرجوازية، وضمت اشتراكيين، إلى “كل السلطة للسوفيات”، لم يعد وارداً. وأنه إما تجري المراهنة على السوفيتات وتضعف همة الشعب الثائر دون أن تحقق شيئاً، أو التمرد المسلح الداعم لتظاهرات واحتجاجات الشعب.
التقاط اللحظة الثورية هو ما صنع ثورة أكتوبر، وهي اللحظة التي تلمسها لينين، ودفع الحزب بكل قوة لكي يتقدم ويزحف على “قصر الشتاء”. وهو الأمر الذي يوصل إلى نتيجة أنه لا يجب المراهنة على ما هو ممكن حينما يكون ما هو حتمي باليد. حيث يمكن أن يهرب الممكن ويتلاشي بينما الحتمي حتمي. لهذا، مع ضعف النظام وتوسع الاحتجاجات والتمرد في الجيش، والانتفاضات في الريف، وتنظم السوفيت في المدن الرئيسية (بتروجراد وموسكو)، وانتظام الطبقة العاملة تحت راية الحزب، كان التقدم إلى السلطة هو الخيار الوحيد الصحيح، حيث أن كل الظروف مهيئة، ولم تعدْ بحاجة سوى إلى “دفشة”، وهذا ما قام به لينين حين قال: بالأمس خطأ وغداً متأخر، الآن.