بعد مئة عام على ثورة أكتوبر وربع قرن على انهيار التجربة التي قامت على أساسها، لا بدّ من استخلاصات حولها، غير ذلك الردح الذي تبع الانهيار، والارتداد الذي طاول الكثير ممن تربى في حضنها. لقد اعتبر ماركس تجربة قصيرة، هي تجربة كومونة باريس، أساساً لبلورة العديد من الأفكار، ومحاولة صياغة رؤية لسلطة الطبقة العاملة، ولطبيعة الدولة التي تقيمها. كانت ثلاثة وسبعون يوماً كافية لأن يستخلص ماركس نتائج منها، بينما شهدنا تجربة استمرت خمسة وسبعين سنة من حكم “البروليتاريا”، أو من سلطة الحزب الشيوعي، وفي ظل نظام اشتراكي، فهل نستطيع استخلاص نتائج منها؟
في الأمر مستويان، الأول يتعلق بالثورة وظروفها، والثاني يتعلق ببناء الاشتراكية.
في المستوى الأول، لا بدّ من ملاحظة جملة مسائل، حيث أن الثورة كانت ضرورة، لم يفتعلها حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي أو لينين، لأن وضع الريف المنهك من نهب كبار ملاّك الأرض، وطبيعة السيطرة الإقطاعية على الفلاحين، كانت تؤسس لانفجارات فلاحية مستمرة، كان أبرزها ثورة سنة 1905/1907، دون أن يتوقف الأمر عند ذلك. كما أن وضع الطبقة العاملة، رغم محدودية عددها، كان يفرض الاضرابات المستمرة. وكانت أزمة الحرية عامة في ظل نظام استبدادي بطريركي. كل هذه العناصر كانت تتفاعل منذ ثورة سنة 1905، وتتصاعد مع تصاعد نهب كبار ملاّك الأرض والرأسمالية. من ثم كان توقّع الثورة أمراً بدهياً، وهو ما استند لينين إليه في إستراتيجيته لإسقاط القيصرية. وسنجد في كتابات لينين الكثير من الأرقام والوقائع حول الصراع الطبقي المتفاقم، الذي كان يدفعه إلى أن يكون مركز السياسة التي يتبعها تتمثل في كيفية تحويل الثورة العفوية إلى ثورة منظمة، وبالتالي منتصرة.
هنا يأتي وضع الحزب، ولا شك في أن الخلاف مع المناشفة حول عضوية الحزب كان يرتبط بمنظور لينين هذا، حيث كان يعتقد بأن الاستيلاء على السلطة لن يتحقق إلا من خلال الثورة، وأن وضع روسيا ثوري إلى حدّ أنه يمكن البناء عليه للوصول إلى ذلك. لهذا كان يجب أن يكون الحزب منضبطاً، متماسكاً، وسرياً، واضح الرؤية، ومحدّد التكتيك. ولهذا رفض الحزب الانتخابي، أو الذي يؤسس رؤيته على الانتخابات، وبالتالي يضمّ كل مَنْ وافق على برنامجه دون أن ينضمّ بالضرورة إلى حلقة، أو يمارس مهمات تخدم سياسته. الفارق هنا أن لينين كان يرى أن التطور الرأسمالي في مأزق نتيجة تردد وجبن وعجز البرجوازية، وأن الفلاحين والعمال يتحركون من أجل التغيير نتيجة ظروفهم، وبالتالي ليس من طريق سوى أن يلعب الحزب الشيوعي دور القيادة، ومحدّد الأهداف، لكي تنتصر الثورة، أو يفشل صراع الطبقات وتبقى روسيا قيصرية.
الاستيلاء على السلطة كان أساس إستراتيجية البلاشفة ولينين، والانغراس في البروليتاريا والفلاحين الفقراء هي الخطوة الضرورية من أجل ذلك، في سياق تحقيق مطالب هؤلاء. وكان الوضوح النظري والسياسي، وفهم الواقع الروسي والعالمي، أساسياً من أجل نشر الوعي لدى “الطليعة” لكي تكون واثقة بهذه الإستراتيجية وقادرة على تعميمها على العمال والفلاحين الفقراء. بالتالي كان التثقيف النظري بالماركسية المؤسّسة على الديالكتيك ضرورة أولى، كما كان تأسيس البنية الصلبة للحزب ضرورة أخرى، رغم أن الحزب يجب أن يتشعّب في وجوده الواقعي لكي ينظّم الطبقة بكل الأشكال الممكنة. وأن يخوض النضال الطبقي بأشكاله المتعددة.
كل ذلك كان إرهاصات ثورة أكتوبر، التي تكثفت في لحظة في قرار عملي بالتقدم للاستيلاء على السلطة. ولا شك في أن التقاط اللحظة من أهم ما أوضحه منظور لينين، حيث التقط اللحظة التي يجب أن تتقدم البروليتاريا (أو الحزب الذي يمثلها) للاستيلاء على السلطة. فقد صاح لينين: الآن، ليس أمس ولا غداً. الآن، هذا هو المفصل الذي يكثّف عمق الوعي والفهم، ويفضي إلى قرار حاسم بالاستيلاء على السلطة. هنا يجب أن نعترف لعبقرية لينين، الذي تقدّم وكل قادة الحزب تنتظر، وألقي الخطابات، ليعلن الزحف من أجل الاستيلاء على السلطة. لا شك في أن الكثير من قادة البلاشفة وكادره وعناصره لعب دوراً كبيراً في الصراع الطبقي قبل ثورة سنة 1905، وخلالها وبعدئذ، وفي ثورة شباط/ فبراير سنة 1917، لكن تميّز لينين كان ظاهراً، لأنه من خلال تحليله العميق والمفصّل للواقع وللتناقضات وأدوار القوى، كان يفرض قراره، لأن الآخرين كانوا عاجزين عن الردّ، وكان “سحر” لينين يجعل الحزب يقبل. وهذا ما يفسّر سبب محاولات قادة في الحزب تغييبه، حتى في آخر لحظات حياته، بالضبط لأن منطقه كان يهزم كل الآراء الأخرى، وكان ينتصر في وضع الحزب في مسار صحيح، ويفرض التكتيكات الضرورية، ولقد فرض القرار الحاسم بالاستيلاء على السلطة.
كل هذه خبرات كبيرة، تتعلق بالثورة وفعل الذات في التحضير لانتصارها. بالوعي العميق الشمولي، والرؤية الثاقبة، والتحديد الدقيق للمهمات والخطوات الضرورية.
في المستوى الآخر، لا بدّ من فهم حقيقة أولية كرّستها ثورة أكتوبر وهي أن طريق التطور لتجاوز البنى العتيقة والدخول في “عصر الحضارة”، ليست ممكنة بالطريق الكلاسيكي الذي أنجزته البرجوازية في إنجلترا وفرنسا وأميركا وألمانيا واليابان، حيث أن تشكّلها العالمي وطابعها الإمبريالي سدّا كل طريق لتطور رأسمالي، وفرضا الانزياح نحو الأطراف لكل الأمم التي لم تصبح صناعية حينها. وأن البديل هو طريق ثورة أكتوبر، حيث أن حتمية ثورات الشعوب تفرض تأسيس الوعي المطابق والبنى السياسية المعبّرة عن العمال والفلاحين الفقراء، وتؤكد بأن التطور (حتى بمعناه البرجوازي) بات يتحقق بأدوات غير برجوازية، بل على العكس بيد الطبقة المضادة للبرجوازية: الطبقة العاملة. هذا مفصل جوهري ظهر جلياً في كل ثورات الشعوب بعد ثورة أكتوبر، التي اتسمت بطابعها العمالي، والاشتراكي، من الصين إلى الهند الصينية إلى كوبا وعديد من دول العالم. كما ظهر أن هذا الشكل للتطور هو الشكل الوحيد الذي يسمح ببناء الصناعة وتجاوز البنى المفوّتة، وتحديث الوعي، وتحقيق الاستقلال الحقيقي، وبناء الاقتصاد المتمحور على الذات. ففيما عدا النمور الآسيوية كحالة خاصة، سند أن كل الأمم التي باتت صناعية وحداثية هي تلك التي اتبعت طريق ثورة أكتوبر. إن انقسام العالم إلى مراكز وأطراف يفرض أن يكون طريق التطور هو هذا الطريق، وليس أيّ طريق آخر.
إذن، هذا الطريق هو “المدخل الوحيد” لنقل الأطراف إلى عصر الصناعة والدولة الحديثة، ولقد بات السؤال هو، كيف يمكن أن تنتقل الاشتراكية من مرحلتها الأولى كاشتراكية جوهر دورها هو بناء القوى المنتجة وإعادة بناء الوعي والبنى المؤسسية، وتحقيق مستوى أفضل لوضع الشعب إلى مرحلة أرقى: اشتراكية يكون العمال هم السلطة الفعلية فيها، في ظل ديمقراطية واسعة، وفاعلية شعبية حقيقية. وحيث يبدأ دور الدولة في التراجع؟
لقد طرحت التجربة على الصعيد النظري من الأسئلة ما يحتاج إلى بحث مستفيض، وأوضحت مشكلات في المنظورات التي طُرحت من قبل الماركسيين حول الاشتراكية، طابعها وطريق الوصول إليها، وآليات ارتقائها، لم تبحث كفاية سابقاً، وربما لأنها لم تكن من أسئلة الواقع، حيث لا يجيب الواقع إلا على الأسئلة التي يطرحها. ولقد طرحت التجربة عدداً هائلاً من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات. أشرت قبلاً إلى العديد منها، وربما هناك أسئلة عديدة في مختلف مستويات البنية، في الاقتصاد والدولة والأيديولوجية، وفي النظام السياسي. بالتالي كانت ثورة أكتوبر بروفا لاشتراكية حقة، وليست حدثاً عابراً في التاريخ، ومنْ تعامل معها على هذا الأساس هو من تملقها حين كان نتاجها قائماً، وكانت الدولة السوفيتية تقدّم امتيازات، و”شرعية”. إنها حدث كبير يستحق أن يستفاد منه على الصعيد النظري بما يعيد بناء كثير من الأفكار والتصورات حول الاشتراكية، وطريق الوصول إليها.