في الوجود الواقعي تتعدد المؤثرات، ولهذا تكون عوامل متعددة هي التي تُنتج ما هو قائم. إن كل مشكلة هي نتاج أكثر من سبب، وكل فشل هو نتاج أكثر من عامل. وحين نركّز على عامل واحد نكون قد سرنا في تفسيرات لا تفضي إلى نتائج جدية. فالواقع متعدد التفاعلات رغم اختلاف مستويات تأثير كل منها، ويحوي تناقضات متعددة رغم اختلاف مستويات حدّتها. لهذا حين نميل إلى التركيز على واحد منها نكون قد ابتسرنا الواقع، وتوصلنا إلى نتائج خاطئة.
هذه البديهية غائبة عن الفكر، وفي العموم ليست معروفة. ففي تفسير تخلفنا وبؤس وضعنا، وعجزنا عن التطور، يُلقى اللوم على آخر. كان هذا الآخر هو الاستعمار، ثم الإمبريالية، وربما حتى “الغرب” عموماً. لكنه أصبح أيضاً هو النظم الاستبدادية الشمولية، ليس النظم التي حكمت بعد الاستقلال بل تلك التي أزاحتها تحت شعارات الحرية والاشتراكية. وربما سنجد آخرَ آخر نلقي اللوم عليه إذا ما استنفذ الآخر القائم قدرته التبريرية. حيث يبدو أن “العقل العربي” يحتاج إلى آخر في كل الأحوال. آخر يلقي باللوم عليه، بالضبط لأنه يريد أن يستريح.
ما يبدو هنا هو إخراج الذات من كل مساءلة، الذات بمعنى المجتمع، والذات بمعنى الفرد والحزب والدولة. ورغم تناقض الذين يحمّلون الاستعمار والإمبريالية ما نحن فيه، مع أولئك الذين يحمّلون النظم الاستبدادية ما وصلنا إليه، فإن المنطق الذي يحكم كل منهما واحد، حيث يسود النظر الأحادي، وهو النظر الذي يحكم تبرير الذات. يحكم إخراج الذات من كل مساءلة. لنبدو بلا رأي أو رؤية أو قرار أو فاعلية. وليصبح ما نحن فيه هو من فعلِ آخر. نحن بالتالي مفعول به، هكذا دائماً.
للآخر دور بلا شك، وكان فاعلاً، لكن هذا لا يعني أن يُلقى كل اللوم، ويعاد كل الفشل إلى هذا الآخر. فقد عمل الاستعمار على تخليفنا لأنه كان يريد السيطرة والحصول على المواد الأولية والأسواق، لهذا كان يكيّف البنى المحلية بما يخدم مصالحه هذه، ولقد وجد طبقة محلّية تتعاون معه وتستفيد من وجوده. ولا زالت الرأسمالية تريد السيطرة والنهب، وتسعى بما تستطيع لكي تبقي المجتمع في وضعية تخدم مصالحها بالتعاون مع طبقة مسيطرة. ولا زالت تكيّف البنى المحلية بما يخدم مصالحها. هذا هو الصراع على العالم من أجل المصالح، وهو حقيقة مستمرة، وتعني أن الرأسمالية تريدنا كما نحن الآن، ولا تريد لنا التطور والاستقلال. ولهذا تسعى بكل الوسائل لكي نبقى كما نحن، غارقين في التخلف والتفكك، والجهل. فهذا ما يسمح لها تحقيق مصالحها عبر الهيمنة.
لكن أن نقف عند هذه النقطة لكي نسترسل في خطابات الردح أو التبرير، فهو الأمر الذي يجب أن يكون مجال نقد. فلا شك في أن الأثر الإمبريالي كبير، وخصوصاً أنه أسّس لطبقة محلية تابعة تتشابك مصالحها مع مصلحة الرأسمالية، لكن يمكن بناء قوى ذاتية قادرة على تغيير الوضع. هذا ما يجري تجاهله، والقفز عليه، بالتالي عدم إخضاعه للتمحيص والنقد. وبناء قوى ذاتية هو ما حدث في كثير من أطراف العالم، حيث استطاعت الشعوب أن تتحرر وأن تتطور. القوى الذاتية تتشكل عادة من “نخب” تعرف ما تريد، وتعرف واقعها، وبالتالي تعرف كيف تنتصر، معتمدة على “وضع الشعب” الذي يعاني من الإفقار والتخلّف، والذي يدفعه كل ذلك إلى التمرّد، هذه الحالة التي هي “طبيعية” حيث يريد الشعب القدرة على العيش. لكن سنلمس أن من ينوح على الدور الإمبريالي والأثر الإمبريالي هو هؤلاء الذين عليهم أن يغيّروا، أن يلعبوا الدور المركزي في تحويل غضب الشعوب ونقمتها إلى فعل عملي. فبدل أن يعرّفوا الواقع، ويحدّدوا آليات تغييره يميلون للردح على من سبّب الوضع الراهن. والردح لا يفيد شيئاً، ولا يغيّر في الوضع القائم، بل يدلّ على قصور كبير في الوعي والنضالية. فالسيطرة الرأسمالية التي أفرزت التخلف، أفرزت الفقر والتهميش، والميل للثورة كذلك. وبالتالي فإن تجاوز “الوضع الإمبريالي” يفترض الفاعلية الذاتية المرتبطة بالصراع الطبقي. ولما كان الصراع الطبقي متحفزاً، وانفجر في أكثر من لحظة على مسار تاريخ طويل، فإن الأزمة كمنت في “النخب” التي لم تستطع أن تمتلك الوعي الكافي لفهم واقع الشعوب، وأزماتها، ولرسم إستراتيجية تفضي إلى انتصارها، ومن ثم تنخرط في الصراع معها لتحقيق ذلك.
هذه هي “النخب” التي لا زالت تندب ضد الاستعمار والرأسمالية والإمبريالية. وهي التي تفسّر كل حدث بأثر الاستعمار والإمبريالية. وتعزو كل مشكلة، وكل هزيمة، وكل ضعف، لهذا الأثر الإمبريالي. وتعيد إنتاج وهم “المؤامرة الإمبريالية”. وهي بذلك ذات مستلبة، ذات تعيش “عقدة الاضطهاد”، ومرض العجز، وهوس الأثر الإمبريالي. هنا نلمس كيف أن العجز الذاتي يُلقى على الآخر، حيث يصبح الآخر هو سبب ليس ما حلّ بنا فقط (وهو نتاج الأثر الإمبريالي بالطبع) بل كذلك عجزنا عن تغييره. أي أن هذا الأثر يصل إلى بنيتنا نحن: “النخب”. هذه هي الأزمة التي لا بد من مواجهتها، فقد كان الأثر الإمبريالي كبيراً في الوضع الذي نحن فيه، لكن تغيير هذا الوضع هو من فاعليتنا نحن، من قدرتنا نحن، ومن الدور الذي يجب أن نلعبه نحن، وهنا ينتفي أثر الإمبريالي. وبالتالي يكون العجز هنا هو نتاج “ذواتنا”، نتاجنا نحن وليس نتيجة الأثر الإمبريالي. هذا ما فعلته “النخب” في الصين وجنوب شرق آسيا وكثير من دول العالم، وما حدث منذ ثورة أكتوبر. لقد تعرضت تلك الدول لـ “الأثر الإمبريالي” كذلك، لكنها واجهت وانتصرت بفعل دور “النخب”، وهنا اليسار بالأساس. بمعنى أن الأمر لا يتعلق بما فعلت الإمبريالية بل بكيفية مواجهتها لتحقيق الاستقلال عنها، وتحقيق التطور والحداثة. هنا نلمس أن النخب التي تنوح على تأثير دور الإمبريالية هي من كان عليه أن يكون قادراً على مواجهتها، وتغيير الواقع لتجاوز آثارها.
بالتالي هنا نلمس أن العجز هو الذي يؤسس لسياسة الندب، حيث يجب الهروب من محاسبة الذات بإلقاء اللوم على الآخر. العجز الذاتي هو الذي يُنتج الندب، ويُطلق هوس ”المؤامرة”.
وإذا كان هذا المنظور ظلّ يحكم قطاعاً كبيراً من اليسار والتيار القومي، حيث ظلت الإمبريالية هي “وراء كل مصيبة”، وهي سبب عجزنا وفشلنا، والوضع الذي نحن فيه، فإن قطاع آخر مال إلى اعتبار الاستبداد والنظم الاستبدادية هي هذا “الخارج” الذي يُلقى عليه كل فشل وعجز ومصيبة. ولا شك في أن استبدادية النظم فرضت تصفية الأحزاب السياسية وحتى نهاية السياسة في المجتمع، وبالتالي شطب كل إمكانية لنشوء البديل. لكن لم يحدث ذلك إلا لأن النظم قد حققت، في مرحلة أولى مطالب شعبية مهمة، مما جعلها تحظى بقاعدة شعبية، ومن ثم يتراجع الصراع الشعبي ضدها. في هذه الوضعية كان من الطبيعي أن تُسحق الحركة السياسية المعارِضة لأنها باتت بلا قاعدة شعبية. وكان تضخيم الأجهزة الأمنية، وإتباع سياسة قمع ومنع واعتقال، هو الشكل الذي أنهى تلك الحركة. لقد استطاعت النظم تضخيم قدراتها في الوقت التي أفضت سياساتها الاقتصادية إلى إبعاد الشعوب عن كل صراع ضدها، وبالتالي كان سحق المعارضة سهلاً. ولقد “أبعدت” الشعوب لأنها حققت مطالبها، وبالتالي لم يعد للمعارضة قاعدة شعبية. لقد تأسست النظم الاستبدادية من قوى اجتماعية عبّرت عن مطالب الشعوب، فحققت تلك المطالب، ولهذا باتت تحظى بقاعدة اجتماعية مستقرة سمحت لها بأن تبني قوى قمع قوية، وبهذا باتت قوية ودكتاتورية في مواجهة معارضة فقدت قاعدتها الاجتماعية، ولا تطرح سوى شعارات، خصوصاً هنا مسألة الديمقراطية التي لم تكن سوى مطلب نخب، وخلاف على مسائل قومية، ومواقف من الإمبريالية.
ولا شك في أن الوضع الذي وصلت إليه الشعوب هو نتيجة سياسات النظم الاستبدادية، لكن هل يمكن أن نعزو كل ما يحدث، والفشل المستمر للأحزاب السياسية المعارضة، إلى النظم الاستبدادية؟
هذا ما أصبح يراود النخب، حيث أنها تلقي كل اللوم على النظم الاستبدادية، فهي وراء كل المشاكل وكل الفشل، وكل الانهيارات التي حدثت وتحدث. وبالتالي بات الخطاب الذي تنتجه متمحوراً حول الاستبداد، وفي المقابل (الميكانيكي) حول الديمقراطية. وحيث يجري تفسير كل القضايا انطلاقاً من ذلك فقط، فالنظام هو سبب كل الشرور، وهو سبب كل المشاكل. ومن ثم يصبح هدف الخطاب هو كشف استبدادية النظام، وإلقاء اللوم عليه في كل ما يجري، والذهاب بعيداً في الردح انطلاقاً من ذلك. ومن ثم ليجري استسهال التأكيد على أن البديل هو الديمقراطية.
المبدأ هنا هو تكرار لـ “الندب” المناهض للإمبريالية، حيث هناك طرف شرير وراء كل ما نعانيه، وهو سبب كل مشكلاتنا. لا شك أن النظم دمرت السياسة وأنهت الأحزاب، لكنها لم تفعل ذلك بـ “قوة خارقة” بل نتيجة قدرتها على استقطاب أو تحييد جزء كبير من الشعب، بما حققته له من مصالح. وبالتالي فإن تحقيق مصالح شعبية في لحظة ما يفرض نهاية الحركة السياسية التي نشأت للتعبير عن هذه المصالح، هذا هو أساس الانهيار رغم عنف النظم الاستبدادية ودورها في سحق كل معارضة، ومن ثم تعميم ثقافة “التفاهة”. لقد باتت المعارضة من الماضي لأن البيئة التي أنتجتها انتهت بفعل ما حققته النظم التي تشكلت من أحزاب شبيهة بها، وربما لهذا السبب تلقي كل اللوم على الاستبداد متجاهلة أن هذه النظم الاستبدادية قد كسبت قطاعات شعبية بالضبط لأنها حققت مطالبها في تلك اللحظة، قبل أن تعيد نهبها. وبالتالي كان على “النخب” أن تلمس وضع الشعب “الجديد”، أي الذي جرى نهبه من قبل هذه النظم، وأن تؤسس سياساتها على ضوء الوضع الجديد. لكنها اكتفت بالردح ضد الاستبداد، ولقد أصرّت على عدم رؤية وضع الشعب، ربما لأنها تعرف أن انحيازه للنظم هو الذي همّشها، دون أن تفهم سبب ذلك، وما عليها فهمه لكي تلاقي الشعب من جديد. بدل ذلك كان الردح ضد الاستبداد هو منطقها، لكن ما يفيد الردح هنا؟
إذن، في الحالين هناك “طرف شرير”، هناك فاعل، ونحن مراقبون على أحداث تجري، أو نحن ضحيته. وبالتالي سنلمس بأن “العقل” في الحالين هو واحد، هو العقل ذاته رغم أنه يظهر متناقضاً، حيث يكون موقف كل طرف عكس الطرف الآخر، لأن مناهضة الإمبريالية تدفع إلى قبول الاستبداد، كما أن رفض الاستبداد يدفع إلى التودد للإمبريالية. وجوهر هذا العقل يقوم على تبسيط نابع من هيمنة المنطق الصوري، حيث ينقسم العالم إلى: الخير والشر. وأن سبب وضعنا هو الشر بذاته، لهذا يجب أن نظل نردح ضده. وهذا التوافق “المنهجي” بين طرفي المعادلة هو نتاج وحدة الأساس الذي شكّل وعيهما، مناهضي الإمبريالية ومناهضي الاستبداد، حيث أنهما من صفوف “اليسار” (الأحزاب الشيوعية والماركسية)، الذي تأثّر بماركسية ملوثة (الماركسية السوفيتية)، وتناقضا في المواقف السياسية لكن من المنطلق المنهجي ذاته. فقد أفرز اليسار تيارات مناهضة للإمبريالية، وأخرى مناهضة للاستبداد، لكن ظل “العقل” هو ذاته كما صيغ في مرحلة اليسار تلك. منطق صوري من طرف، وسكوني من طرف آخر.
لا شك في أن كل هذه القوى والدول تمتلك الهيمنة، وهي المؤثّر في الواقع، لكن هيمنتها وقوتها لا تتعلقان بقدراتها فقط، بل تتمثل كذلك في ضعف تنظيم القوى المقابلة، فقد انتصرت الشعوب التي تنظمت بشكل جيد، وكان قادتها يعرفون ما يريدون. بالتالي بدل الردح والندب لا بد من نقد الذات، والتفكير العميق في ضعف القوى التي تريد التغيير. التركيز هنا أجدى من كل الندب ضد الإمبريالية أو ضد النظم المستبدة. الأمر لا يتعلق بموقف أخلاقي وخطاب يهدف إلى “فضح المعتدي”، بل يتعلق بكيفية تنظيم القوى من أجل الانتصار. فالشعوب تحسّ بما تعيشه، وتعرف من يوصلها إلى الحضيض، وهي هنا ليست في حاجة إلى ردح النخب، بل هي بحاجة إلى ما يساعدها على تجاوز وضعها. إنها أكثر من يعرف عدوها لكنها لا تعرف كيف تهزمه. هذا ما تطلبه من “النخب”، وليس شيئاً آخر.