بعد اتضاح فشل حل الدولتين في فلسطين، وتكريس الدولة الصهيونية لسيطرتها على الأرض في فلسطين، بات يُطرح حل بديل هو حل الدولة ثنائية القومية. وهو يعني نشوء دولة واحدة لكنها ثنائية القومية، وهو ما يعني شكل ما من الوحدة بين قوميتين لكل منهما شكل سياسي خاص به. وهنا لا يشار إلى اسم الدولة، هل هي “إسرائيل” أو هي فلسطين، بل يشار إلى أنها دولة موحدة ثنائية القومية.
لا شك في أن فشل حل الدولتين فرض اختراع حلول أخرى، ولأن المنظور الشكلي لا يرى سوى طرفين في الصراع: الفلسطينيين والإسرائيليين، فهو يوصل إلى أن الحل يقوم على إقامة دولة ثنائية القومية. إذن، بالتالي، الفلسطينيون قومية والإسرائيليون قومية أخرى. ومن ثم يجب أن تتشكل دولة ثنائية القومية بينهما لأن حل الدولتين فاشل. طبعاً هنا يجري طرح الصيغ الدستورية لهذه الدولة، ويشار إلى شكل الحكم فيها. لكن المسألة ليست هنا بالتأكيد، فهل هناك قوميتان في فلسطين؟ هل الفلسطينيون قومية؟ وهل “اليهود” قومية؟ هذا سؤال بديهي لكي نتلمس إمكانية قيام دولة ثنائية القومية.
لا شك في أن الفلسطينيين هم جزء من أمة هي الأمة العربية، وبالتالي فلسطين جزء من الوطن العربي. وفي الصراع مع الدولة الصهيونية ليس من انفصال بين صراع الفلسطينيين وصراع العرب الآخرين، بالضبط لأن الدولة الصهيونية هي مرتكز السيطرة الإمبريالية على الوطن العربي، والحاجز الذي يمنع وحدته وتطوره. وبالتالي فإن الصراع سيبقى هو صراع عربي صهيوني. هذه نقطة أولى تشير إلى أنه لا يمكن حل المسألة الفلسطينية بعيداً عن الأساس الذي أوجد الدولة الصهيونية، أي الرأسمالية التي أرادت منع تطور المنطقة ووحدتها، والذي يعني أن الصراع العربي ضد الدولة الصهيونية سيبقى قائماً ما دامت قائمة. وهذا أمر يطال كل حل يمكن أن يُطرح في فلسطين.
في المقابل، هل اليهود قومية؟ ربما هناك من بات يتعامل مع اليهود كقومية، لكن اليهودية دين، ولقد عملت الحركة الصهيونية على تحويله إلى رابط قومي لكي تستطيع جمع اليهود الذين ينتمون لأمم عديدة. لقد كان وضع اليهود “الشاذ” في أوروبا هو الذي جعل الرأسمالية تعمل على توظيفهم في السيطرة على فلسطين. فقد كان منهم المرابين الذين كانوا يقرضون الإقطاعيين والتجار، ويصبحون مجال اتهام لأن هؤلاء لم يستطيعوا السداد. وكان منهم المفقرون الذين انخرطوا في الحركات الثورية، وبالتالي باتوا عبئاً يجب التخلص منه. وكانوا أصلاً معزولين في غيتوات. بالتالي كان يجب التخلص منهم. وكان الخوف من “توسعية” مصر بعد أن عمل محد علي باشا على توحيد المنطقة، قد أفضى إلى فكرة إنشاء كيان قومي لليهود في فلسطين يكون حاجزاً لمنع تمدد مصر، ويمنع توحيد المنطقة العربية.
لقد عمل الاستعمار الإنجليزي على تحويل هؤلاء إلى مرتزقة في مشروع استعماري، وقاعدة عسكرية لضمان السيطرة طويلة الأمد. لهذا كانت الدولة الصهيونية هي قاعدة عسكرية جرى تركيب مجتمع عليها. بمعنى أن الأساس العسكري هو الأساس في وجود الدولة. ومن ثم جرى تهجير جزء كبير من يهود أوروبا لكي يكونوا المؤسسين لهذه الدولة، بعد أن تعرضوا للعسف، وخصوصاً بعد ما قام به هتلر ضدهم في ألمانيا. وبعد نشوء الدولة قامت الأنظمة العربية التابعة للدول الاستعمارية (العراق، اليمن، مصر، المغرب، تونس) بتهجير العرب الذين يدينون بالديانة اليهودية. ثم جرى استجلاب يهود الفلاشا، ومن الهند، وغيرها.
هذا الأمر يطرح السؤال: هل اليهود قومية؟ حيث أنه لتأسيس دولة ثنائية القومية يجب أن يكون الشعب منقسم إلى أكثر من قومية، وهنا إلى قوميتين. في الدولة الصهيونية هناك تمييز بين الأشكناز والسفرديم، أي بين اليهود الغربيين واليهود الشرقيين، بمعنى أن اليهود ليسوا من تكوين واحد. ولقد شرح شلومو ساند الأمر بالتفصيل، حيث ليس هناك عرق يهودي. وإذا كان أصل الديانة اليهودية هو من المنطقة العربية فقد أصبحت ديانة فوق قومية ككل ديانة. وهناك عدد من الأصول التي تبدو واضحة فيما يتعلق باليهود، حيث أن ما يُطلق عليهم اليهود الشرقيين هم عرب استمرت اليهودية ديانتهم. وربما يشكّل هؤلاء معظم الذين يدينون باليهودية. وهناك اليهود الأشكناز، الذين هم اليهود الأوروبيون، ويبدو أن أصلهم من شبه جزيرة القرم (اليهود الخزر). وهم الآن فرنسيون وألمان وإنجليز وأميركيون وروس وغير ذلك. إضافة إلى يهود الفلاشا، والهنود اليهود.
ربما يطرح السؤال هنا، ألم تستطع العقود السبعة التي هي عمر الدولة الصهيونية أن تصهر كل هؤلاء في تكوين قومي واحد؟ فقد أصبحت اللغة العبرية التي كانت ميتة هي لغة الثقافة والحديث، ولقد تجمعوا في أرض واحدة، ألا يوجِد ذلك تكويناً قومياً؟ لا يظهر ذلك بشكل مؤكد، حيث أن التمايز بين الأشكناز والسفرديم قائم، ويزداد وضوحاً، ولا زال المنشأ الأصلي يتحكم في منظور وعادات الكثير منهم، خصوصاً هنا العرب الذين جرى ترحيلهم من العراق واليمن والمغرب وتونس ومصر. فلم تتشكل ثقافة واحدة، ولا شعور بارتباط مشترك. فالعرب منهم بقي كما كان: عربي. والأشكنازي ظل يحس أنه غربي. وفي هذه الوضعية لا يمكن الحديث عن قومية موحِّدة. ومن ثم لا يمكن الحديث عن دولة ثنائية القومية. ويصبح المطلوب هو معالجة الأمر بشكل أكثر تعقيداً من هذا التبسيط.
فلا شك أنه في دولة واحدة علمانية ديمقراطية سوف ينخرط اليهودي العربي مع بيئته، ليتحوّل الدين إلى طقس شخصي، بينما سيبقى الأشكنازي يتعامل بشكل مختلف، فهو مختلف عن المنطقة بعكس السفرديم الذي يمارس عادات وتقاليد المنطقة ذاتها. وإذا ما افترضنا أن كل هؤلاء سيبقون في فلسطين (رغم أن ما يجب أن يُطرح هو حق كل منهم العودة إلى موطنه)، لن يكون العرب الذين يدينون باليهودية مع الأشكناز بل جزءاً من التكوين العربي الموجود في فلسطين. وبهذا يمكن أن تبقى أقلية من الأشكناز فقط، وهذا لا يؤهل لقيام دولة ثنائية القومية، بل يمكن أن يكون لهذه الأقلية حق في ممارسة لغتها وثقافتها في إطار “حكم ذاتي” لأقلية قومية، إذا بقيت هذه الأقلية.
هنا بالضرورة ستكون الدولة هي دولة عربية. ومن هذا المنطلق ليس صحيحاً طرح حل يقوم على أساس دولة ثنائية القومية، لتبقى الدولة لكل مواطنيها هي أساس كل حلّ في فلسطين. وهي كما كررنا الإشارة دولة عربية، دولة فلسطينية. لهذا يجب الفصل الجذري بين الدين، أي اليهودية، والتكوين القومي لليهود، لكي يكون ممكناً تحديد ما يجب أن يكون عليه الحل. فاليهودية كما المسيحية والإسلام انتشرت في أمم عديدة، وإنْ كان وضع اليهودية أقل في هذا المجال، وانحسر في بضع أمم، ليس كما المسيحية والإسلام، لكن في كل الأحوال لا يمكن المطابقة بين اليهودية والقومية.
بالتالي لا ينطبق حل الدولة ثنائية القومية على فلسطين، وليس ممكناً ذلك.