كان واضحاً منذ البدء أن فلسطنة الصراع، والانتقال إلى الكفاح المسلح، يعاني من مأزق، حيث أنه ينطلق من أرض تحكمها نظم لها حساباتها، وسياساتها، جوهرها أنها إما تحدد هي كيف ستخوض الحرب أو أنها أصلاً لا تريد الحرب. لهذا كان من الطبيعي أن تصطدم المقاومة الفلسطينية المنطلقة من الخارج معها، وأن يتحوّل الصراع إلى صراع مع النظم العربية، كما حدث في الأردن. وإذا كانت فلسطنة الصراع تفيد النظم كون أن هناك من الفلسطينيين من بات يعتبر أن القضية هي قضيته، وهو الأمر الذي يحررها سياسياً من عبء القضية، فهي ترفض أن يمارس هؤلاء الصراع ضد الدولة الصهيونية من أرضها لكي لا تنجرّ إلى الحرب “في وقت غير مناسب”، ولهذا تمنع “العمل الفدائي” أو تسحقه، أو تحاصره.
هذا هو الوضع الذي جعل المقاومة محاصرة، وسَهُلت تصفيتها في “دول الطوق”. بالتالي، إذا كان من دور فلسطيني من خارج فلسطين لا بدّ أن تكون “البيئة” مؤاتية، أي أن تكون “دول الطوق” معنية بالصراع مع الدولة الصهيونية. ما يجعل هذا الأمر ممكناً هو أن الصراع أصلاً لم يكن فلسطينياً صهيونياً، وإن كانت الثورة ضد الاحتلال الإنجليزي والهجرة الصهيونية فلسطينية، وكان ذلك أمراً طبيعياً لأن فلسطين كانت تحت الاحتلال، لكنه صراع عربي ضد كل الظروف التي فرضها الاستعمار الإنجليزي الفرنسي خصوصاً منذ اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور. فقد نظر الاستعمار إلى الوطن العربي ككتلة واحدة، لهذا وضع إستراتيجية تفكيكه ومنع تطوره، ومن ضمن ذلك إيجاد الدولة الصهيونية، التي كانت الرأسمالية الإنجليزية هي أول من طرحها قبل أن تصبح رؤية لقطاع من اليهود شكّل الحركة الصهيونية. فقد طرح قيام “دولة يهودية” من قبل بالمرستون سنة 1841، وجرى الاشتغال بعدها على إيجاد نخب يهودية ورأسماليين من أصل يهودي ينشطون من أجل تحقيقها. وبالتالي كان هناك ترابط واضح بين إنشاء الدولة وتفكيك الوطن العربي إلى “دول”. لتكون هذه الدولة حاجزاً يمنع توحيد المنطقة، وقوة هيمنة تستخدمها الرأسمالية ضد كل بلدان المنطقة.
هذا الأساس يجعل كل ميل في البلدان العربية إلى الوحدة والتطور والاستقلال يصطدم بوجود الدولة الصهيونية. ولهذا كان القبول بالدولة الصهيونية مرتبطاً بترسيخ وجود “الدولة القطرية”، وتعميق تبعيتها للرأسمال الإمبريالي. بهذا فإن هناك صدام حتمي بين تطلع العرب إلى التطور والوحدة ووجود الدولة الصهيونية. وهو صدام مع الرأسمالية وأدواتها، بما في ذلك النظم القائمة. وإذا كان الميل التحرري الذي بدأ منذ خمسينات القرن العشرين قد أخفق، وأعيد تركيب المنطقة اقتصادياً وسياسياً بما يجعل النظم تابعة، ومتصالحة مع الدولة الصهيونية، بعضها في العلن من خلال اتفاقيات، ومعظمها في السرّ، وبالتالي دخول النضال الفلسطيني في مأزق عميق، فإن الدعوة للدولة العلمانية الواحدة لن تكون ممكنة خارج سياق الصراع في البلدان العربية، وفي السعي لإعادة بناء المنظورات التي تؤسّس لنشوء بديل جذري يطرح على عاتقه مسائل الاستقلال والوحدة والتطور، ومن ضمن ذلك الصراع ضد الدولة الصهيونية.
لقد نشأت الدولة الصهيونية كقوة هيمنة رأسمالية على المنطقة، ولهذا باتت أكبر قوة عسكرية، وأكثرها تطوراً، وكذلك يجري التعامل معها كامتداد رأسمالي، وكقاعدة عسكرية تخدم المصالح الإمبريالية في المنطقة. ومن أجل ذلك ليس في مقدرة الفلسطينيين تغيير ميزان القوى بما يسمح لهم بالانتصار وحدهم، وليس من سبيل لتغيير ميزان القوى إلا بتغيير النظم في البلدان العربية (وليس بالضرورة فيها كلها بداية) لكي يصبح ممكناً تحقيق مواجهة ناجحة. وأمام المأزق الفلسطيني المشار إليه، لا بدّ من أن يكون في الأولوية إسقاط النظم القائمة، وهذا لا يعني وقف الصراع ضد الدولة الصهيونية بشتى السبل لأنه لا إمكانية لوقفه أصلاً. ولا شك في أن النهب الذي مارسته الطغم الإمبريالية والمافيات الحاكمة، قد أوصل إلى تفجّر الصراع الطبقي في كل البلدان العربية، كما أوضحت الثورات التي بدأت نهاية سنة 2010. وهو الأمر الذي يعني أن الوطن العربي بات في وضع يفرض التغيير، ويدفع إلى إسقاط النظم القائمة. وهو ما ظهر في شعارات الشعب الذي يريد إسقاط النظام.
إذن، هناك عدة متحولات يجب لمسها، وهي تصبّ في إعادة بناء الصراع انطلاقاً من “طبيعته” ذاتها. المتحوّل الأول هو وضع النمط الرأسمالي والأزمة التي يعيشها، وهي أزمة لا حلّ لها، وتدفع إلى تفاقم الصراع الطبقي على صعيد عالمي، وهي في الواقع تُضعف الاقتصاد الصهيوني. والمتحوّل الثاني هو الثورات التي نتجت عن ذلك، والتي رغم كل الوحشية التي تواجه فيها ستستمر، وسيساعد على استمرارها وتفاقمها انتقال الثورات إلى أمم عديدة نتيجة ما فرضه توحش الرأسمالية. بالتالي فإن الوضع مؤاتٍ لكي تنشأ قوى معنية بالتغيير، وفي إعادة بناء الصراع.
حين نتحدث عن تحرير فلسطين، وعن بناء الدولة العلمانية الواحدة فيها، يجب أن نعتبر أن الأساس في ذلك هو التغيير في البلدان العربية، وأن كل أشكال الصراع الأخرى هي متممة لذلك، وتتأثر بمدى تغيُّر ميزان القوى العربي الصهيوني لمصلحة العرب. حيث أن وجود الدولة الصهيونية قام على أساس مواجهة العرب عموماً، ولم تكن فلسطين سوى القاعدة العسكرية التي لتبرير وجودها أُقيم عليها مجتمع مدني، ولكي يكون سكان هذا المجتمع هم “المرتزقة” الذين يخدمون مصالح الرأسمال الإمبريالي. وبالتالي ليس من إمكانية إلا أن يواجَه عربياً، فهذه هي طبيعة الصراع، هذين هما حدّيْ التناقض، ويكمن هنا جوهر الصراع.
من هذا المنظور ليس من الممكن تغيير ميزان القوى إلا بتغيير الوضع العربي، وتأسيس النظم المعنية بمواجهة الرأسمال الإمبريالي وأداته الصهيونية. هذا يعني العمل على تغيير الواقع العربي، والفلسطيني معني من هذا المنظور بالذات أكثر من غيره في ذلك. حيث ليس لديه خيار آخر لإنهاء الدولة الصهيونية سوى أن يعود الصراع إلى أساسه “الطبيعي”، أي كصراع عربي صهيوني، وبالتالي أن يعمل على دعم التغيير في البلدان العربية. وهو ما يعني الآن، وبالتحديد، دعم الثورات في مجمل البلدان العربية.
وبهذا هناك أسبقية حتمية لتغيير النظم في البلدان العربية، أو في بعضها على الأقل (وفي بلدان الطوق أولاً)، لكي يصبح ممكناً وضع الدولة الصهيونية في شروط حرجة، وتطوير الصراع ضدها بما يجعل إنهاءها مسألة ممكنة. ومن هذا المنظور ستكون فلسطين جزءاً من دولة عربية موحدة، علمانية وديمقراطية.
الصراع في المنطقة هو، في الجوهر، صراع عربي ضد الدولة الصهيونية، وهذا جزء من الصراع ضد السيطرة الإمبريالية، الذي هو الطريق لتحقيق الاستقلال والوحدة والتطور الاقتصادي والمجتمعي. ودون إعادة بناء الصراع على هذا الأساس سيبقى وضع فلسطين صعباً، وتبقى الأرض تُقضم، والمستوطنات تتزايد، والنضال الفلسطيني في مأزق يتزايد كل يوم.