غالبا ما أكرر على مسامع طلاب الدراسات العليا وطلاب مساق “مناهج البحث العلمي” في جامعة النجاح الوطنية المقولة الآتية: “إن لم يتجاوز الطالب أستاذه فلن يحقق إنجازاً حقيقياً. إن نتاجه لن يكون إلا إضافة تراكمية، لا نوعية، ليس أكثر“، وما أقوله أصغي إليه من زملاء لي ومن معارف أيضاً عرفوا الأساتذة الذين درسوني في الجامعة الأردنية أو درسوهم هم في الجامعات الأردنية، ومن الذين درسوني ويعدون جيل الرواد والمؤسسين الدكاترة محمود السمرة وهاشم ياغي وعبد الرحمن ياغي، وممن درسوا طلابي الدكاترة إبراهيم السعافين وشكري عزيز الماضي وخالد الكركي وآخرين.
كما لو أن لسان الناطقين يشير إلى أن من أتى بعد هؤلاء يعدون أقزاماً ولم يأتوا بشيء يعتد به. وربما يعتمد القائلون على هزال النتاج العلمي لكثيرين من مدرسي الأدب العربي في الجامعات الفلسطينية. ربما.
وأنا أقرأ النتاج الروائي الفلسطيني قبل العام 1948 عدت إلى أكثر الدراسات التي أنجزت عن روايات وقصص تلك الفترة ونظرت فيه وتوصلت إلى أنه -على الرغم من أهميته- فيه من الضعف والثغرات الكثير، وأن أي باحث جاد سوف يكتشف أنه نتاج عادي وأنه يمكن أن يتجاوزه ويتجاوز أصحابه أيضا، وهكذا يبطل هذا الباحث مزاعم من يصغي إليهم عن الجيل المؤسس والهالة التي تضفى عليهم.
لا أريد أن أسلب الآخرين جهودهم ومكانتهم ولكني سوف أتوقف أمام نتاج قسم منهم لتبيان ما وقع فيه الأساتذة من أخطاء وسوف أركز على ما كتبوه عن فن الرواية الفلسطينية قبل العام 1948.
أول هؤلاء الدارسين هو عبد الرحمن ياغي الذي ترك أثراً كبيراً في تكويني العلمي وتوجهي الأدبي. إن كتابه “حياة الأدب الفلسطيني الحديث من أول النهضة حتى النكبة” فيه من الضعف والثغرات الكثير، وفيما يخص الرواية الفلسطينية قبل العام 1948 وما كتب عنها لا يمكن اليوم الاعتماد عليه.
يأتي المؤلف على رواية ”الوارث” ويعدها رواية مترجمة مع أنه يكتب أنها “بنيت على حادثة وطنية وقعت وتقع أمثالها في هذا الشرق كل يوم” (ص450)، والرواية لم تبن إطلاقاً على حادثة وطنية وثمة أخطاء عديدة في التواريخ التي يوردها، ويخلط ياغي في التجنيس الأدبي فيرى في المجموعة القصصية “مسارح الأذهان” تارة مجموعة وطوراً رواية، ولا يتوقف أمام روايات أخر كثيرة، فهو يغفل ذكرها مثل رواية “في السرير”، عدا أنه لا يدرس قسماً منها دراسة متعمقة. ويكتفي أحياناً ببضعة أسطر عن روايات مهمة مثل ”الوارث” و”الحياة بعد الموت“ وقد أشرت إلى ملاحظته العابرة حول روايتي جمال الحسيني الاثنتين، والطريف أنه يدرجهما في المرحلة القصصية الرابعة من 1939 حتى 1948 علماً بأنهما صدرتا قبل 1939.
إن ما كتبه ياغي في كتابه عن الرواية في فلسطين لا يعطي صورة جيدة أو كافية عنها على الرغم من أن الكتاب غدا مرجعاً كلاسيكياً لمن أراد دراسة رواية تلك الفترة.
الكتاب الثاني الذي عد أيضاً مرجعاً كلاسيكياً في دراسة فن الرواية هو كتاب أحمد أبو مطر. صحيح أنه يدرس الرواية الفلسطينية من 1950 حتى 1975 ولكنه مهد للدراسة بكتابة عنوانها “الجهود الروائية في فلسطين قبل 1950“ وهذا ما يهمنا هنا، وهو لا يخلو من أخطاء عديدة وجب أن يلتفت إليها لأسباب منها تبيان الأخطاء وتصويبها ومنها أن الكتاب اعتمد عليه دارسون آخرون لاحقون فكرروا الأخطاء نفسها فغدت كما لو أنها حقائق.
ابتداء، يشير أحمد أبو مطر إلى أنه لم يتمكن من العثور على روايات عديدة من روايات تلك الفترة، وهذا ما أشرت إليه من قبل، ويخلط الدارس بين الرواية الفلسطينية واللبنانية حين يدرس رواية اللبناني عارف العارف “مرقص العميان“ على أنها رواية فلسطينية، وهو ما سيعتمد عليه لاحقاً دارسون آخرون منهم فاروق وادي ليقعوا في الخطأ نفسه وليكتشفوا بالصدفة الحقيقة (انظر جريدة الأيام الفلسطينية/ الجمعة ٨ تموز ٢٠٠٨ وانظر مقالي في الجريدة نفسها في ١٠ آب ٢٠٠٨)
الكتاب الثالث الذي يعتمد عليه كثيراً هو كتاب فاروق وادي، وكثيراً ما يتوقف الدارسون أمام المدخل التاريخي “من الخطابة إلى الكتابة ”، وهو مدخل فيه آراء جريئة يصدرها الدارس حين يدرس روايتَي بيدس واسحق الحسيني، ولكنه، لاعتماده على كتابَي ياغي وأبو مطر، وعلى مراجع ثانوية لا على الأصول لعدم توفرها له، يكرر الأخطاء نفسها، وأرى أن المدخل التاريخي بحاجة إلى إعادة كتابة، بخاصة أن المؤلف مازال على قيد الحياة، خلافاً لياغي وأبو مطر رحمهما الله.
هنا يمكن التوقف أمام واصف أبو الشباب وما كتبه عن الرواية في دراسته التي نشرها في الموسوعة الفلسطينية (القسم الثاني/ الدراسات الخاصة/ المجلد الرابع ص 127 وما بعدها).
يقف أبو الشباب أمام ثلاث روايات ويعرض لها عرضاً مفصلاً وهي “الوارث”و”مذكرات دجاجة “و”في السرير“ ونفهم من دراسته أنه اطلع على رواية ”الوارث”، وأعتقد شخصياً أن ما نقله منها من نصوص نقله عن كتاب الأسد عن بيدس، وما يسجل له أنه تناول رواية العدناني التي لم يلتفت إليها من سبقه، بخلاف روايتَي بيدس واسحق الحسيني اللتين أفاض دارسون سابقون في الكتابة عنهما. وفوق ما سبق فهو لا يشير إلى رواية اللبناني عارف العارف على أنها للفلسطيني عارف العارف.
بعد هذه الدراسات أنجزت دراسات أخرى توقف أصحابها فيها أمام الرواية في فلسطين قبل 1948 ومنها:
– دراسة إبراهيم السعافين “نشأة الرواية والمسرحية في فلسطين والأردن قبل العام 1948، وتناول فيها تناولاً مفصلاً بعض الروايات التي أشير إليها إشارات عابرة مثل رواية البيتجالي “الحياة بعد الموت“ (1985).
– دراسة شكري عزيز الماضي “الرواية العربية في فلسطين والأردن في القرن العشرين“ (2003) وقد أوجز الكتابة عن رواية جمال الحسيني “على سكة الحجاز“ (ص26 و27 ) وذكر أنها صدرت في 1932، وهكذا فهي لا تنتمي إلى مرحلة 1939- 1948 كما ذهب ياغي. والسؤال هو: هل اطلع الدارس على الرواية نفسها أم أنه اعتمد على كتاب شمعون بلاص “رواد ومبدعون“ في طبعته الأولى 1993؟
– دراسة خليل محمد سالم “اسكندر الخوري البيتجالي: حياته وأدبه“ (1981) وفيها يأتي على رواية “الحياة بعد الموت“ وعلى رواية المؤلف نفسه “في الصميم“ (1947) ويدرسها على أنها بحث لا على أنها رواية، علماً بأن دارسين آخرين عدوها رواية اعتماداً على ما أورده البيتجالي نفسه في التمهيد “بحث عام في الزواج والعلاقة الجنسية بقالب روائي غرامي“ ( أبو مطر، ص42) وأشير هنا إلى أن أبو مطر عثر على الرواية ودرسها (ص42- 45).
وأخلص مما سبق إلى الآتي:
ليست ثمة دراسة أنجزت عن الرواية في فلسطين قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية يمكن الاعتماد عليها، ولمن رغب في الاطلاع على الموضوع كاملاً فعليه أن يقرأ كل ما كتب، لأن الدراسات يتمم بعضها البعض، إذ لم يتمكن أي دارس من توفير كل ما كتب وقراءته ودراسته، فقد تبعثر الشعب الفلسطيني وتبعثرت معه مكتبته، وكتب كل دارس معتمداً على ما توفر له من روايات في المنطقة التي يقيم فيها أو درس في جامعاتها، ونحن بانتظار دارس يتمكن من العثور على الروايات كلها ودراستها معاً مستفيداً من الدراسات السابقة ومن المناهج النقدية الحديثة في نقد الرواية.