هذا النهار، الأحد في التاسع من كانون الأول، تنشر مقالك في جريدة الأيام الفلسطينية”لا بد من شاهد يهودي: (إيلان بابيه)، التطهير العرقي في فلسطين”.
ما الصورة التي سيرسمها لك معارفك حين يقرؤونه؟
وإن استضيف(بابيه)في نابلس وألقيت أنت مداخلة حول بعض كتبه، فماذا سيشاع عنك؟
الإشاعات كثيرة، وكنت دونت كثيراً منها في نصوصك، فماذا يعني لك المزيد منها؟
“خد تعود على اللطيم” يقول المثل الشعبي، و”تكسرت النصال على النصال” يقول المتنبي، فماذا قال محمود درويش عن الفلسطيني في رثاء ماجد أبو شرار أو في”في وصف حالتنا”؟
“ويا لحم الفلسطيني في دول القبائل والدويلات التي اختلفت على ثمن الشمندر والبطاطا وامتياز الكاز واتحدت على طرد الفلسطيني من دمه”.
وتحور في كتابته: في دول الفصائل والعائلات والإقطاعيات و.. و.. النقابات وغزة وأريحا وفتح وحماس وعدم اختلافنا عن نظام الحكم العربي إلا قليلاً (ما من رئيس جامعة في الأردن بقي أكثر من8 سنوات. عندنا والحمدلله ظل الرئيس20 عاماً ومازال. ما شاء لله! ما شاء الله. قلة أكاديميين مهاريين).
أكثر الذين تحتك بهم يتذاكون عليك، وأنت أصبحت”جحا” المدينة أو حلاق القرية، أو حمار صالحة الذي صار في المخيم الذي ولدت فيه مضرب مثل لطرافة القصة التي تشبه قصة فص حلاق القرية، الفص الذي لم ينسه أهل القرية بعد خمسة عشر عاماً. (تحاول أن تتغابى. تحاول ولكنك خلقت جاداً كما خلق المتنبي ألوفاً-لو رجعت إلى الصبا! لو!).
السائق يتذاكى. يفتتح كلامه بالحديث عن الأمطار الغزيرة التي شهدتها نابلس في الأيام الثلاثة الأخيرة، ليعود بالذاكرة إلى العام1950/1951 ويتحدث عن أيام مشابهة. كان في المدرسة واكفهر الجو و وأمطرت الدنيا وعاد إلى البيت مبللاً. ثمة فيضانات جرفت ما اعترض طريقها. (لم تكن مولوداً ولكنك عرفت عن عام الثلجة وفقر الناس ومعاناتهم من البرد في خيام اللاجئين الفلسطينيين التي ولدت أنت فيها).
السائق الذي ركز على دال(خمسين)في كلامه أراد أن يقول لك”أنت خام صيني”. (وأنت، لأنك تنشر مقالاتك مقابل مكافأة عادية ولا تبيعها بالدولارات،”خام”، فلماذا لا تبيعها بالدولار في مجلات دول النفط مثلاً؟ في جريدة الخليج أو في جريدة القبس أو لموقع الجزيرة ؟ هناك منشقون لا يفتحون أفواههم للحديث إلا مقابل دولارات.
عم تحدث السائق الذي قال إنه من دير طريف-تلاحظ الاسم طريف الذي يذكرك برواية محمد العدناني”في السرير” 1946. هل من تشابه بينك وبينه؟ كلاكما درس في ألمانيا وعاش تجارب طريفة، وطريف هو حقاً طريف وهو نفسه المؤلف، وأنت صرت طريفاً لطرافاتك وطرافات الآخرين- تذاكيهم(ما دمنا فصحاء جداً فلماذا انتصرت الصهيونية علينا؟). والسائق قال إنه يبلغ من العمر73 عاماً.
السائق تحدث عن مزروعات تلك الأيام. عن الذرة البيضاء والسمسم والبطيخ والشمام. قال كلاماً كثيراً عن أبيه الذي لم يحرمه وإخوته شيئا. قال إن أباه كان يشتري البطيخة أو الشمامة بقرش ونصف”هيك القادوس!!”. كانوا يأكلون ويطعمون الجيران. قال إن أباه كان يصطحبه وإخوته إلى المدينة ويطعمهم الحلوى وما اشتهوا(كأنه كان يتحدث عن أبي). السائق تحدث عن الجوافة ورائحتها. كانت الجوافة جوافة لها طعم،”مش مثل جوافة هذه الأيام لا طعم لها ولا رائحة” (في السوق في موسم الجوافة جوافة تشرح البال).والسائق قال إن ملعقة من السمسم كانت تشبع وتغني عن وجبة كاملة. السائق قال إن الناس كانت تحب بعضها وكان أهل المخيم الذي أقام فيه قرب نابلس يبدون مثل عائلة واحدة(سألته من أي مخيم فأجاب: عين بيت الماء). قال إن الناس كانوا في رمضان يتقاسمون طعامهم ، واليوم اختلف هذا كله. لم يعد ثمة محبة ومودة،(أشهد).
تسأل السائق عما ألم به، فيحدثك عن عمله في الكويت التي عاد منها في1990. يقول السائق إنه كان مسؤولا عن أربعين ألف موظف فتتذكر البطيخة التي انقسمت في ألف ليلة وليلة إلى قسمين صار نصفها مدينة مكتظة بالناس السمر كما لو أن كل حبة بزر صارت مواطناً، وكما لو أن كل بزرة أنبتت سبع بطيخات في كل بطيخة ألف حبة/إنسان. (هل ما قصه السندباد كان حلم ليل عابر؟ طريفة حكايات السندباد البحري ومثلها حكايات السندباد البري). السائق قال إنه جمع مالاً من الكويت وفيراً. (تبتسم حين يذكر الرقم40 ألفا وتتذكر ما يشاع من أنك أخذت من الكويت40 ألف دينار لم تعط منها أي شخص أي دينار).- كم أنت أناني!؟ وحين يريد الآخرون أن يقولوا إنك أناني يطلبون منك زجاجات الماء الفارغة”عندك أناني فاضية” يسأل ابن أخيك. وتتذكر الكاتبة الناشئة.
– “هل أنت أناني؟”.
تسألك الكاتبة:”هل أنت فاض؟” فتجيبها: “عندي وقت”. (ما عادت لديك الرغبة في قراءة كتابات كتاب شباب إلا بعد أن تحاورهم وتعرف ماذا قرؤوا ولمن قرؤوا. الكاتبة الناشئة لم تقرأ لكتاب بلدها ولم تقرأ لكتاب عرب ولم تقرأ لكتاب عالميين أيضاً(هناك قراء لا يحبون أن يقرؤوا لأي كاتب عربي وحجتهم آن الكتاب العرب قياساً للكتاب الغربيين أصفار). قرأت الكاتبة الناشئة عشر روايات وصارت روائية توقع رواياتها في معارض الكتب وتلتقط الصور لتزين بها صفحتها الفيسبوكية.
“كم رواية قرأت يا رورو؟”ورورو لا تقرأ إلا في المواسم، ومثل رورو عشرات الكتاب. “إن لم يكن الكاتب صاحب قضية ما؛ سياسية أو اجتماعية أو فنية، صاحب نزعة جمالية فلن أقرأ له”، تقول.
يعني لا ثقافة ولا خلفية ثقافية بمدلولها الحقيقي لا المجازي. وكل ما في الأمر أن الـ40 ألف دينار هي وديعة ربطتها بفائدة، وديعة حولتها من مدخراتك من راتبك الشهري الذي توفر أكثره.
(“أنا فلسطيني زاهد” تقول، ولهذا سوف أخلف ثروة ولن أترك الدولة مدينة بسببي، ولهذا لم ترق لي عطايا أبو عمار. المال الذي أتت به(أوسلو)دمرته طائرات دولة أبناء العمومة).
السائق قال إنه علم أولاده وبناته الثمانية. يلفت الرقم ثمانية انتباهك فتتذكر بربارة وكاترين واندريا ويوهان وزيلكة ونينا وكاترين بون. تتذكر الفتاة الدنمركية في(توبنغن). كم كنت أنت بهياً وأنيقاً والآن. أنت الآن…
السائق يتذاكى، والسائق الآن يحتفل بعيد ميلاده الثالث والسبعين وأجرته اليومية150 شيكلا. يركز السائق من جديد على الرقم50 ويضيف إليه الرقم100. (أنت ماء وخام). (لعبة الأرقام صارت جزءا من حياتك اليومية في نابلس وفي المدن التي تسافر إليها. 200 ترمز إلى أنك علمياً متين. حمراء تعني أنك شيوعي. سماوية تعني أنك سماوي. ألف تشير إلى الملف أو إلى مكافأة ستصلك. الملف يعني أنك لم تزوّر. تعني هم من زوروا، والإشارة إلى الشارع تذكر بفاروق الشرع في مؤتمر مدريد حيث رفع وثائق في وجه(شامير)ليقول له: أنت إرهابي وهذا هو الدليل- يعني التزوير من طرفكم).
هل كان السائق يعرفك ويعرف قصتك؟ السائق الذي أول ما رأيته تذكرت الروائي التشيكي(ميلان كونديرا) الذي كلما تكرر تذاكي الآخرين- ما أكثر ما يتذاكى الآخرون حتى صرت تعتقد أنك الخام الوحيد في هذه الدنيا..الغشيم الوحيد..الأبله الوحيد مع أن لدوستفسكي أبلهه من عقود..أنك الوحيد غير المتذاكي- ..(ميلان كونديرا) الذي تتذكر باستمرار روايته”المزحة” مع أنك لا تمزح. مزح بطل الرواية مع صديقته وكتب على بطاقة المعايدة عبارة شك فيها رقيب الحزب الشيوعي فذهبت به الظنون مذاهب شتى واتهم رفيق الحزب بأنه ضد الحزب والشيوعية، فوضعه تحت الرقابة وجمد عضويته وحول حياته إلى جحيم. (الحق كل الحق على حلاق الاسكندر لماذا أفشى سر القرنين ؟) سيموت(كونديرا) ولن يحصل على جائزة”نوبل”فما عاد هناك أهمية للكتاب المنشقين عن الأحزاب الشيوعية منذ انتهت المنظومة الاشتراكية في العام1989/ 1990. على(كونديرا) أن يعود إلى بلاده وأن يكتب رواية عن طائرة رئيس بلاده عله يصبح وزير ثقافة ويمنح شقة ويسافر باستمرار إلى دول مجاورة).
السائق بين لحظة وأخرى يتحدث عن الطفولة. حياة الطفولة ولحظاتها خالدة لا تنسى. (يمدح السائق زمن الطفولة الجميل وكل زمن مضى يبدو حين يسترجع جميلا على الرغم من قسوته. هل ثمة دراسة مصوغة صياغة بسيطة سهلة تشرح للناس سبب نعتهم الماضي بأنه ليس جميلا إلا في حديثهم عنه؟ الماضي كان قاسيا وقاسيا جدا ولكنه جميل لقسوة الحاضر ولأنه لم يبق منه إلا لحظات عابرة والحاضر القاسي سيغدو في المستقبل جميلا. هل كان اللجوء جميلا؟ هل كانت حياة الخيام والفقر جميلة؟) والسائق يحن إلى طفولته وعرانيس الذرة البيضاء.هل يتقمص شخصية إميل حبيبي وهو يحن إلى حيفا في حيفا؟(هل يعرف السائق شيئا عن إميل حبيبي؟ لقد جعلت أنت منه كاتبا يعرفه كل من يتابع قصتك حتى لو لم يقرأ في حياته كتابا ولو لم يدرس مرة في مدرسة. حتى خالتي صارت تخاطبني ب حبيبي وتقصد أنني مثل إميل حبيبي أهتم بالصياغة والأدب وأتغابى).
السائق يروي حكايته(واميل في”اخطية” كتبها وثمة فارق بين من يكتب سيرته ومن يتحدث عن نفسه. هكذا رأى إحسان عباس في كتابه”فن السيرة”)
السائق يواصل الحديث عن الأرقام. هل ذكر الرقم15. (في أحد كتبك كتبت للعام2032 حيث تتوقع أنك لن تعمر إلى ما بعده، كتبت كلاما بقلم بايلوت أحمر موظفا الرقم15). من بحث في كتبك وأفشى سر الرقم15؟ إنه رقم حقيقي وكل شيء لا يستخدم يتضاءل. (تتذكر اندريا. تتذكر(توبنغن). تتذكر الموز). اليوم صباحا تحدثت المذيعة في إذاعة النجاح عن فوائد الموز وقالت: ياللاه يا شباب على الموز، وتساءلت أنت: لماذا لم تقل:”يا شابات”. كم أنت سيء النية أحيانا! مرة انتشرت نكتة عن أستاذ جامعي حاضر عن الصومال وموزها ولم يرق حديث المحاضر لها فغادرت المحاضرة، ما جعل المحاضر يسأل: إلى أين ذهبت؟ فرد عليه الخبيثون: إلى الصومال.) من أفشى ما أوردته عن الأنف في قصتك المخطوطة”ثلاث كاترينات والغريب”؟ إخوتك ينسقون مع الأمن الوقائي وحماس.مثل يوسف صرت). (في مسلسل تلفازي ثمة خدعة عن أنف يطول. كتبت هذا في قصتك التي لم تنشرها من العام2000 حتى الآن). ملعون سليم البيك. في روايته”تذكرتان إلى صفورية” يوظف الرقم الانجليزي69 غير مرة. أتى على علاقة بطل روايته بامرأة فرنسية علمته فنون القتال في تولوز وفرنسا) .
ما الذي ذكر السائق بمواقف الباصات في نابلس قبل أربعين/خمسين عاما؟ دائما ثمة حنين إلى الماضي. دائماً حتى إن المرء أحيانا يحن إلى أعداء له. (خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا/لفارقت شيبي موجع القلب باكيا. هل يبالغ المتنبي؟).
السائق يتذاكى ويقول لك حين تهم بالنزول: اسمع. كلمة أخيرة وأنت تتمنى له عمرا مديدا: 120 بالصحة والسلامة والعافية والسائق مثل الآخرين يملي عليك محاضرته ويطلب منك السماع. السائق يشير لك بأصبع يده اليسار ليقول لك أنت المخاطب والمخاطب أنت المتكلم والمتكلم إليه. أنت هو وأنت يساري وليس ثمة شخص آخر. أنت لا تكتب عن اثنين. الاثنان هما شخص واحد: أنت. والسائق يواصل نهاره ليعود إلى أحفاده ببعض حلوى، فلقد ذهبت أيام الكويت ونقود الخليج ولم تسأل عنه المنظمة التي كانت تخصم نسبة من راتبه الشهري.
هل ذكر السائق الرقمين5 و10.غالبا ما يركز الآخرون في حديثهم معك على الرقم خمسة. في صيغته الموجهة للمذكر تعني أنك خميس(في روايتك”الوطن عندما يخون” كتبت: “وها أنت أصبحت خميس! “أي لا أحد يسأل عنك وأنت تتطلع إلى فوق. وأن لفظ الرقم خمسة وقصدت فتاة فهي خميسة لا أحد يسأل عنها- يعني راحت عليها.
“الأشياء تأتي متأخرة” عنوان مجموعة قصصية لك. أنا لم أطلب من السيدة أن تأتي، وأنت؟ هل قلبك على عجل للرحيل.
تنظر إلى دوار المدينة وإلى بناية(المول) وتتذكر موقف السيارات والباصات الذي كان. تخاطب السائق: هنا كان موقف باصات الشخشير وتتمنى له يوما سعيدا بعيد ميلاده السعيد.
كم تغيرت المدينة منذ(اوسلو)؟! كم؟!
الحياة صارت رموزا وأرقاما. كم تغيرت الحياة! كم!