«سيسموغرافيا الهويات: الانعكاسات الأدبية لتطور الهوية الفلسطينية في إسرائيل ١٩٤٨ – ٢٠١٠» هو عنوان رسالة الدكتوراه للدكتور منار مخول وقد أنجزها صاحبها في جامعة كامبردج
صدرت ترجمة الكتاب مؤخراً باللغة العربية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت ويقع الكتاب في ٢٢١ صفحة. نقل الكتاب إلى العربية القاص نصار ابراهيم صاحب مجموعة «اغتيال كلب»، وحرره لغوياً الروائي إياد البرغوثي صاحب رواية «بردقانة». يتكون الكتاب من مقدمة تأتي على سوسيولوجيا “الفلسطينيين في إسرائيل” و”الأدب وفهم تحولات الهوية”، ومن فصول ثلاثة هي :
– الروايات الفلسطينية في إسرائيل ١٩٤٨ – ١٩٦٦ ( ص ١٩ – ٦٦ )
– ما بعد التحديث ١٩٦٧ – ١٩٨٧ ( ص ٦٧ – ١٣٢ )
– الروايات الفلسطينية في إسرائيل ١٩٨٧ – ٢٠١٠ ( ص١٣٥ – ٢٠٠ )
وأما الخلاصة فتقع من صفحة ٢٠١ إلى ٢٠٩.
ما لفت نظري في هذا الكتاب أنه يُعد الدراسة الأولى التي توقفت أمام الروايات كلها التي صدرت في فلسطين المحتلة في ١٩٤٨، فلم يترك رواية إلا أشار إليها في قائمة مصادره، وهذا ما لم يعثر الدارس عليه في دراسات من سبقه تقريبا، من محمود عباسي ومحمود غنايم وانتهاء بجهينة الخطيب من فلسطين ١٩٤٨، وفي دراسات أحمد أبو مطر وواصف أبو الشباب وغيرهما من فلسطينيي المنفى.
ولأن الكتاب يدرس موضوع الهوية وتشكلاتها وتطورها من مرحلة إلى أخرى فإنه لم يلتفت إلى إصدار حكم قيمة على الروايات من ناحية جمالية، فالجانب الشكلي والبناء الفني ظاهرة لا أهمية لها في معالجة الموضوع، وهذا يؤدي بدوره إلى تساوي النصوص وعدم تفضيل نص على آخر إلا بمقدار سؤال الهوية.
طبعاً لم يعالج الدارس الروايات رواية رواية ولم يلتفت إليها جميعاً بالمقدار نفسه، فنحن نقرأ تحليلا شبه مفصل لبعض الروايات ولا نقرأ عن روايات أخرى إلا بضعة أسطر أو فقرة أو فقرتين. إن مقدار اتضاح الهوية في هذه الرواية أو تلك هو ما يجعلها تحضر أكثر من غيرها وهذا أمر طبيعي جداً.
ما لفت نظري وأنا أقرأ المسودة عدم التفات الكاتب إلى روايات مهمة بخصوص سؤال الهوية، مثل رواية عطاالله منصور «وبقيت سميرة» وكنت عالجتها في كتابي «اليهود في الأدب الفلسطيني» عام ١٩٩١، وقد عاد الكاتب وتوقف أمامها لأنها ذات أهمية في هذا الجانب.
ما لفت نظري أيضاً هو عدم التوقف مطولا أمام سؤال الهوية في رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل». إن رواية حبيبي تعد الأبرز في هذا الجانب. حقاً إن منار مخول درس الرواية وكتب عنها بضع صفحات، ولكنه لم يلتفت في أثناء دراستها إلى فقرات غاية في الأهمية بخصوص سؤال الهوية، وهنا أشير إلى رسالة “سعيد في بلاط ملك” وكنت أتمنى لو حلل الدارس هذه الرسالة فهي أوضح ما في “المتشائل” في معالجة سؤال الهوية.
في “سعيد في بلاط ملك” يلتقي سعيد الفلسطيني المقيم المتعاون مع السلطات الإسرائيلية مع سعيد الفلسطيني اللاجئ الفدائي الذي تسلل للقيام بعملية فدائية، وهنا يثير سعيد المتعاون سؤال الهوية الخاص به. يعرف الفدائي القادم من لبنان لمقاومة الدولة الإسرائيلية نفسه قائلاً:
“فدائي ولاجئ”
ويسأل سعيدا المتشائل :
“وأنت ؟”
فيرد المتشائل :
“فتحيرت في هويتي كيف أنتسب أمام هذا الجلال المسجى الذي حين يتكلم لا يئن ويتكلم حتى لا يئن. هل أقول له إنني كبش ومقيم؟ أم أقول له دخلت إلى بلاطكم زحفا؟”، وهنا ينظر سعيد المتعاون إلى نفسه على أنه كبش مقيم يخجل من التعريف بنفسه أمام الفدائي الذي شبهه بالملك. هنا يشعر المتعاون بضآلته وصغره ويضيف مصورا مكانته إلى مكانة الفدائي :
“فسترت عورتي بأنين طويل.
فتحامل على نفسه فإذا هو منتصب أمامي بقامته الفارعة حتى رأيته يحني رأسه كي لا تصطدم بالسقف أو كي ينظرإلي”.
لم يكن الفدائي يعرف أن المتشائل متعاون، فحين أخبره الأخير أنه من الناصرة قال له الأول :
أهلنا الشجعان.
ثم سأل: شيوعي بالطبع؟
قلت: بل صديق
قال: أنعم وأكرم”.
وأعتقد أن هذه الفقرة تعبر عن شيء عميق يقبع في لاوعي إميل حبيبي الذي حين كان يكتب الأدب كان صادقا تماما مع نفسه، خلافا لكتابته المقال السياسي الذي كان فيه يجنح إلى الواقعية وإلى الممكن.
من الروايات المهمة التي كان يمكن أن يلتفت الدارس إليها أكثر رواية هي عزمي بشارة «حب في منطقة الظل»، وأعتقد أنها من الروايات المهمة التي تعالج سؤال الهوية وتشكلها في روايات فلسطين ١٩٤٨. لقد أهملت هذه الرواية ولم تنل ما تستحقه ربما لأن دارسين كثرا ينظرون إلى بشارة على أنه مفكر وسياسي لا على أنه روائي. إن الجانب اللغوي فيها ليسير جنبا إلى جنب مع التحولات التي ألمت بالمجتمع العربي الباقي الذي يعيش تحت الحكم الإسرائيلي، وفيه يشعر فلسطينيون كثر بالاغتراب والنفي، فإذا كانت اللغة معياراً لتحديد الهوية فإن عمر الذي يعرف غير لغة يجد نفسه كمواطن عربي في ظل الدولة الإسرائيلية يتكلم بالعربية المطعمة باللغة العبرية حيث تتسلل مفردات كثيرة منها، بحكم الواقع المعيشي والاختلاط باليهود، إلى لسانه وقاموسه اللغوي.
الكتاب الذي يستحق أن ينظر فيه المهتمون بسؤال الهوية وبمعرفة الروايات الفلسطينية في المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ لا يخلو من إشكالات لغوية في المصطلح، وهذا طبعا من آثار الترجمة.
تبدو بعض فقرات الكتاب ذات تراكيب مزعجة ومربكة للقارئ، وأعتقد أنه يمكن قول ما أراد المؤلف قوله بعبارات وتراكيب أوضح وأسهل. خذ مثلا خاتمة الفصل الثاني. إن ما ورد فيها يحتاج إلى كد ذهن حتى يستوعب، وعدا الغموض الذي غلب على العبارة هناك ترجمات لمفردات لا تبدو مستساغة، وفي العربية كلمات ومصطلحات مستساغة، خلافا للكلمات والمصطلحات غير المستساغة وغير المألوفة، مثل محجم واللامحو وما شابه. ومع أنني اقترحت المصطلحات العربية المستساغة التي نستخدمها في النقد الروائي إلا أنها غابت عن الترجمة التي أنجزها قاص ونظر فيها روائي.
وعلى الرغم من بعض المآخذ الأسلوبية والتحليلية يبقى هذا الكتاب مهماً لدارسي الرواية الفلسطينية في فلسطين ١٩٤٨، ولا ننسى قائمة البيبلوغرافيا التي لا نعثر عليها في كتب سابقة.
إن البيبلوغرافيا تبدو أيضا مهمة لدارسي تطور جنس الرواية في فلسطين ١٩٤٨ وللغة الكتابة لديهم، فالكتاب الذي رصد ٧٥ رواية لاحظ أن هذا الجنس كان قليلا من ١٩٤٨ إلى ١٩٦٧، صدرت ١١ رواية بينها رواية واحدة بالعبرية.
ومن ١٩٦٧ إلى ١٩٨٧ صدرت ١٩ رواية بينها روايتان بالعبرية، ومن ١٩٨٧ إلى ٢٠١٠ صدرت ٤٥
رواية بينها ٥ روايات بالعبرية، والإحصائية السابقة ذات دلالة مهمة جداً.
هل سيتحول قسم من كتاب الداخل إلى الكتابة بالعبرية؟
لقد بدأ ذلك كتاب أبرزهم انطون شماس وسيد قشوع، وقبل أن يكتب هذان وقبلهما عطا الله منصور بالعبرية كان الأدباء يكتبون بعربية فصيحة تتخللها بعض مفردات عبرية، ولو نظرنا في كتابات سميح القاسم النثرية وفي روايات إميل حبيبي كلها فلن نعثر إلا على بضع كلمات بالعبرية. إن صدور خمس روايات لأدباء عرب باللغة العبرية لهو مؤشر دال على تحول في هوية الفلسطينيين في الداخل، وإذا ما توقفنا مثلا أمام رواية اللبناني الياس خوري «أولاد الغيتو: اسمي آدم» وقرأنا الحوار في بدايتها بين الياس خوري وبطله آدم، حيث يعرف ابن اللد وهو في أميركا نفسه بأنه إسرائيلي، وتذكرنا بعض معارفنا ممن درسوا في أوروبا وعرفوا أنفسهم بأنهم إسرائيليون أدركنا التحول اللافت بخصوص سؤال الهوية. تقول طالبة الياس سارانغ لي له عن آدم الفلسطيني:
“إن الرجل ليس إسرائيليا، بلى إنه يحمل جوازا إسرائيليا، لكنه فلسطيني، أعتقد أنه من نواحي اللد، لكنه يحب الالتباس، ولا يمانع في أن يعتقد أنه يهودي” وأما موقف الياس منه فهو الآتي: “لم أهتم بطرائف هذا الإسرائيلي الذي يتقن العربية، أو هذا الفلسطيني الملتبس الذي يتكلم العبرية كأبنائها..”.
وأرى أن الكتابة باللغة العبرية لهو التعبير عن هذا التحول حتى لو لم تظهره الروايات، وإن قرأ المرء في رواية سليم خوري «روح في البوتقة» التي تنتمي إلى المرحلة الثانية ( ١٩٦٧ – ١٩٨٧ ) كتابة مطولة عن علاقة العرب باليهود.
ولعل ما غاب عن ذهن المؤلف هو الالتفات إلى رواية ثيودور هرتسل «أرض قديمة – جديدة » التي ترجمها الإسرائيليون إلى اللغة العربية. إن كثيرا من الروايات التي درسها الدارس تعالج أفكارا كان هرتسل أتى على ما يشبهها في روايته، وتحديدا ما يخص موقف الصهيونية من سكان البلاد العرب وتحديثهم. وكانت الترجمة العربية للرواية أنجزت في ستينات القرن العشرين.
ومع ما سبق فإن الكتاب جدير بأن يقرأه الدارسون وكتاب الرواية الفلسطينية.