يرى المؤرخون والباحثون الفلسطينيون أنّ مذكرات وسير ويوميات وشهادات الشخصيات الفلسطينية في القرنين العشرين والواحد والعشرين تُعدّ وثائق ومصادر هامة وثرية للتعبير عن الكينونة والهوية الفلسطينية وإعادة بعثها، وحفظها وأرشفتها ودراسة التاريخ الفلسطيني بتشعباته. وفي هذا السياق، تأتي سلسلة “ذاكرة فلسطين” التي يشرف على إصدارها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والتي كان آخر ما صدر عنها كتاب «عودة إلى الوطن: سيرة ذاتية ورؤية تاريخية (1994-2001)»، وهو سيرةٌ لمؤلّفه القيادي السياسي الفلسطيني المخضرم نبيل شعث (وُلد في 9 أغسطس 1938 في مدينة صفد المحتلة)، يغطّي فيه مراحل من مسيرته السياسية والدبلوماسية، منطلقاً من يوم عبوره ومن معه من رفاق الدرب، معبر رفح الحدودي من مصر متجهاً إلى غزة حيث قام بمتابعة ترتيبات تنفيذ اتفاق أوسلو. واصفاً ذلك اليوم بكثير من الحماس والمشاعر: “كان يوم دخولي إلى الوطن في 19 أيار/ مايو 1994 يوماً من أجمل أيام العُمر، كان ذلك عقب انسحاب القوات الإسرائيلية وإعادة انتشارها في قطاع غزة وأريحا بيوم واحد. تجسّدَتْ في يوم عودتي إلى الوطن رومانسية العودة التي بقيت في قلبي وفكري منذ غادرنا يافا إلى مصر عام 1947 وعليها ربّيت أولادي، كان ولداي، علي ورامي، يتصوّران أنّ برتقال غزة وثمار البوملي الخضراء الكبيرة من أريحا من ثمار الجنة، وكانت ابنتي رندا تتصوّر أنّ الزيتون وزيت الزيتون الذي كان يأتينا من الضفة أو من الجليل الأعلى من نتاج الجنة أيضاً”.
يبدأ المؤلّف في القسم الأول من الكتاب السيري الضخم (591 صفحة من القطع الكبير)، الذي نستعرضه، بسرد ما تحتفظ به ذاكرته من تفاصيل العودة إلى جزء من أرض الوطن في أيار/ مايو 1994 بعد توقيع اتفاق غزة – أريحا في القاهرة. سارداً فيه محطات من مرحلة نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية في غزة وأريحا، ثم في الضفة الغربية، ومسار عملها على الصعيدين المحلي والدولي، وخطوات بناء مؤسساتها السياسية والإدارية وتطويرها، وأجهزتها المختلفة؛ كتأسيس جهاز وزارة التخطيط وتطويره، وكذلك الجهاز الدبلوماسي الذي حقق حراكاً دولياً، وتأسيس الصناعات المختلفة ومشاريع التنمية ومراحل تطوّرها، مفصلاً كيف بُنيّ الاقتصاد الوطني الفلسطيني، وبنيته التحتية ورموزه، مستعرضاً كذلك، المواجهة المستمرة مع الاحتلال الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي.
كما يبيّن شعث، جوانب عدة من العلاقة مع المحتل الإسرائيلي، فيروي تفاصيل لقاءات ومحادثات واتفاقات كان هو -بحكم موقعه القيادي في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الناشئة آنذاك- جزءاً منها، موضحاً تقييمه لعملية السلام ونتائجها.
وفي السياق يتحدث، عن قناعته أنّ الحكم الأميركي الانفرادي الظالم لعالمنا مصيره إلى نهاية، وأننا سوف نشهد عالماً متعدّد الأقطاب خلال الأعوام القادمة، هو بالضرورة أكثر عدالة وتوازناً من عالم تحكمه أميركا.
كتابةٌ بروح النبلاء
“أحببتُه وتعلّمت منه، وناضلت إلى جانبه واختلفت معه أحياناً، إلى أن بكيته شهيداً. ترك أبو عمار بصماته في حياتي إلى اليوم”. بهذه الكلمات المؤثرة يستذكر شعث زعيم الثورة الفلسطينية الشهيد ياسر عرفات. وبروح النبلاء يرسم ملامح الشخصيات التي عاصرها وعايش الأحداث الجسام معها على مدار سنوات النضال والبناء في رحلة العودة المنقوصة إلى جزءٍ من الوطن المحتل، غير خافيٍ أخطاء السلطة الفلسطينية ولحظات فشلها ومحاولات التصحيح.
كذلك يستذكر القيادي الفتحاوي، مرحلة هامة من مراحل تطبيق عملية السلام بين عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي حينها إسحاق رابين في غزة وأريحا، حتى اغتيال الأخير على يد متطرّف صهيوني وتولّي شمعون بيريز الحكم في إسرائيل، ثم بنيامين نتنياهو، مروراً بعودة “حزب العمل الإسرائيلي” إلى الحكم بقيادة إيهود باراك، ومفاوضات كامب ديفيد عام 2000 التي أدّى فشلها إلى اندلاع انتفاضة الأقصى، وبداية مرحلة جديدة في مواجهتنا للاحتلال الصهيوني لبلادنا. ملقياً الضوء على التغيّرات الاستراتيجية في المنطقة والعالم وانعكاساتها على منطقتنا.
خلاصة مسار النضال الإنساني والسياسي الطويل يلخصه شعث في قوله: “عملت طوال عمري منذ سنّ العشرين، فأصبتُ أحياناً، وأخطأتُ وفشلتُ أحياناً أخرى، تعلّمت من أخطائي وحاولت جهدي ألا أكرّرها، لكني لم أيأس في يوم من الأيام؛ إذ عشتُ حياتي متفائلاً – وما زلت – أرى الضوء في آخر النفق، وأؤمن إيماناً مطلقاً بعدالة قضيتنا وبإنسانية ثورتنا، وبحقّ شعبنا في أرضه وحريته ومستقبله الواعد، وبصمود شعبنا الأسطوري على أرضه المقدّسة، عاشقاً لبلادنا وكفاح شعبنا وتقديمه التضحيات من دون حساب، مدركاً أنّ أمّتنا العربية ستبقى معنا، وستشكّل في النهاية الرافعة الحقيقية لخلاصنا وانتصارنا، مثمّناً دور كل من يقف إلى جانب قضيتنا من أنحاء العالم كلّها. لم أفقد هذا الأمل أبداً، ولم تغبْ عني رؤية النصر القادم، ولم أشعر بالهمّ في حياتي السياسية إلا عندما كنا نخسر وحدتنا، وبقيتُ عاملاً دون كلل لتحقيق هذه الوحدة والحفاظ عليها وتنميتها في ساحة الحركة والوطن والأمة. أدرك أنّنا شعب يواجه عدواً شرساً يدعمه حلفاء أقوياء، وأنّ قضيتنا صعبة تتطلّب الصبر والشجاعة والحكمة، ولذلك فإنّني أطلب من الله – سبحانه وتعالى – أن يمنحني القوة والعزم لتغيير ما يمكن تغييره، والصبر على تحمّل ما لا يمكن تغييره في هذه المرحلة، والحكمة لأفرّق بينهما”.
سيرة شعب وتاريخ كفاحه
يقدّم نبيل شعث في مذكراته الممتدة على ثلاثة كتب، مرحلة من أكثر مراحل التاريخ الفلسطيني تعقيداً عبر قراءة موسعة لما عاش وخبر من أحداث ساهم فيها أو تركت أثراً على حياته، كل ذلك في إطار عميق من المرجعيات الفكرية والثقافية التي تساهم في جعل منجزه أكثر من مجرد سيرة ذاتية، بل سيرة شعب وتاريخ كفاحه الوطني والسياسي لنيل حقوقه الوطنية المشروعة.
ويلاحظ المتابع لهذه المذكرات التي كان أوّلها: «حياتي.. من النكبة إلى الثورة: سيرة ذاتية» (دار الشروق- 2016)، كيف أنه يحاول الجمع بين المذكرات الشخصية والرؤية التاريخية، ذلك أننا –بحسب الناشر-، “لسنا إزاء سياسي عادي يريد أن يستعرض حياته ونجاحاته، ولا نقف في مواجهة مثقف يعيد تفسير ما جرى وفق جدليات نظرية، بل نحن إزاء رجل ساهم بقدر كبير في صناعة تاريخ شعبه عبر مشاركته في قيادة الحركة الوطنية ومؤسسات النظام السياسي في المنفى وبعد العودة إلى الوطن؛ حيث كان على رأس الدبلوماسية الفلسطينية وأحد أهم أركانها”.
ويتناول شعث في هذا الكتاب الفترة منذ بداية الغزو الصهيوني لفلسطين ونكبة شعبها في عام 1948، والحروب العربية – الإسرائيلية، مروراً بنشأة منظمة التحرير وانطلاقة الثورة الفلسطينية بقيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، ومرحلتي الأردن ولبنان، وملحمة بيروت في عام 1982.
وفي «حياتي.. من النكبة إلى الثورة: سيرة ذاتية» يذكر شعث، أنّ أصل مشروع الدولتين إنما جاء باقتراح من البروفيسور روجر فيشر أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفرد، “أتي فيشر لإقناع القادة الفلسطينيين بالفكرة قبيل انعقاد مؤتمر فتح في دمشق عام ١٩٧١”، ويعلق أنّ الموضوع نوقش بتعمق في (مجلس التخطيط الفلسطيني) وكان أبو اللطف (فاروق القدومي) قريباً من هذه الفكرة، فيما كان هو “رائداً لفكرة الدولة الفلسطينية الديمقراطية اللاطائفية”، وهي التي تحدّث عنها ياسر عرفات في خطبته الشهيرة بمقر الأمم المتحدة عام 1974، والتي رتب لها شعث، بحسب قوله.
وكان صاحب المذكرات، قد رأس في كانون الثاني/ يناير 1969، وفد حركة “فتح” في (مؤتمر نصرة الشعوب العربية) في القاهرة، وقاد يومها فريقاً من الناشطين من شباب “الإعلام الخارجي” للإعداد والمشاركة في إطلاق فكرة الدولة الفلسطينية الديمقراطية، وقام بإعداد الكلمة، وما قدّم من مقترحات للبيان الختامي للمؤتمر وقراراته المرتكزة على فكرة التحرير الذي يطرح -كما يقول- “حلاً إنسانياً تقدمياً”.
والكتاب الثاني عنوانه: «من بيروت إلى فلسطين: عملية السلام في الشرق الأوسط» (دار الشروق- 2019)، وفيه تناول ما واجهته الثورة الفلسطينية بعد الخروج من بيروت؛ من مبادرة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، ومذبحة صبرا وشاتيلا، والانقسام الفلسطيني، ثم استقرار القيادة الفلسطينية في تونس، والعمل على استعادة الوحدة الفلسطينية، وانطلاق الانتفاضة الأولى وآثارها، ومشروع السلام الفلسطيني، وإعلان قيام دولة فلسطين في عام 1988. كما يُغطّي مرحلة المفاوضات والسعي إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط، بدءاً من اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، مروراً بمؤتمر مدريد للسلام، ومفاوضات واشنطن، ومن ثم اتفاق أوسلو، انتهاءً باتفاق غزة – أريحا.
أما الكتاب الثالث والأخير، «عودة إلى الوطن: سيرة ذاتية ورؤية تاريخية (1994-2001)»، فهو الذي استعرضناه أعلاه.