يروي الكاتب والمحامي الفلسطيني رجا شحادة، الذي يكتب بالإنجليزية، في كتابه الأخير، "ما الذي يخيف إسرائيل من فلسطين؟" (2024) What Does Israel Fear From Palestine، حكاية لافتة للانتباه عن الشاعر الفلسطيني الكبير، الغائب الحاضر، محمود درويش. حكاية قد تبدو عابرة، ولكنها تدلُّ على حصافة درويش، وفهمه العميق للتاريخ، وتصوره وإدراكه لدور المثقف العضوي في المجتمعات والأمم التي تتعرض هوياتها للمحو والإبادة. وليس هناك مثالٌ أكثر سطوعًا من أمثولة الشعب الفلسطيني، وسرديته، التي يسعى الكيان الصهيوني، وداعموه، والمتعاونون معه، إلى استبدالها بسرديته التي تطرد الفلسطينيين من الجغرافيا، وتشطبهم من التاريخ.
يحكي رجا شحادة عن مؤتمر دعت إلى عقده منظمة اليونسكو، التابعة للأمم المتحدة، في 8 كانون أول (ديسمبر) 1993، في مدينة غرناطة الإسبانية، تحت عنوان "السلام: اليوم التالي". وقد كان شحادة أحد المدعوين الذين شاركوا في المؤتمر. وكانت الغاية من هذا المؤتمر (بعد إتمام توقيع اتفاقيات أوسلو، في وقت سابق من ذلك العام)، حسب ما يروي رجا شحادة، هي جمع المثقفين الفلسطينيين مع نظرائهم الإسرائيليين، وكذلك ممثلين عن مثقفي العالم العربي، لإعطاء شرعية ثقافية لما كان يحدث على جبهة السياسة، من توقيع على معاهدات "سلام" في المنطقة. لم يكن مطلوبًا من الحاضرين قول أي شيء، أو تقديم أية مشروعات أو اقتراحات، بل المطلوب فقط هو أن يكونوا "سهلي القياد"، منصاعين لما يقوله المنظمون، كما يقول شحادة. (ص: 37) ويروي الكاتب الفلسطيني أن شمعون بيريس، الذي كان حينها وزيرًا للخارجية الإسرائيلية، ظهر فجأة في القاعة التي يعقد فيها المؤتمر. لم يقل أي كلمة، ولم يتحدث مع أحد، وبقي بضع دقائق، ثم غادر ليلحق بموعد رحلة الطائرة التي سيستقلها. كانت الغاية من حضوره أن يقول الحاضرون إنهم التقوه في المؤتمر، كما يستنتج شحادة. مجرد رسالة للقول إن المثقفين والأكاديميين الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب بدأوا يصنعون السلام، وها هو بيريز يبارك ما يفعلونه. مجرد احتفال، مجرد مشهد، وعرض مسرحي، لا أكثر.
فما هي علاقة محمود درويش بالمؤتمر، وصلته بالحكاية التي يرويها رجا شحادة في كتابه الذي يشرح فيه، ولقرائه في الغرب، كيف أن إسرائيل، في الحقيقة لا تريد السلام، وتتخوف من وجود الفلسطينيين ذاته، وتتمنى أن يتبخروا ويختفوا؟ لقد أردت أولًا أن أوضح السياق الذي جرت فيه الأمور، والخلفية التي يتحدث عنها الكاتب. يقول شحادة إن من بين القلة التي رفضت حضور المؤتمر محمود درويش. وفي تعليق على رفضه المشاركة في المؤتمر، قالت مستشارة شمعون بيريس الثقافية، المشاركة في المؤتمر، إنها سبق أن وجهت رسالة لدرويش عندما غادر فلسطين عام 1971، والتحق بمنظمة التحرير، وإنها في الليلة السابقة للمؤتمر أعادت قراءة تلك الرسالة، ثم كتبت له رسالة ثانية، وهي تريد قراءتها للمشاركين. تقول الرسالة: "أين أنت يا مخمود درويش؟ (وقد لفظت الحاء خاء، إذ لا يتقن اليهود الغربيون الأشكناز نطق الحاء) لماذا لم تأت إلى هذا المؤتمر؟ الآن في وقت السلام، وبينما يجتمع الطرفان، أين أنت، يا مخمود درويش؟" (ص: 39) ويستنتج رجا شحادة من هذه الواقعة أن محمود درويش كان أكثر حكمة وذكاء في بقائه بعيدًا عن مثل هذه التجمعات، رغم الضغط غير العادي الذي لا بدَّ أن منظمة التحرير الفلسطينية قد مارسته عليه، في ذلك الوقت.
ما لا يذكره رجا شحادة، أو ربما لا يتذكره، أن محمود درويش كان قد استقال من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بعد توقيع اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل، وقال حينها إنه لا يشعر أنه جزء من هذا المشروع الذي اختارته منظمة التحرير، ولا يستطيع المشاركة في ما قد يقود الشعب الفلسطيني إلى مستقبل مجهول. مثله مثل إدوارد سعيد، كان محمود درويش معارضًا لأوسلو. لربما كانت معارضته أقلَّ حدة من إدوارد سعيد، الذي وصف ما حصل في اتفاقيات أوسلو بأنه استسلام، وخضوع للإرادة الإسرائيلية، بل قال، بصراحة ووضوح، إنه خيانة لآمال الشعب الفلسطيني، وبحسب تعبيره فقد كان "معاهدة فرساي فلسطينية". ومع ذلك، فإن درويش، ولكونه جزءًا من هذا الإطار الواسع المسمى "منظمة التحرير"، واختلاف ظروفه عن ظروف إدوارد، الذي كان أكاديميًّا أمريكيًّا مرموقًا، وأستاذًا مرتاحًا في عمله بجامعة كولومبيا، بقي معارضًا لأوسلو، دون أن يحدث شقاقًا بينه وبين المؤسسة السياسية الفلسطينية. لقد شنَّ إدوارد سعيد حملة شرسة على المنظمة، واتهم ياسر عرفات بالاستسلام، والخضوع للضغوط، وخيانة آمال شعبه، وكتب عشرات المقالات التي تتهم رجال منظمة التحرير بالتفريط، وربما الخيانة. أما محمود درويش فقد آثر الابتعاد عن شؤون السياسة اليومية، وتفرغ لتطوير تجربته الشعرية، وإصدار مجلة "الكرمل"، التي كان يرأس تحريرها، ويقرأ موادها، ويكلف الكتاب بالكتابة في المجلة، ويلاحقهم لكي يفوا بوعودهم.
كان محمود درويش، رغم كل ما يقوله أعداؤه عنه، وما يشيعه الغيارى من شهرته وموهبته (ومن قدرته على الوصول بقصيدته إلى ذرى لم يبلغها شاعر عربي آخر، منذ سبعينيات القرن الماضي)، ضميرًا ثقافيًّا للفلسطينيين. لم يكن مجرد شاعر كبير، ومبدع خلاق، فقط، بل كان رمزًا ثقافيًّا، في أوساط الشعب الفلسطيني، يعبر بعمق عن مأساة شعبه، ويحاول استشراف مستقبل فلسطين، من خلال الشعر، وكذلك من خلال النثر الفياض الذي كتبه، وعبر الحوارات التي كانت تجرى معه. ولعله لهذه الأسباب مجتمعة: الشعر المبدع الخلاق الذي يوسِّع دائرة السرديَّة الفلسطينية، ويجعلها جزءًا من وعي العالم بهذه القضية، والمواقف الشجاعة في القضايا الوطنية، وقدرته على التمييز بين الهامشي والجوهري في المواقف السياسية والوطنية، يُذكر، ويستعاد شعره، في زمن الإبادة الجماعية التي ترتكب بحق الفلسطينيين، وتُتَذكَّر مواقفه، الآن، وبعد حين.