بعد إلحاح من صديق، ذهبت لفعالية ثقافية نظمتها إحدى المبادرات الزراعية التي تنادي بضرورة تعميق العلاقة مع الأرض من خلال زراعتها، باعتبارها عَملية ثقافية. نستطيع القول إن هذه التركيبة الثقافية - الزراعية عادة تحتضنها رام الله باعتبارها "عاصمة الفعل الثقافي".
يومها حطّت رحالي في المزرعة (مسرح الفعل الثقافي)، وأنا الفلاح الذي قذفته الظروف للمدينة الثقافية. ولم أتصور يوماً أن فِلاحَتي لأرضنا هي نشاط "ثقافي شوفاني"، بل أفعل ما أفعله لأنها هذه حياتي، وَبدونها أصبحت لست أنا.
تجمعنا نحن جماعة "المُتفلّحين" في المدينة، وحين وصلنا المزرعة، استقبلنا القائمون على المبادرة، وباشروا بالحديث عن رؤيتهم للزراعة بوصفها توطّد العلاقة بين الفلسطيني وأرضه. في تلك اللحظة، قفزت لرأسي كلمات الوالدة ذات طابع "البهدلة" بسبب تقصيري في "نكش" الأرض أمام منزلنا. كنت أستمع للمتحدث الذي لا يُشبه الفلاحين الذين أعرفهم في قريتنا، وطوال الوقت كنت أتساءل هامساً بصيغة كوميدية مع صديقي: "أمي لو تعرف إني جاي أفلح هون وتارك الحاكورة باب الدار شو بدها تعمل فيّ؟".
بين المزارع والفلاح
في ندوة نظمت عام 2021، بعنوان "تحرير الفلاحة: الزراعة من أجل التحرير"، التي أكّد منظموها على ضرورة التفريق بين الزراعة باعتبارها مهنة، والفلاحة بوصفها منهج حياة للريفي. في حينها، أكد المهندس الزراعي سعد داغر أن الزراعة مهنة مفرغة من الإبداع الإنساني، في مقابل الفلاحة التي هي منهج حياة متكامل للريفي، يقوم على أساس الانسجام مع كل عناصر الطبيعة والذات. وبلغة المُعلم منير فاشة، فإنها هي عملية مجاورة متواصلة دائمة، مبنية على أساس التعاون، وهي حالة تدفق وعي.
تحدث داغر بإسهاب في مقالةٍ له بعنوان "بين الزراعة والفلاحة.. المسافة تطول" عن الفروقات بين الفلاحة والزراعة، مُعتبراً أن الاستعمار الصهيوني يسعى إلى تكريس نموذج الزراعة بدل الفلاحة. ويضيف أنه حين تكون فلاحاً بحق، من الضرورة بمكان أن تتقن الزراعة.
الفلاحة كما يقول أصحابها تعني طريق العيش في الخير والنعيم، وهذا يساوي الشعور بعيش حياة البركة، التي تعني إحساس الوفرة، لأن الفلاح يفهم كيف يُكيّف خير الأرض إنتاجاً، أو يفيض من خير السماء غيثاً وماء. وهي دلالة ليست مُبتدعة، فَبالعودة إلى أصل كلمة "الفلاح"، نجد أنها من الفعل "فَلَحَ"، بمعنى "الخير الباقي أثره". وتعني النجاح والفوز، وكذلك صاحب الأثر الباقي حتى بعد رحيله. أما المزارع، المشتقة من "زرع"، وهو من ألقى بذرة في التربة ودفنها، أو غرس غرسه في الأرض، وهذا لا يشير إلى النتيجة، إنما للعملية فقط.
هذه الفروقات بين مهنة الزراعة وحياة الفلاحة هي ليست أمراً هامشياً، ولا هي نظرة سطحية، وإنما تؤسس لمنهج الحياة المرتبط بهما. وعليه، يمكننا قراءة الفعل الزراعي مهما كبر وامتد واتسع في المدينة وهوامشها. فسعي هذه المبادرات الزراعية "الثقافية" إلى إعادة إحياء الفلاحة، التي تمت مَتحَفَتُها إثر التحولات التي سحقت المجتمع الفلسطيني بعد توقيع أوسلو والمرحلة الفياضية، عملية الإحياء هذه (إذا سلّمنا بموت الفلاحة) تشوبها شوائب عدة، منها تعاملها مع الفِلاحة على أنها "فعاليات"، إذا ما استُدعيت يكتمل النصاب، وهذه نظرة تغضّ الطرف عن القيم التي يحملها الفلاح الذي يقوم بتلك الفعاليات والطقوس.
كما يستعصى على هذه المبادرات استرجاع قيم مثل العافية والعونة، التي لا يمكن ترجمتها إلى طقوس وفعاليات، لأنها في صلب بنية العيش في الريف وحياة الفلاحين، التي هي نشاط طبيعي يتوالد ضمن السياق الاجتماعي والثقافي والإنساني، وهي قيم متأصّلة في ذات الفلاح، وتشكّلت ذاته في داخلها، وليست نشاطاً أو طقساً يُرتّب له كفعالية مؤقتة أو لحظية. ولعل سوء الفهم والقصور هذا جاء نتيجةً لترك التُربة واعتناق ثقافة "القبيلة الأورو- أمريكية"، "بتعبير منير فاشة"، التي قطعت هذا الحبل الواصل بين الإنسان والأرض، وخلقت علاقات ورؤى جديدة، أزّمت النظرة إلى الفِلاحة والفلاح، وكذلك نظرة الفلاح إلى ذاته وعلاقته بها.
"ما أجمل الريف، ما أشقى الفلاح"
يقول وليد سيف في رائعته (التغريبة الفلسطينية 2004) على لسان الطالب الفلاح علي صالح الشيخ يونس، الذي يرد على زميله "المدني" الذي كال المديح على الريف وحياة الريفي باعتبارها جميلة وخضراء، وأن الفلاح يعتني بالأرض، قائلاً له: "الريف جميل بمناظره وخضرته وسهولة، يزوره الناس للتمتع به، إلا أن الريفي نفسه لا يتمتع بها كغيره، لأنه يعيش حياة مليئة بالشقاء". هذه الفكرة يُمكن قراءتها قراءة أخرى بعيداً عن توظيفها في السياق الدرامي، حيث تحيلنا إلى النظرة الرومانسية للفلاح التي تقابلها نظرة الفلاح لذاته، التي يشوبها التعقيد.
لا تنحصر رؤية الفلاح بأنه حِصن البلاد الأول، باعتبار الأرض هي رأس هرم المشروع الاستعماري الصهيوني، بل ما يراه حقيقةً أن عمله في الأرض هو إيذان بوجوده، ولا يرى نفسه في هذا العالم بدون عملية فلاحته لأرضه التي تساعده في اتّساقه مع ذاته، باعتباره فلاحاً؛ فلا معنى لأن تكون من غير هذه العلاقة المنغمسة وَالمجبولة بتربة الوطن.
لقد حوّلت منظومة الإنتاج الرأسمالي العلاقة مع الأرض، إلى كونها مشروعاً اقتصادياً يمكن من خلالِه تحقيق مكاسب مادية، وقد تجسد هذا "العنف المفاهيمي" في حوار بين مستثمر اقتصادي "مدني" وفلاح في الريف، حاول المستثمر إغراءه لشراء أرضه: "كم بتطلع مصاري من هالأرض؟ بعطيك ضعفهم"، وتأتي مقولة هذا المستثمر ترجمةً وصورةً للفهم الرأسمالي المادي إلى العلاقة بين الفلاح والأرض، التي تجردها من القيم وتحول هذا الارتباط العميق إلى عملية إنتاجية.
إن الرؤية العميقة للأرض عند الفلاح تستعصي على فهم هذا التسطيح والتجريد، لذا يأتي الرفض ضمن سياق عملية سوء الفهم تلك؛ وبهذا لن يفهم أحدهما على الآخر، لأن كل منهما يرى العالم بعيونه، وأحدهما حوّل العلاقة مع الوجود إلى صفقة تجارية. فالحسبة المالية من منطق الربح التي يتعامل بها النشطاء في المبادرات الزراعية "الثقافية"، تتنافى مع جوهر الفعل الفلاحي الذي لا يتعامل مع الأرض من منطق الربح والخسارة المحسوبة مالياً، لأن العلاقة بين الفلاح والأرض عبر سلسلة دورات الفلاحة هي ربح مستمر لكليهما، وشرح هذا عند الفلاحين يطول، لكنه يعتمد على إيمانهم بإدامة فلاحَتهم واستمرارها، التي لا تتوقف على مشروع أو مبادرة؛ فالأمر هو نهج حياة.
لا يختص المستثمرون الرأسماليون بهذا القصور، بل هناك نظرة قاصرة رومانسية للمثقف تجاه الفلاح والفلاحة والأرض، نظرة تصور حياة الفِلاحة بأنها شاقة نتيجة ظروف بعينها، ولا يتصور بأن هذا الشقاء مزية في حياة الفلاح الحُر، تأتي تمثيلاً للمثل الشعبي القائل "اللي أكله مش من فاسه، رأيه مش من راسه". وهذه النظرة بائنة، حتى وإن استعان بعض المثقفين بتلك الأمثال الشعبية لرسم صورة للفلاح على أنه يؤدي دوراً ثقافياً سياسياً، باعتبار الفِلاحة فعلاً مقاوماً.
المزارع الثقافي والفلاح
عوداً إلى الفعالية، كان المتحدث يومها يشيد بالزراعة باعتبارها فعلاً مقاوماً، ولا سيما تحت استعمار يسعى جاهداً بكل السُبل لقصّ الحبل السُري بين الفلسطيني وأرضه. وفي حديثه عن توصيف تلك العلاقة، استعان المتحدث باللغة الإنجليزية، قافزاً عن معجم الفلاحين المتوارث الذي يؤصل للعلاقة التاريخية، وكان هذا برأيي تذكيراً لنا بأننا في "فعالية ثقافية" ذات طابع زراعي، ولكن خارج مكاتب المؤسسات، الأمر الذي دفعني إلى الانتباه لتفاصيل أخرى في تلك المزرعة وهذا النشاط الثقافي. فحين دقّت ساعة الإفطار، أشار لنا المنظمون إلى الأكل من خيرات المزرعة: إبريق الشاي المحروق، ومنقوشة الزعت، وقلاية البندورة، وهذه الإشارة المتكررة إلى أن الطعام صُنع من خير الأرض تأتي في سياق محاولة إضفاء طابع "الفِلاحة" على المُبادرة. إلّا أن "بروتوكول" الأكل لا يخلو من لمسة المؤسسة الثقافية، الفرق أن هذا "الإفينت/Event" كان في الهواء الطلق، لهذا تحول هذه "الفزلكات" الثقافية المنقوشة إلى "كرواسون بالزعتر".
المعنى الحقيقي للفِلاحة يشير ببساطة إلى طريقة العيش، وهذا يساوي الشعور بالبركة التي تعني إحساس الوفرة في ما لدينا من خير، مهما قلّ أو زاد في الكمية، لأننا في حياة الفِلاحة نعرف كيف نتكيّف ونرضى بما يأتينا من خير الأرض إنتاجاً وبركة. فالفلاح، كما وعيت عليه، لا يكون حريصاً على أن يكون قوت يومه من الأرض، بل يأتي هذا نتيجة لنمط العيش القائم على "البركة"، وهي قيمة متجذرة لا يمكن توليدها، فهي تتفاعل داخل الحياة الريفية للفلاح، لهذا لن تكون عملية صناعة "قلاية البندورة" على النار في الهواء الطلق ممارسة فلاحية، بل طقس ثقافي تراثي يستدعى الإرث الفلاحي. وبامكانكم مجاورة فلاح حقيقي تقليدي لتنتبهوا إلى الفرق الكلي في نظرته لفكرة الطعام في الأرض وسياقها.
فَمشهدية طهي قلاية البندورة "المُشحبرة" على حطب الموقدة في حياة الفلاح، التي يبرهن السياق على طبيعتها، وأن طبيعتها هي تجسيد لحياة الفلاح الشاقة بطبيعتها، بعكس الطهي على النار في المزرعة، لأغراض نقل "طقس" فلاحي بدون سياق يضفي شرعية عليه، تظهر بالنسبة لنا كطقس مقحم. لقد طمست سياسات الاتجار و"رسملة" طعام الفلاحين قيم الأصالة وفرادة المذاق، وباتت شعارات لغرض التسويق للربح المالي، حيث تتصل قيم الأصالة والعافية في الطعام بالحميمية بين مُعد الطعام وآكله، لذا يستدخل معرفتك أو جهلك للطاهي في عملية الطهي، فمعرفتك إياه غير جهلك به. واللقمة الهنية في المثل القائل "لقمة هنية بتكفي مية" هي التي صُنعت بمحبة وإيثار.
الزراعة: تفريغ نفسي
لا يكون الاهتمام بالزراعة بالضرورة مأتاه ممارسة ثقافية نضالية على شاكلة زراعة الأرض بحكم القبوع تحت نظام استعماري يسعى لسلب الأرض، بل وكنتيجة للتداخل بين الثقافة والزراعة، باتت العلاقة مع الأرض تتم ضمن واقع مابعد استعماري (Post-colonialism). بلغة أخرى، لم يعد دافع التواصل مع الأرض ثقافياً/سياسياً/وطنياً، بل جرى التعامل مع عملية التواصل بأنها فرصة للتعافي النفسي والتأمل (Motivation) واليوغا وغيرها من "مهاترات" الحداثة.
في رحلة بحثه عن مهرب من شعوره بالاغتراب، وجد المثقف الحداثي في الأرض مهرباً ومساحة تسهم في عودة سيلان الأفكار إلى رأسه، في محاولة منه لترميم ذاته (تعافي/Recovery) من خلال اتصاله بالأرض، يعود بعدها للمدينة محمّلاً بالنقد للمدينة والحداثة والمجتمع الثقافي المغترب عن الواقع. وتأخذ تلك الأفكار النقدية شكل تأملات مثقف في خلوته مع الطبيعة.
حالة الاغتراب عن المدينة، تفتش لنا عن حالة الاغتراب والجفاء بين الفلسطيني والأرض، التي تشكل رأس حربة معركته مع عدوه، وتحولت من ساحة قتال إلى مساحة للخلوة والتأمل، وباتت الحج إليها موسمياً فعالية ثقافية موسمية. امتد هذا الاضطراب وطال الفلاح الذي دفعته قسوة الواقع إلى هجر الريف وذهب إلى المدينة، وتحولت الأرض في الريف إلى ملجأ يحُج إليها مع نهاية كل أسبوع للتعافي. وهذا الدور والعلاقة الجديدة مع الأرض مرّ بعمليات "رسملة" - تحويلها إلى مشاريع اقتصادية رأسمالية - بالاستعانة بمنصات التواصل الاجتماعي، فباتت المزارع الثقافية الحداثية توفر لك تجربة اتصال مع الطبيعة وخلوة مع النفس من خلال الزراعة، إضافة إلى ممارسة اليوغا.
الفلاحة كهوية
في رحلة بحث المرء عن هويته التي بعثرتها الفروقات الطبقية والتقاليد الاقتصادية المستحدثة، وجد أبناء الطبقة الاقتصادية (البرجوازية المدنية) ما يجعلهم أكثر صلة بالمجتمع، ويحولهم إلى "أبناء هذه الأرض" بالمعنى الشعبي، فوجدوا ذلك في الأرض مدخلاً، ويمكن من خلالها إعادة رسم العلاقات من جديد تساعد في تدشين هوية اجتماعية، بدلاً من الاقتصادية التي أخرجته من المعادلة الشعبية للمجتمع، بعيداً عن الصورة النمطية أو القالب الاجتماعي الذي وضعت فيه الطبقة الاقتصادية. لهذا، تجدهم أحرص الناس على التواصل مع الأرض بالزراعة وتفليح الأرض، وربما تجدهم يزاحمون الفلاح لكي يثبتوا صدق نواياهم.
بينما الفلاح يشوب علاقته مع الأرض الاغتراب، غير مسبوق ربما، بسبب التحولات الطبقية التي قلبت هرم الهوية الفلسطينية، ما رسخ الاعتقاد لديه بأن الأرض ما هي إلّا مشروع اقتصادي خاسر، وطمست الدور الاجتماعي والثقافي والسياسي للأرض، ولم تتجاوز موازنة "حكومات الحكم الذاتي" للزراعة 1٪، فشعر الفلاح بأنه تُرك وحيداً مع أرضه يصارع وحش الاستعمار. وبما أن الأنفس ليست واحدة، قلة ممن هم عاشوا مع هذا الضنك وواجهوا الحالة، وكُثر هجروا الأرض، أو لنقل تبدلت مرتبتها وباتت ثانوية لديهم، ومن هنا استسهل البعض قرار بيعها لبناء مشروع اقتصادي (مصنع أو عقار).
بين الثري الراغب في ترميم هويته والصورة الاجتماعية الشعبية، والفلاح المغترب عن هويته، ظهر لنا المزارع الثقافي الذي بدأ يدشن المزارع في المدينة، التي لا تعني إطلاقاً الفلاحة كنمط حياة، بل منحت فرصة للثري بأن يُستَوعَب والفلاح في مجتمع ما، طالما أنهما قادران على الذهاب للمزرعة للممارسة "إفينت" زراعي فيها، وكذلك منحت للفلاح المأزوم رحلة نوستالجيا تهدأ خواطره. ولكن مشكلة عملية التثاقف هذه أن جوهرها ووجوّها بعيدان عن الأصالة؛ فالأول لم يتلقَ الثقافة الفلاحية من أهلها، والثاني شوشت اللغة الحديثة ذاكرته وصنعت له ذاكرة جديدة، ربما تتقاطع مع الأصلية، ولكن الأكيد أنها ليست أصيلة.
ختاماً، لا نرغب من خلال هذه المقالة أن نكسر مجاديف أحد يسعى لأن يقدم شيئاً لإصلاح واقع هذه البقعة المنكوبة، ولكننا نوجه نقداً جماعياً يمكننا البناء عليه، ويساعدنا في هدم بعض الأصنام الثقافية التي بنيت، ولتكن العلاقة مع الأرض هي عماد هذا البناء. وندعو للنظر مجدداً في تعريف بعض الأمور المتعلقة بالطبقة الاجتماعية الاقتصادية والفعل والنشاط الثقافي المؤسساتي، ومجتمع المدينة وعلاقة السلطة والنخبة الاقتصادية في ترسيخ هذه التوترات التي تسعى لقتل العلاقة مع الأرض، عبر تجريدها من الأبعاد الوطنية والاجتماعية والثقافية.