«مئة عام من العزلة» تتجاوز مشيئة كاتبها

مسلسل مئة عام من العزلة / معدلة.

أمل فارس

كاتبة من سورية

أما فيما يتعلق بتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي فقد طرح غابو في إحدى مقابلاته وجهة نظره حول الأمر وأهم النقاط التي تعترض ذلك فيقول: "لطالما كنت أسمع من القرّاء، إن كان ممن قرؤوا "مئة عام من العزلة" أو بقيّة أعمالي، "أعجبني كتابك لأن أُرسولا  إغواران تشبه جدتي"، "وأمارانتا تشبه عمتي كثيرًا"، "لأن الكولونيل بوينديا نسخةٌ عن والد صديقي".

للكاتب/ة

والحق يُقال إنّ "مئة عام من العزلة" لم تخرج عن مشيئة كاتبها وحسب بل خرجت من بين أيدينا كقرّاء ومن تحكّم خيالنا الفرديّ أيضًا، إلى فضاءٍ أرحب أسقطت فيه التَميُّز عن متلقييها ووسعت نطاق وصولها لفئة جديدة من الأشخاص، الذين ربما لم يقرؤوها يومًا.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

14/01/2025

تصوير: اسماء الغول

أمل فارس

كاتبة من سورية

أمل فارس

ومترجمة, تقيم حاليًا في ولاية نيويورك الأمريكية. تترجم عن اللغة الإسبانية وإليها. تتقن اللغتين الإسبانية والإنكليزية وهي عضو في جمعية المترجمين الأمريكية ATA وعضو في رابطة الكتّاب السوريين.

بينما كنتُ أتابع حلقات مسلسل "مئة عامٍ من العزلة"، الذي بدأ عرضه في الحادي عشر من ديسمبر الفائت، كنتُ أتنقّل بين عوالم ثلاث، عالم الرواية، وما بنيتُه في خيالي عن الشخصيات والأحداث، عالم السينما والصورة، وعالم غابو الواقعي، وما علق في ذاكرتي من عشرات المقابلات التي شاهدتها له، صوتُه وهو يسرُد كيف كتب الرواية، من أين استلهمها، التفاصيل الواقعية التي بنى عليها المشاهد.  كانت كلماته تتردًّد في ذهني "ليس هناك من حدثٍ في الرواية إلا وكان له وجود في الواقع"، فمن مشهد رؤية "أوريليانو" للجليد، الذي كان في الواقع استعادة لتلك الظهيرة عندما اصطحبه جدّه ليرى الجليد للمرة الأولى، إلى مشهد "ريبيكا" تلتهم التراب، وهي عادةٌ كانت لإحدى شقيقاته، وحتى الأبناء غير الشرعيين أو "الطبيعيين" الذين كانوا يتوافدون إلى منزل العائلة، وهم كناية عن أشقائه من والده خارج الزواج. وظاهرة الأبناء الطبيعيين شائعة في المجتمعات الإيبيروأمريكية عمومًا. وصولًا إلى الحرب الأهلية التي اندلعت في ماكوندو، وهي تمثيل مُصغّر عن الحرب بين اللبراليين والمحافظين في كولومبيا، بالتحديد حرب الألف يوم، التي تمثل جزءًا من سلسلة حروب أهلية رسمت خريطة التاريخ الحديث لكولومبيا منذ ما بعد الاستقلال بدايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. نلاحظ أيضًا الحقبة التاريخية التي اعتمد عليها تحديد شكل الحياة والبيوت والملابس، في مراحل تكوّن ماكوندو، وهي الفترة ما بين بدايات إلى منتصف القرن الثامن عشر، عندما كانت كولومبيا كما سائر مقاطعات أمريكا في نضالٍ للتّحرُّر من التاج الإسباني، ولعل رحلة خوسيه أركاديو بوينديا وأُرسولا ومن رافقهم من أبناء القرية، هي كنايةٌ عن رحلة تحرير غرناطة الجديدة (كولومبيا حاليًا) التي قطعها الجنرال سيمون بوليفار مع جيشه انطلاقًا من منطقة المستنقعات التي تُعرف بـ الجانو في فنزويلا حتى الجهة الشرقيّة من جبال الأنديز المحاذية لكولومبيا رغم وعورتها ومناخها شديد البرودة، لتجنّب الطريق التي كانت قوّات الجيش الإسباني ترابط فيه، فيحمي جيشه من مواجهة خاسرة، ليصل إلى بوغوتا مقرّ النيابة الملكية آنذاك ويحرّرها.

على أن مُشابَهة الواقع لم تقتصر على هذا وحسب، بل ما اكتشفه ماركيز بعد أن نُشرت الرواية عبر رسائل القُرّاء كان أبعد من ذلك، وهو وجود أشخاصٍ حقيقيين ولدوا بذيل خنزير، فيقول في مقالته "أمر إضافي حول الواقعية والأدب"1من كتاب فضيحة العصر El escandalo del siglo : " كان بإمكاني اللجوء إلى أيّ صورة أخرى، لكنّني اعتقدتُ أن التّخوف من ولادة طفلٍ بذيل خنزير هو الأضعف احتمالا لأن يطابق الواقع. إلا أنه وبمجرد أن بدأت الرواية بالانتشار، ظهرت اعترافات لرجالٍ ونساء في أماكن مختلفةٍ في الأمريكيتين، كان لديهم شيء يشبه ذيل الخنزير. في بارانكيجا، ظهر شابٌ في الصحف كان قد ولد ونشأ بهذا الذيل، لكنه لم يكشف عنه أبدًا، حتى قرأ مئة عام من العزلة.]..[. وبعد فترة وجيزة، أرسل لي أحد القرّاء صورة لفتاة من سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، وُلدت بذيل خنزير. وعلى عكس ما اعتقدت عند كتابة الرواية، فقد بُتر ذيل الفتاة من سيول وبقيت على قيد الحياة".

أما فيما يتعلق بتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي فقد طرح غابو في إحدى مقابلاته وجهة نظره حول الأمر وأهم النقاط التي تعترض ذلك فيقول: "لطالما كنت أسمع من القرّاء، إن كان ممن قرؤوا "مئة عام من العزلة" أو بقيّة أعمالي، "أعجبني كتابك لأن أُرسولا  إغواران تشبه جدتي"، "وأمارانتا تشبه عمتي كثيرًا"، "لأن الكولونيل بوينديا نسخةٌ عن والد صديقي". لذلك فالمرء يشعر بأنّ الشخصيات حية. وهذا غير ممكن في السينما، ففي السينما سيكون لهم ربما وجه أنطوني كوين أو صوفيا لورين أو روبرت ريدفورد، وهذا شيء لا يمكن تجنبه، ومحال أن يشبه أحد أجدادنا روبرت ريدفورد على سبيل المثال. لذلك فأنا أفضّل أن أترك الأمر للقرّاء. وكتبي هي روايات وستبقى كذلك، لذلك اسمحوا لي أن أكتب السيناريو والرواية، كلٌّ على حدى. فإن من مزايا الرواية أنها تترك هامشًا لخيال القارئ، وهذا غير ممكن في السينما، فالصورة نهائيةٌ في تحديدها للشخصية، هي تعريفٌ تام، ففي الصورة يعرف المرء كيف يبدو وجه الشخصية، إنما في الرواية مهما استفضنا في الوصف يبقى للقارئ إمكانية ملئ الحيز المتبقي". 

كنت أحاول أن أجمع قطع البازل لأكوّن وجهة نظرٍ واضحة حيال ما فعله الورثة بهذا الإرث العظيم، الذي هو من حقهم بلا شك، ولكنه في نفس الوقت تجاهلٌ كليٌّ لرغبة ماركيز، وما لاحظته أنهم حاولوا الالتفاف على معظم نقاط الاعتراض التي صرّح بها غابو ، فلما كان اعتراضه على تنفيذها كفيلم، نفذوه كمسلسلٍ من جزئين، يتكون الجزء الواحد من ثماني حلقات مدة الواحدة منها حوالي الساعة، ما أعطاهم مساحة أكبر لاستيعاب أحداث الرواية الكثيفة ومنع تحجيمها في ساعة أو أكثر قليلًا وهي مدة الفيلم. أشار إلى الاختلاف الكبير في ملامح وبنية الكولومبيين الجسدية مقارنةً بممثلي هوليوود الذين من المُرجّح أن يجسدوا الأدوار، فجعلوا العمل كولومبيًا خالصًا كتابةً وتمثيلًا وإخراجًا باستثناء ممثلٍ إيطالي وحيد اقتضاه النص لعب دور الشاب الإيطالي "بيترو كريسبي" خطيب "ريبيكا". كما أن مواقع التصوير أيضا كانت جميعها في كولومبيا، بين مقاطعة كونديناماركا في منطقة الأنديز في الوسط، ومقاطعتي لا غواهيرا و ماغدالينا حيث تقع قرية أراكاتاكا، مسقط رأس غابو على الساحل الكاريبي شمالا.

كانت هذه من أهمّ نقاط الاعتراض لدى غابو ولعلّ تخوّفه حينها، في جزء منه، راجعٌ إلى تعذُّر إمكانية فرض شروطه جميعها على صناع السينما الأمريكية، وفي الوقت نفسه، ربما لم تكن لديه الثقة بأن تنجح السينما المحلية الكولومبية في اخراج فيلم يُنصف الرواية. لكن الأمر اختلف كليًا مع ظهور نتفلكس، واستطاع نجليه رودريغو وغونزالو استغلال هذه النافذة بجميع مزاياها، وقد شاركا كمنتجين منفذين للعمل وحرصا على أخذ تحفظات غابو ومخاوفه جميعها بعين الاعتبار، باستثناء مساحة الخيال التي تحدّث عنها، والتي لا يمكن القبض عليها أو تجسيدها لأنها ببساطة ملك للقارئ ويستحيل أن تتطابق بين قارئ وآخر.

يعرض المسلسل في جزئه الأول أربعة أجيال من حياة عائلة بوينديا، من أصل سبعة في الرواية. مُتوفرٌ باثنتي عشرة لغة ومترجمٌ إلى 23 لغة من بينها العربية. وبنظرةٍ سريعةٍ على حسابات الممثلين المشتركين في العمل، ندرك من خلال يومياتهم وتصريحاتهم على منصاتهم، على وجه الخصوص "لاورا صوفيا غورويسو" (ريبيكا)، وهي من أجمل الشخصيّات النسائية في العمل، إلى أي مدى غيّر هذا العمل حياتهم إلى الأبد.

مثل الكثيرين بدأتُ متابعة المسلسل بشيء من التّوجس والأحكام المسبقة شبيهةٍ بالتي كانت لدي قبل أن أقرأ روايته الأخيرة "نلتقي في أغسطس"، أذكر ذلك التدرّج بين الاستنكار والاستغراب والرفض وحتى الامتناع عن القراءة في البداية، من ثمّ المونولوج الداخلي وصولا إلى مخاطبة غابو نفسه قبل البدء بالقراءة، وكأنني استأذنه قبل الاطلاع على نصٍ لم يرغب هو بأن يقرأه أحد سواه. بلا شك، وضعنا الورثة في أزمةٍ أخلاقيةٍ بين الحبّ والواجب، حبّنا لما يكتب ورغبتنا في قراءة عملٍ جديد له، وبين واجبنا احترام مشيئته، والحقيقة أننا سقطنا في الامتحان، لكن سقوطنا كان بريئًا، كنا شركاء في التواطؤ لكن بلا مقابل، لأجل الحب الخالص أمّا هم فلا، لأنهم سيتقاضون الملايين لقاء ذلك وهذا ينطبق على المسلسل ايضًا.

والحق يُقال إنّ "مئة عام من العزلة" لم تخرج عن مشيئة كاتبها وحسب بل خرجت من بين أيدينا كقرّاء ومن تحكّم خيالنا الفرديّ أيضًا، إلى فضاءٍ أرحب أسقطت فيه التَميُّز عن متلقييها ووسعت نطاق وصولها لفئة جديدة من الأشخاص، الذين ربما لم يقرؤوها يومًا.

 

هوامش

الكاتب: أمل فارس
  • 1
    من كتاب فضيحة العصر El escandalo del siglo

هوامش

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع