"سوريا بدها حرية..سورية بدها حرية"
يتردد صدى الهتاف في أذني كأن أيام الثورة الأولى حدثت بالأمس.
أحببت دمشق كما لم أحب مدينة أخرى. دمشق -التي زرتها مرة واحدة قبل زمن الثورة والحرب- بدت لي الأدفأ والأطيب والأحن بين سائر المدن العربية التي خبرتها. في دمشق رأيت ملامح من حميمية القاهرة، ومرح بيروت، وسلاسة عمّان. هناك شيء ساحر في تلك المدينة العريقة بالتأكيد. هناك طيبة بادية على أهلها وحزن مقيم فيهم بلا شك. هناك جمال في ساحة المسجد الأموي يأسر من يمر به، فيحمل أثره في القلب إلى الأبد. هناك أبد إذن مُستقره في القلوب، غير ذلك الأبد الثقيل الذي ظل جاثمًا على نفوس أهل سوريا عشرات السنين.
***
في عام ٢٠١٤ كانت تجربة عملي في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في مصر تقارب نهايتها، وكذلك تجربة الثورة، حين سافرت إلى الإسكندرية لإجراء سلسلة مقابلات مع مجموعات من اللاجئين السوريين. كان ذلك في مستهل محاولات آلاف السوريين النجاة عبر قوارب تعِد بالعبور إلى بر الأمان على الجانب الآخر من البحر المتوسط. مهمة العمل تلك التي لم تستغرق سوى أيام ثلاثة، تحولت تورطًا عاطفيًا لم ينتهِ مع نكبة اللاجئين السوريين.
أتذكر جيدًا عبد الغني، تاجر الملابس الميسور الذي فرّ بعائلته من غوطة دمشق إلى القاهرة بعد أن "نزل الصاروخ سوى البيت بالتراب". كان مسكنه في الإسكندرية خاليًا من أي أثاث، سوى حصيرة نظيفة. خلعت حذائي فورًا دون أن يطلب مني أصحاب البيت، وجلست متربعة على الأرض لأجمع حكاياتهم.
كيف فتح لي هؤلاء الخارجين توًا من مركز لاحتجاز "المهاجرين غير الشرعيين" في مصر مساكنهم المؤقتة وقلوبهم العامرة بكل الود والكرم؟ كيف تحولت سلسلة مقابلات هدفها سرد مأساتهم، إلى مجلس سمر تحدثنا فيه حول التاريخ المشترك والمستقبل المجهول، بينما يصرّون على أن أشاركهم ما تيسّر من طعام؟
أخبرني محمد، الشاب السوري العشريني حينها، حكاية عن خروج الفلسطينيين في نكبة ١٩٤٨: "أثناء خروجهم من ديارهم في فلسطين قال الأب لابنه: هات معانا كيلو سكر، فرد الابن: كفاية نص كيلو...سفرنا لن يطول".
أربعة عشر عامًا مر. طال السفر، وتكاثرت أوجه الشبه بين نكبة فلسطين ونكبة سوريا.
من بلد النكبة الأولى، التقيت بفؤاد، الفنان التشكيلي الفلسطيني الذي خرج تلك المرة من مخيم اليرموك مصممًا على الوصول إلى بلد أوروبي، حتى يحصل على جواز سفر يمكنه من العودة لفلسطين ورؤية أولاده. كرر فؤاد محاولة الفرار على ظهر القوارب مرة تلو الأخرى، غير عابئ إن كلفه ذلك حياته غرقًا في البحر.
في كل مرة كنت أشاهد أخبارًا عن غرق سوريين تعلقوا بأمل النجاة وقوارب الهجرة في عرض البحر المتوسط، كنت أفكر في فؤاد، وفي عبد الغني، ومحمد وحسن وخالد وعماد ورائد وعائلاتهم، وفي ذلك المسكن المؤقت في الإسكندرية الخالي من أي أثاث سوى حصيرة نظيفة، وفي أحاديثنا وابتساماتهم، متمنيةً لهم النجاة.
***
حين انتقلت للدراسة ثم العمل في الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، حملت معي إرث الثورة والهزيمة ونكبة اللاجئين السوريين. كنتُ أدير برنامجًا جديدًا معنيًا بشؤون اللجوء والهجرة القسرية، وتجدد تواصلي الكثيف مع اللاجئين السوريين بين الولايات المتحدة ولبنان.
في خريف ٢٠١٦، سألت مصطفى، الناشط السوري في مجال "الديمقراطية والعدالة الانتقالية"، والذي بالطبع خرج من سوريا في نهايات ٢٠١١ بلا أفق لعودة قريبة: "بعد كل تلك الخسارات والمنفى والشتات… هل يعتريك الندم؟ هل تتمنى لو أن الثورة لم تحدث؟". كان ردّه حاسمًا بأن طالبي الحرية لا يمكن أن يندموا، وليس أمامهم خيار سوى الاستمرار في السعي، علّهم يشهدون ثمار سعيهم يومًا ما... بَعُد أو قرب. أبهرني ثباته، بينما كنت أخلق لنفسي فقاعة من اليأس تعين على معايشة الهزائم المتتالية.
في شتاء العام نفسه، زرت عدة مواقع للاجئين سوريين في لبنان. التقيت في البقاع أطباء سوريين يعملون بمنتهى الجدية، ويذللون كل الصعوبات، يؤسسون مراكز طبية وتعليمية ويسعون إلى تطويرها وتحسين الخدمات التي كانت تقدمها للاجئين السوريين والفلسطينيين، كما للمواطنين اللبنانيين. سألت نفسي: كيف يقدر هؤلاء على هذه المثابرة بعد كل تلك الأهوال، بينما أجد أنا راحتي في اليأس؟
كنا نجلس في بار أبو إيلي نستمع لطائفة من الأغاني المصرية والفلسطينية واللبنانية، حين حكيت لغسان عن تورّطي العاطفي مع سوريا، وعن مقابلات الإسكندرية التي أفكر فيها كثيرًا. شاركته رأيي بأننا -معشر الثائرين الحالمين في مصر- نحمل وزرهم: وزر ملايين السوريين الذين ألهمناهم في ربيع ٢٠١١، فخرجوا طلبًا للحرية ينادون بإسقاط الأسد...نحن من "غررنا بهم"، ثم لم نكرم ضيافتهم، ثم صددنا أبوابنا في وجوههم. يدفعون هم من الأثمان ما لا طاقة لنا به، بينما نضجّ نحن بالشكوى.
سألت غسان الآتي من مخيم اليرموك عمّا إذا كان ربما يعرف فؤاد -الذي التقيته أنا في الإسكندرية- وبينما كنت أهم بسرد تفاصيل القصة، قاطعني غسان قائلًا إنه "طبعا يعرفه"، وزفّ لي البشرى: فؤاد نجح في النجاة عبر البحر فعلًا، ووصل إلى أوروبا كما كان يخطط. قفز قلبي فرحًا كأن رابطة دم تجمعني بفؤاد، وفكرت في أن ذلك احتمال وارد. ألم تكن مصر وسوريا دولة واحدة لثلاثة أعوام؟ ألم أقرأ لقب عائلتي على لافتات عدة في القدس وفي دمشق وفي عمّان وفي بغداد؟ ألم أجد غسان يحفظ كلمات أغنياتي المفضلة لسيد مكاوي وللشيخ إمام ولمارسيل خليفة عن ظهر قلب ويدندنها معي؟
أفكر أن ما يجمعني بسوريا وفلسطين ليس الانخراط في السياسة وقضايا الثورة والتحرر فحسب. بل تجمعنا مشاعر أعمق؛ نتاج كثيف لتجارب إنسانية مشتركة متعددة الأوجه. ربما ما يجمعنا هو إرث أجيال حملت مآسي الشرق، ممزوجة بالموسيقى والضحك والدموع والحنين وقصص الحب وطعم الرمان ورائحة الياسمين. نتقاسم توق جماعي للحظات فرح يمكن أن تبرق على حين غرة وتكسر وقع كل تلك المآسي، فينكشف غطاء البصر ويتجدد وهج القلب.
***
ثم تبرق لحظة صباح الثامن من ديسمبر.
أهرع لمشاهدة تسجيلات تعود لأيام الثورة الأولى. أتذكر فورًا نبوءة حرائر دمشق قبل اثني عشر عامًا: "عايشة سوريا بلاك وبلا حكمك يا أسد". أفكر في هؤلاء النساء اللاتي أحببن زياد رحباني والغناء والحرية -مثلي-، وأرجو أن يكون القدر قد أهداهن الحياة والسلامة، حتى يشهدن الثامن من ديسمبر.
تتوالى مشاهد الاحتفالات وفتح السجون وإعادة اكتشاف الحياة واستنشاق أنفاس الحرية. تستيقظ حواس السوريين على حلم كان بعيدًا بعيدًا، ثم -في ليالٍ عشر أو في سنوات عشر- صار حقيقة. يرقص قلبي على أنغام فرحتهم، بينما ترقص مضيفات الخطوط الجوية السورية على متن رحلات العودة إلى دمشق. أتنسم أخبار بارات باب توما، وأتمنى أن أعود لزيارتها والاحتفال. أشاهد مقطع لمقاتل سوري ملتحٍ يردد بحماس أغنية "على حسب وداد قلبي" لعبد الحليم حافظ بلكنة شامية جعلتني أبتسم.
في القاهرة يحدثني الرفاق القدامى عن الخوف مما سيفعله الإسلاميون بسوريا، وعن "المؤامرة" لتخريب البلد. أطلب تعريفًا للمؤامرة وللتخريب: هل هناك تخريب أكبر من تهجير نصف الشعب وقتل مئات الآلاف قصفًا بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، وتعذيبًا على المنهج النازي؟ من حوّل الثورة السلمية إلى فصائل مقاتلة وحرب أهلية تغذت على السلاح من كل حدب وصوب؟ ينفطر قلبي وأنا أقرأ عن مساجين لا يعرفون من هو "بشار" لأنهم في سراديب السجون منذ عهد "حافظ". وينفطر مجددًا وأنا أقرأ عن الاغتصاب الممنهج وعن أطفال -ولدتهم أمهات سجينات مغتصبات- لا يعرفون ما هي الشجرة وما هو العصفور، ولا أي ملامح للحياة خارج الزنزانة. هل هناك رعب أكبر من هذا؟
أقول لهم إن بعض من الخوف مشروع، لكن لا شيء حتمي بعد. ويبقى الناس أولًا، الناس قبل كل شيء: قبل الدولة، وقبل الحدود، وقبل الجيش، وقبل الإسلاميين، وقبل الخوف منهم. الناس الذين التقيت بعضًا منهم في الإسكندرية والقاهرة، وفي بيروت والبقاع، وفي مدن الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، وأود اليوم لو بإمكاني أن أعانقهم جميعًا. أقول أيضًا إن هناك فارق كبير بين الخوف من أن تفشل سوريا، وبين تمنى الفشل لسوريا؛ وهناك في مشرقنا المنكوب من يتمنى ذلك، وربما من يسعى إليه. ربما تكون تلك هي المؤامرة.
أداعب أصدقائي القدامى وأقول "أصبحتم مثل كهول نادي الجزيرة الذين كانوا يوم ١١ فبراير ٢٠١١ يترقبون وصول الأسطول الخامس الأمريكي على مشارف مصر لاحتلالها!" أعنيها كدعابة، بينما أخشى أن بعض رفاقي القدامى قد تغيروا فعلا بمرور العمر وكثافة الهزائم.
***
أعود لأقرأ ما كتبته سابقًا حين ماتت مي سكاف في منفاها الباريسي في الخمسين من عمرها. حينها كنتُ ألوم الأمل الذي احتضنته مي حتى آخر يوم في حياتها. كنتُ قد طوّعت نفسي على اليأس واحتضان الهزائم ومحاولة الطفو فوقها. لكنني اليوم أضبط نفسي تتحدث عن تجديد الأمل، وعن معاني الحق والحرية التي يمكن أن تنتصر. أفكر في أن عدالة ما يمكن أن تتحقق على الأرض، ويمكن أن نشهدها قبل الموت.
أفكر في أن الأقدار يمكن أن تفاجئنا -مفاجآت سارة- من حيث لا نحتسب، في أن هناك احتمالات أخرى واردة لكل مساعينا ولكل القصص؛ خارج المعطيات المباشرة والحسابات الضيقة. هناك نهايات أخرى غير الهزيمة والحسرة والخذلان ممكنة.
ربما آن الأوان أن تكفكف دمشق دمعها. ربما تكتمل للسوريين فرحة لم تكتمل بعد لسواهم.