كنتُ في برلين وقد تملّكتني حالة مؤقتة من الملل دفعتني إلى التجوال في مكتبةٍ كانت في الجوار. مكتبةٌ أنيقة ومرتبة لكنها تحتوي على العديد من الكتب المكتوبة بلغاتٍ غير العربية: الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية. من بين كل تلك الكتب كان هناك كتاب عربي وحيد، هو كتاب "يالو" لإلياس خوري. شعرت، بمجرد أن وقعت عيني على الكتاب، بذلك الشعور الذي يشعر به أحدهم حين يجد ضالته؛ بهجة تسلّلت إلى قلبي وآنست وحدتي.
كنتُ إلى ذلك الحين لم أقرأ كتاباً كاملاً لإلياس خوري، على الرغم من حضوره شبه الدائم في حديث الأصدقاء في كل الأوقات التي كنا نتحدث فيها عن كتبٍ مهمة وكتّاب جديرين بالاهتمام. لكني، ولأسباب كثيرة، كنتُ كلما حاولت أن أبدأ في قراءة عمل ما له، أجد ما يمنعني من ذلك، إلى أن وجدت "يالو" في برلين. لم يكن هناك ما يمنعني من قراءة "يالو" أو الغوص في عوالم إلياس خوري.
كثيراً ما أجد صعوبة في التعامل مع قاعدة رولان بارت حول "موت المؤلف"، وفي حالة إلياس خوري يصعب الفصل تماماً بين الكتابة وصاحبها.
كنتُ في برلين، مُحاطاً بالدهشة والأسئلة، ومشاعر من الوحشة والخوف لا تفسير لها سوى السنوات الطويلة التي قضيتها في غزة، في عزلة وانقطاع هائل عن العالم. وجدت نفسي، بعد ثلاثة عقود من الزمان وفي مرة واحدة، في مكان جديد بلغة جديدة وعالم كبير متّسع لا طاقة لي به. كنتُ ابن المكان الضيق والصغير كبيت العائلة، ولذا كنتُ أعيش ارتباكاً هائلاً وفوضى وخوفاً ودهشة جعلتني في حالة من الذهول الدائم.
كل هذه المشاعر جعلتني في حاجة إلى شيء ما يُدخل إلى قلبي شيئاً من الهدوء والركوز. ربما ثباتاً أريده لترتيب كل تلك المعاشات التي وجدت نفسي مغموراً فيها. وفي إلياس خوري وجدت ذلك، ليس في "يالو" ككتاب بدأتُ أقرؤه في البلاد الباردة والبعيدة، ولكن في شخص دافئ كان يطلّ على نحو جيد من بين الصفحات. بدأتُ القراءة، وقرأتُ، قرأتُ حتى شبعتُ من الكتاب الذي أضاء قلبي كما يُضيء البرق سماء برلين الملبدة بالغيوم.
"يالو" كنافذة إلى الذات والآخر
كان "يالو"، الشخصية الموجودة في الرواية، محفزاً حقيقياً للدخول في رحلة في أغوار نفسي، أو ربما لسبرها. كنتُ، وكلما تقدمتُ أكثر في قراءة النص، وهي قراءة تتقدم في "يالو" الشخصية التي تعيش أهوال الحرب الأهلية اللبنانية، أتقدم في الوقت ذاته داخلي. بدأتُ أستكشف العديد من المناطق التي كانت بالنسبة لي، ولسنوات طويلة قضيتها في غزة، معتمة ولا أستطيع إبصارها على ذلك النحو الكاشف الذي يمكنني من خلاله إيجاد معنًى ما للعديد من الأسئلة والأفكار والهواجس التي كانت تمكث داخلي في مساحة جامدة لا حراك فيها.
غزة، وعلى الرغم من أنها تبدو لمن هم خارجها مكاناً متحركاً وصاخباً، فإنها كانت بالنسبة لي، ولسنوات طويلة، مكاناً لا يساعدني في استدعاء القدرة على تفسير الكثير من الأشياء التي كانت تؤرقني طويلاً. وفي "يالو" تحركتُ للبحث والاكتشاف عن معرفةٍ ما، معرفة تلامس حالة الاغتراب النفسي والوجودي الواضح الذي كنت أعيشه في غزة سنوات طويلة، دون أن أتمكن من تفكيكه وشرحه.
في برلين، حيث حطت قدماي بعد سنوات طويلة من المكوث في غزة -ثلاث عقود من الزمن كانت فيها غزة محجوبة وبعيدة، وكانت أفكار مغادرتها والسفر خارجها كما لو أنها أفكار مستحيلة أو غير قابلة للتحقق في المدى المنظور- اشتعلت الحالة الواضحة من الاغتراب والقلق الوجودي العميق الذي كنت أعيشه. وعلى الرغم من سكونها وهدوئها وشيخوختها ربما، أيقظت برلين بصمتِها ووحدتي فيها، وربما ما شكّلته تجربة السفر الأولى إلى بلد بعيد بلغة غريبة وأناس جدد وجغرافيا بدت لي كما لو أنها خارجة من حلم ما، كل تلك البنية المعرفية الكامنة داخلي.
إلياس خوري ومرآة الذات الجمعية
لم يكن إلياس خوري في "يالو"، وأعتقد في كل تجربته الكتابية، كاتباً يقدم صورة قشرية أو تناولاً سطحياً للإنسان اللبناني على وجه الخصوص، والعربي عموماً، كما كان سائداً في مشهدٍ واسع من الكتابة العربية المعاصرة. بل كان كاتباً يستطيع أن يقدم صورة معقدة للإنسان العربي المعاصر، ذي التركيب المعقد بطبيعة الحال.
كنتُ أستطيع أن أنسج مع "يالو"، وقت قراءتي لهذا العمل في برلين، الكثير من الجسور مع الذات الجمعية، أو لنقُل "المجموع". في غزة، كان المجموع، وإن بدا لمن هم خارجها متشابهاً حد الملل، إلا أنني كنت أراه -وعلى الرغم من المحدودية الجغرافية والدينية والإثنية- متبايناً ومعقداً للغاية. ولقد وفرت لي قراءة "يالو" فرصة لبناء معرفة حول ذلك المجموع، وعقد مجموعة من المقاربات مع الذات الجمعية اللبنانية وقت الحرب الأهلية. لم تكن تلك المقاربات سوى مدعاة لتكوين فهم أكثر دقة وشمولاً حول الآخر، ومن ثم حول نفسي.
الكتابة كضوء يخترق العتمة
في برلين، كانت السماء في أغلب الأوقات ملبّدة بكثير من الغيوم السوداء، وكنتُ مثلها، في داخلي الكثير من الغيوم والأسئلة. حينَ أضاء البرق سماء برلين، محدِثاً فيها ومضاً مشعاً وخاطفاً، كان كتاب "يالو" يحدث داخلي بروقاً لها الوميض المشع والخاطف ذاته.
لم يكن ذلك بوصفه كتاباً عربياً في مدينة لا تنطق بالعربية، ولا تحضر فيها العربية وسط السيل الهائل من اللغات الأخرى، وإنما بوصفه فعلاً جسّدته كتابة إلياس خوري محاولةً لتبديد الشعور بالظلام، وإن كان ذلك من خلال الغوص عميقاً في ظلمات أخرى كثيرة.
الكتابة والأدب لدى إلياس خوري هما فعل مقاومة للاغتراب عبر تفكيكه وفهمه والغوص فيه، وليس بتقديم مجموعة جاهزة من الحلول السحرية. بهذا تتشكّل القيمة الوجودية العميقة لأدب إلياس خوري، الأدب الذي يمكنه أن يستعيد الذاكرة ليس من منظور "نوستالجي"، بل طريقةً للدخول إلى الذات والآخر، واستبصار المعنى وسط الضباب حين تختلط الرؤى في واقع التردّي والنكوص العربيين، الأدب الذي يمكنه أن يستنطق الحقيقة المطمورة وسط الحرب والصراعات.