المخرج الألماني توم تيكفير مأخوذ بمدينته، برلين. هي شخصية رئيسية في معظم أعماله، أفلاماً ومسلسلات، وبمراحل تاريخية مختلفة. أو هي الشخصية ذاتها ممتدة على عموم سيرته الفيلمية. هي كذلك هنا، في فيلمه الذي افتتح الدورة الخامسة والسبعين لمهرجان برلين السينمائي، "الضوء" (The Light).
المدينة، كما هو حال البلاد، الواقفة على حافة تقدّم انتخابي آخرَ لليمين المتطرف، أو النازية الجديدة، صوّرها الفيلم في حالة انعزال تام لعنصرها الألماني الأبيض عمّا هو خارجه. المدينة التي لم يوقف المطر هطوله الكثيف، على طول الفيلم، سوى في تخيّلات لشخصيات، حملت بعض الواقعية السحرية بطبعتها المدينية والعصرية.
"الضوء" وهو خارج المسابقة الرسمية، يصور عائلة برلينية، بيضاء برجوازية في شقة بمركز المدينة، الوالدان وابنهما وابنتهما. لكل منهم حياته الخاصة والمنعزلة عن الآخر. هم ٤ أفراد لا تجمعهم سوى جدران الشقة، مع جدران لامرئية تفصل كلاً منهم عن الآخر. الحياة هنا عادية بما هي عليه، مستقرة، الأب الذي يسرق أفكار ابنته، ينظّر في خطابات حقوقية ويعمل في شركة تروّج للنيوليبرالية كما تواجهه ابنته، الأم تعمل ضمن مشروع ألماني لتمويل بناء مسرح في نيروبي، من دون أدنى مشاعر تجاه المعنيين، ومن موقعها الأوروبي الفوقيّ "المانحيّ"، واللطيف شكلاً للضرورة، الولد يمضي وقته بألعاب "الواقع الافتراضي" (VR) في غرفته، والبنت بالرقص في النوادي مع أصدقائها. لا تتقاطع الحيوات ولا الأعين، حتى في شجار الوالدين، تُقاطعهما الجارةُ وتقول إن عليها أن ينظرا إلى عيني بعضها على الأقل عندما يتشاجران.
كل ذلك ينقلب مع دخول عاملة منزلية جديدة إلى حياتهم، لاجئة سورية اسمها فرح. تجبر بطبيعتها كلاً منهم على التفاعل معها، فتحصل التقاءات وتقاطعات على طول الفيلم، تتطور أخيراً بجلسة واحدة ينتهي عندها هذا العمل المبهر بصرياً والذكي سردياً.
تحضرهم فرح إلى عالمها بهدوء، واحداً تلو الآخر، من خلال واقعية سحرية مرة أخرى، أقرب لتكون تقنية، في نوع من جلسات أمام ضوء متقطع يحمل المجرِّبَ إلى عالم آخر، مختلف تماماً عم الواقع العصري البرليني الآمن شديد الهشاشة في الوقت عينه. هو "الواقع الافتراضي" لكن حقيقي، تماماً كما هي "الواقعية السحرية" هنا عصرية.
المدينة التي لم يتوقف المطر فيها، في واقعها، ستحملهم فرح منها إلى رحلتها بالهرب من حلب إلى برلين، عبر البحر، في سفينة ستغرق ويغرق معها زوج فرح وابنتها وابنها، كصورة مقابلة للعائلة الألمانية. يتحول الماء المزعج النازل من السماء إلى قاعٍ مظلم كارثيّ في البحر المتوسط، وليتكشّف الأربعة أمام مأساة لجوء إنسانية تُظهر، بالتقابل، مدى هشاشة بل تفاهة شكاوى البرجوازية البيضاء الآمنة في عاصمة أوروبية، منغمسة في فقاعتها.