فيلم سيرة ذاتية وإن بتصوير ليلة واحدة، سهرة يمضيها كاتب الأغاني الأمريكي لورنز هارت، في بار إثر حفلة موسيقية لملحّن كتب الشاعرُ كلماتها. ليلة واحدة، قبل موته بشهور، أفصحت عن شخصية هذا الرجل الحيوي، المداعب، الضاحك، الحزين في الوقت عينه، والوحيد جداً، في فيلم سيرة ذاتية ذكي وحساس، للأمريكي ريتشارد لينكليتر، "قمر أزرق" (Blue Moon).
للمخرج أفلام تشي بالميزة الأهم في فيلمه الأخير، الحوارات. هو أولاً كاتب ومخرج فيلم "Boyhood"، وقبله ثلاثية "Before" المعتمدة على حوارات مطولة بين شخصيتين. هنا، في الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي، يبنى الفيلم على حوارات لكن متقطعة ومتعددة في طرفه الآخر. إذ يمضي إيثان هوك، بأداء خاص، الفيلمَ/الليلةَ بالتنقل من شخص لآخر مستهلاً أحاديثه ومكملاً ما بدا بادئاً من منتصفه.
ما يقوله الشاعرُ بخفة دمه وثقله كذلك، يقدّم ما يمكن أن يجعل الفيلم سيرة ذاتية، وإن لم يحتوِ عناصر السيرة من شمولية وامتداد زماني وغيرها. الفيلم أقرب ليكون بورتريه، لوحة ذاتية لا سيرة، لحظةً من حياة أحد أشهر كتّاب الأغاني الأمريكيين منتصف القرن العشرين. هو لوحة لشخصية معقدة، لا تتوقف عن الكلام، عن التفوّه بما يشبه الشعر في كلامه. لوحة ولحظة، ليلة واحدة تكفي، كما قدمها الفيلم، في الإفصاح عن سيرة ذاتية لرجل واحد ووحيد.
اللقاءات تلحق عرضاً موسيقياً للشاعر، "أوكلاهوما"، ولمؤلف موسيقي نال الاحتفاء وقد ألّف العرضَ الموسيقي على كلمات زميله. الجميع يدرك "عبقرية" الكاتب، وكذلك يتجنبه لشخصيته. الجميع ممتنٌّ له لكن من بعيد، ما يزيد من وحدته، وكلامه المنفلت من عقاله، وجد له مستعماً أم لم يجد.
الفيلم، بحواراته على لسان الشاعر، أقرب ليكون صفاً من الاستعارات والصور الجمالية، بانتقالات للكاميرا من محدِّث إلى آخر، في مكان وزمان مقيّدين، كأن الفيلم عمل مسرحي تام، بديكور واحد لا حاجة لتبديله. لورنز في مكانه، يبتعد ويقترب بخطوات قليلة، والآخرون يتناوبون عليه، أو هو عليهم. حوار على البار، آخر على الدرج، ثالث في غرفة جانبية، وغيرها مما جعل الديكور مكرّساً لخدمة الكلام، والأداء.
ميزة لأي فيلم في أن يحمل حوارات لامعة وذكية، تتضاعف هذه الميزة متى حصر الفيلمُ مَشاهده ضمن "جدران أربعة"، فرمى ثقله كلّه على الكلام. الكلام الخالي من القصة تحديداً.