أُجري حوارًا مستمرًّا في عقلي مع نفسي، على شاكلة حوار مع طبيبٍ نفسيّ في عيادة في الطابق العاشر، في عمارة كأنّها ناطحة سحاب. تكون ذاتي الأخرى التي أمامي أحيانًا طبيبة بيضاء، أتعمّد بشكلٍ مستمر أذيّتها وتحميلها عبئي النفسي، وصدمات جيلنا في هذه البقعة المسخوطة، لا لشيء، إلا لأنّها فقط بيضاء، فلتتحمَّل عبء أجدادها الأوائل.
لا أعرف متى وكيف أدخل هذه العيادة، لكنّي دائمة التردّد عليها.
مرّات يكون حواري معي أنا. وذاكرتي تبدأ من الانتفاضة الثانية، عندما كنت بالصف الرابع الابتدائيّ، حين ألقى الجنديّ الدرزيّ (ابن شعبي) علينا أنا وأختي الصغيرة قنبلة الصوت وهو يضحك، وهرع جارنا لإنقاذنا بعدما سمع الصراخ. رأيت البارحة صورة الميركافا في مخيّم جنين. سرى الخدر في أطرافي. في الانتفاضة الثانية ضاق الحال على الناس، أغلقت المدارس والجامعات، وكذلك الدكاكين (التي كان اسمها في أحسن الأحوال بقّالة، وليس مول أو سوبرماركت). فُرض منع التجول مرّة، وذهبت إلى الدكّان عندما رفع المنع لساعات، لكنّ الجنود قرّروا التنغيص على الناس أكثر، فأعادوا الانتشار قبل انتهاء مدة رفع المنع. اندفعت عبر الباب الأحمر للدكان، فإذا باليمركافا تمرّ من أمامي. عدت أدراجي وقد ثقبت حنجرتي من الصراخ.
في الاجتياح الكبير، قُسّم البيت قسمين؛ صار نصفه لنا، ونصفه الآخر لابن عمّي وأصدقائه الذين لم يستطيعوا الوصول إلى مدنهم بسبب الاجتياح وإغلاق الحواجز. كان الجيران، بعيدًا عن الميركافا والمشاة والمستوطنين في قبر يوسف، يساعدوننا كلّ حسب قدرته: البيض، والطحين، والمياه التي كانت إم بلبل تسحبها من البئر. بعد رفع المنع قليلًا، وعندما غادر الشبّان، عثرت في غرفتنا على ورق شدّة مصنوع من ورق الدفاتر. واجه ضيوفنا ملل الوقت والقلق من الميركافا والجنود بورق شدّة قُطّع بمسطرة وكتب بالحبر الأزرق.
في هذه الفترة، وقبل أن تغزو المجمّعات التجاريّة التي لا أعرف اسمها منطقة الدوّار في نابلس، كان هناك محلّ هدايا وكاسيتات اسمه art (a. r. t). كان الدخول إليه في موسم عيد الحب جريمة. كنّا نشتري منه كسيتات الأغاني قبل أن تتحول إلى سيديّات. ومنه اشترت أمّي لأختي الووكمان. كان لونه ذهبيًا وأسودَ، وسمّاعاته صغيرة قابلة للكسر. لا أعرف علاقة المحلّ بالموضوع، لكنّ أمّي لبّت رغبتي أيضًا بعد النقّ المتواصل واشترت لي سكوتر، سكوتر أزرق وعليه كتابة بالأصفر. مرّة خلال الاجتياح الكبير، أخذت السكوتر وصعدت إلى شارع فرعيّ عند الجيران لأنّ الميركافا لا تمرّ من هناك. فجأة، وجدت نفسي مع الميركافا وجهًا لوجه، وحدي بسكوتري، وأولاد الحارة.
من أيّن أتيت بهذه الجرأة؟ كنت طفلة جريئة واجهت ملل الانتفاضة بسكوتر وبكيس شيبس من الدّكان. اليوم أنا امرأة جبانة جدًا، تهرب من اقتحام يبعد عنها عشرات الكيلومترات. متى بدأ الخوف يسبقني؟ أنا جبانة ومواقفي صلبة، لكنّها متقلبة جدًا وعاطفية في الوقت ذاته. اليوم، زارتني في الحلم شاعرة من غزّة لا أعرفها ولا تعرفني، أرسلت لي رسائل لتسألني إن كنت سعيدة بوجود الميركافا بين أطفالي، كما هو الحال في غزّة.
سأذهب للطبيبة النفسية البيضاء، سأضع ذاكرتي بين يديها، وسأراقبها كيف تنهار. سأحكي لها عن المنام، وسأضيف عليه مشاهد قاسية، وسأخبرها عن كوابيس الموت تحت الرّكام التي راودتني طيلة الحرب، وعن المرّة التي استيقظت فيها بجانب زوجي أنادي على أختيّ، وكأني في غرفتنا قبل عشرين عام خلال الاجتياح. سأجري بحثًا مطوّلًا وأحفظ قصص الناس ومآسيهم، حتى صور الشبّان في جنين الذين تصوّروا مع الدبابة، سأقول لها أنّهم غارقون في الإنكار وعاجزون الاستشعار بما هو آتٍ. سأخبرها عن محاولتنا في تحويل أقسى المواقف وأصعبها إلى نكتة نلوكها كأنّها علكة. سأتعمد أن أصيبها في لعنتنا أو مرضنا أو عذابنا، على حدٍ سواء.
البارحة رأيت الميركافا عبر التيليغرام، وسمعت صوت جنزيرها في أذنيّ، وتذكرت سكوتري والوقت الذي كان فيه بركة أكثر، عندما كان كيس الشيبس بثلاث أغورات، وعندما كنّا نعرف عن الاقتحام عندما نراه، عندما كان الاقتحام اقتحامًا أو اجتياحًا، وليس "عملية تخريبية" أو "نشاط". رأيت ما رأينا، وتذكّرت الحرب التي لا تتوقف في رأسنا، وفي الشارع، وعلى الطرقات بين المدن. نظرت إلى ابنتيّ وقلت: في الصيّف سأشتري لهما سكوتر.
ذكرياتنا هي ذكريات أطفالنا. ذكرياتنا ذكريات الجيل القادم أيضًا.