توثق المجموعة القصصية مساحة ضيقة بين القلق والسكينة، وتختبر أسس السلم المجتمعي في مدينة رام الله، وآليات تشكله، ومحدداته، كما تحاور الطبيعة الهشة للحدود الفاصلة بين الخاص والعام فيها، وتستكشف فضاءات زمانية ومكانية لحظية بين ساكنيها، والتي تتشكل مؤقتاً عند تقاطعهم إثر تحركهم الدائم بين أحيائها المتباينة، وتبحث عبر الخريطة إشكالية إعادة إنتاج ذوات مستقلة داخل عجلة مدينة مقيدة، ويتناول رتابتها، وانكفاءها على هويات وصور مسبقة متراكمة.
يشكل تطبيع المدينة المستمر لتحولاتها دافع كتابة الخريطة القصصية، فنتعقب من خلالها عنف حلم المدينة وكوابيسها، من تقلبات اقتصادية واجتماعية رافقت نموها الطبيعي، وتجلي فشل مشروع منظمة التحرير الفلسطيني بين أحياءها.
ربما كانت رام الله حالة دراسية لمدن عالم الجنوب كافة، وربما كانت أزمة المشروع التحرري الفلسطيني هي أزمة الحراكات الحقوقية كافة.
لا أسماء في خريطة المدينة القصصية أو عناوين، كي تقترب رام الله من مثيلاتها في العالم، حيث تتشابه بريبة أدوات الطغم الحاكمة، والسياسات الاقتصادية المفروضة رغم الاختلافات الطفيفة في الأسماء والتبريرات، فمقرات الحكم والبعثات الأجنبية ما تزال معزولة في مربعاتها الخضراء، ومخيمات اللاجئين كما العشوائيات صنوان على الهوامش حتى وإن كانت وسط المدينة.
المُشاهَد الأول
هامش الضوء الأحمر
تتفتح جفون عينتاه الصغيرتين،
ترمش في حركات سريعة متتالية.
يفرك بكف يده طرية العود ما حول عينه اليمنى، وبإصبعين يحاول شك العين نفسها عدة مرات.
يستهل نهاره بالنظر إلى أختيه اللتان تصغرانه سناً على يساره.
يفترشون ثلاثتهم الأرض إلى جانب سرير معدني ثنائي الحجم، حيث ينام والديه، وبينهم أخوه الرضيع.
أسند ظهره المرن بيديه الرفيعتين، قبل أن ينتصب ماشياً نحو جدار الغرفة، حيث يعلق بنطاله وسترته الخفيفة، يملك بالإضافة لهما لبسة بديلة كاملة، وبعض الملابس الداخلية.
لا يحتوي جاروره الصغير على الكثير من الممتلكات أو الملابس. جميع خياراته المتقلصة بسرعة، حفظتها أمه في أكياس بلاستيكية سوداء فوق خزانتهم المتهالكة، في انتظار أن يبلغ رضيعها عمر مناسب لما ترك أخوه، وما ستترك أختاه بعده.
لم تحفظ الأم التقدمية الملابس الزرقاء والزهرية منفصلة، ولم تُسقط الألوان على الذكور أو الإناث وتميزهم حسب الجنس.
لم تفرّق بينهم في اختيار الملابس، خوفاً من سؤال زوجها عن أي شيء يتطلب قيامه عن السرير، أو أن يأخذه بعيداً عن مقعده المحفوظ في المقهى، على رصيف قريب من مدخل البيت.
كان الوالد ثائراً للحرية في الجولة السابقة من المواجهة، التي وبداعي إصابة إثرها اكتفى من العمل، ومن أي فعل يجهده أكثر من تحرير بذرة جديدة في رحم زوجته.
الأم هادئة.
لا تتحدث كثيراً.
بعض نساء الحي الأخريات ورجالهم منخرطون في ذات المسرحية، يلعبون تلك الأدوار في أحياء مكررة على أطراف المدينة.
مسرح تلك العائلة الصغير، يحتوي بالإضافة إلى السرير الحديدي خزانة ملابس كبيرة، وعدة خزائن بجوارير لا نهائية أصغر حجماً، ومقاعد تكفي لجلوس الوالدين مع ضيفين بحد أقصى.
هناك، على يمين المقاعد، ثلاجة وبلاطة صغيرة تدعوهما الأم "المطبخ".
لا يرى الأب من تلك الزاوية سوى باب الغرفة إلى الخارج، حيث فناء صغير قربه حمام خارجي، وعدة غرف مماثلة لأعضاء آخرين من العائلة الممتدة.
تلك الغرفة الكبيرة حيث بيت العائلة الضيق، كانت لتشكل استديو صغير مثالي للشباب والشابات العازبين في المدينة.
توزيع المساحات في الحي لم يقلق الطفل، الذي لم يتجاوز بعد عامه التاسع، فعالمه وعمله لا يقتصران على مكان محدد داخل المدينة.
عمله في مكان آخر، لا ينتظم في مدرسة، ولا يعمل حتى قربها.
بعد أن ارتدى الطفل المعلقات عن الجدار، التقط سكيناً زنبركياً صغيراً من جاروره، وخرج من الغرفة قبل تمام الساعة الثامنة صباحاً بعشرة دقائق.
لم يقابل أباه المعترض على ساعة تأخره فقط. سينام ذلك الرجل حتى منتصف النهار.
قبل أن يتجاوز فناء مجمع الغرف إلى العالم الخارجي، عرج إلى الحمام وغسل وجهه، واستعد لرؤية سكان المدينة الآخرين.
من المفترض ألا يبادل أحدهم العداء، عليه البحث عن مكان له في المدينة الشاسعة.
قبل أن ترجل قدميه الصغيرتين خارج حيهم ذي الأسوار الوهمية، ناوله صاحب بسطة الفلافل كيس ورقي صغير عليه بقع زيتية قائلاً
- حبيتين طازة عشان نسترزق بوجهك.
بسطة الفلافل مكتظة كالحي،
ثلثها للمقلاة، وثلثها للسلطات، والثلث المتبقي لصاحبها السمين.
امسك حبة الفلافل الأولى بأربعة أصابع لا بثلاثة،
نفث عليها الهواء مرة واحدة،
تناولها بشراهة متناسياً واجب تبريدها بين كل قضمه وأخرى.
أحس ابن التاسعة بجمال اقتصر إدراكه عليه، وعلى كل مناصرٍ للفلافل في تلك المدينة.
وصل الدوّار المركزي، ومشى إلى يساره نزولاً نحو مفترق الطرق المقابل لبيت البلدية، مقابله مشى الآخرون صعوداً نحو مركز المدينة، حيث الحافلات المتجهة صوب الضواحي والأحياء البعيدة.
أغلب الصاعدين فرادى، وجوههم محايدة، لا تعلم إن كانوا سعداء أم بائسين.
ربما كانت هجرتهم اليومية، طقس حج حديث، نيوليبرالي، نحو أطراف المدينة، حتى يوازنوا ثِقل بقاء الطفل وحيداً في وسطها، عند مفترق الطرق المقابل للبلدية.
حول ذلك المفترق توزعت بعض المطاعم والمقاهي.
تجاوزها ابن التاسعة، وقفز خلف سور قصير، وانتشل دلوه الاحمر وكيس بلاستيكي نصف ممتلئ، فيه مناديل ورقية من ماركة ياسمين.
ملئ دلوه الأحمر من النافورة الضخمة أمام البلدية، وغسل الخرقة الزرقاء جيداً، ثم وضعها في الدلو بعد أن أضاف الصابون والماء.
احتفظ في جيب بنطاله الخلفي بخرقة جافة صفراء، ومشى صوب الإشارة المرورية الأكثر ازدحاماً على ذلك المفترق.
سياسة ابن التاسعة التسويقية لا تتغير،
إن كانت نافذة السائق مفتوحة بادر بالمناديل الورقية قبل أن تُغلق النافذة، وإن كانت مغلقة بادر بغسيل الزجاج الأمامي، ثم الخلفي، قبل أن تُفتح النافذة ليعرض مناديل ياسمين للبيع.
رحب به السائقون بدرجات متفاوتة، وتتابعت على سمعه ذات الأسئلة.
ليش مش في المدرسة؟
شو بشتغل أبوك؟
وين ساكن؟
وإن أربك حركة السير بقصدٍ أو بدون قصد،
انهالت الاحتجاجات من كل الزوايا.
وين أهلك عنك؟
وين الشرطة تلمك؟
احترف الإجابة بإيماءات الرأس، وبعض الكلمات المعدة مسبقاً كالحمد لله وبعين الله.
بحركات أيدي سريعة حاول بعض السائقين إيصال رسائلهم المشفرة. وبتعالٍ، أشار بعضهم للصغير بعدم محاولة الاقتراب.
بعضهم لعب دور الغافل عن كل الأشياء، لن يعيره أي انتباه إن مسح زجاج السيارة، أو إن قدّم حركات بهلوانية.
بعضهم الآخر قدم له ابتسامة مجانية.
بعض السائقات هدفٌ يسهل عليه استجداء عطفه، ورغم ذلك رفض ابن التاسعة بشكل صريح قبول ما يتجاوز قائمة أسعاره القصيرة منهن.
شعر بتبادل منفعة من نوع آخر معهن؛ هنّ ولأسباب متعددة أحببن رؤية ابتسامته، وأحب هو اعتراف أحد ما بطفولته، كيف لا وهو لطيف الشكل أسمر البشرة، عيونه عسلية.
علاقتهم مؤقتة، تنظمها لعبة حظ إشارة المرور، ومن سيقف عليها في الدقائق القادمة.
صعق وجوده بين السيارات المتقدمة بعض السائقين بشكل متكرر.
كأنها الإشارة الوحيدة في المدينة التي يعتاش أطفال على لونها الأحمر. كأن إشارة المرور السابقة أو تلك اللاحقة لن تجمعهم بآخرين.
كيف للأمر أن يكون عادياً ومفاجئاً في الوقت ذاته؟
اقترب ابن التاسعة من الجميع، وقابل رفض السائقين بقفزات رشيقة بين السيارات، انسل بينها بهامش الضوء الأحمر.
كرر طوفانه بين السيارات لساعات طويلة.
كنملة صغيرةٍ تبحث عما هو حلو المذاق، ولا تدرك أنها هشة جداً لتكون هناك في المنتصف،
في منتصف المدينة.
المُشاهَد الثاني
المهمة المستحيلة
لم يستطع أن يمنع تدحرج دمعاته الصامتة،
ولم يدرِ بانكسارها على خديه حتى نظر من مرآة سيارته الوسطى.
تفحص طفلته التي لم تبلغ بعد عامها الأول، في المقعد الخلفي الأيمن.
راقب المرآة وإشارة المرور، يستعد لرد فعله القادم؛ إن صارت الإشارة خضراء نظر أمامه وتابع القيادة، وإن نظرت طفلته له سيبتسم لها، في فاصلٍ ود لو امتد ليخفي عناء رحلة عودتهما إلى البيت من المشفى.
ما زالت الإشارة حمراء،
ما زال هناك فرصة لسرقة ابتسامة.
قال لها محدثاً نفسه
- ما بقدر أخلي العالم يصير أحسن.
صمت عدة ثوان محاولاً التقاط أنفاسه قبل أن يتابع
- بس أكيد، أنا راح أصير أحسن.
أصوات أبواق السيارات، أيقظته من سرحته بالمرآة.
أرخى قدمه عن دواسة المكابح، لتنزلق سيارته بانحدار طبيعي مقتربة من إشارة المرور.
الأزمة خانقة، بعض السيارات استطاعت استغلال خضرة الإشارة المرورية وعبرت إلى الجانب الآخر.
استغرب الأب إصرار صفير السيارات المحيطة به.
الكل متوقف في عجقة ساعة الذروة.
- ليش كل هذه العجلة، لوين راحين، البلد صغيرة؟
عاد الأب من فكرته الشاردة إلى داخل إطار المرآة المتوسطة، لينظر إلى وجه فتاته التي سرحت حينها بما هو خارج السيارة.
تتابع الاشجار القريبة، وذيول الغيوم الخريفية المارقة، وتتوه احياناً في زجاج النافذة المتسخ.
أصدر الأب هذه المرة صوتاً يستخدم عادةً للفت انتباه الرُضّع والقطط على سواء.
انتبهت الطفلة دون تيقنٍ من مصدر الصوت، فابتسم الأب ثم عاد لمراقبة إشارة المرور، لعل أبواق السيارات رحمته هذه المرة إن أسرع قليلاً في إزاحة سيارته عدة مترات نزولاً نحو المفترق.
أشار الأب بيده إلى طفل صغير بأن لا يقترب من السيارة، يحاول أن يشرح له أن السيارة تحمل كفايتها من المناديل الورقية، وبأن اتساخ الزجاج الأمامي مقبول.
على أي حال، الطفل قصير، لن يصل إلى قطعة براز الحمام الضخمة نسبياً، التي توسطت الزجاج الأمامي.
لم يقترب من السيارة.
أزاح الأب سيارته نزولاً نحو المفترق مرة أخرى، في توقفه الثاني على إشارة المرور.
من الممكن أن يكون توقفه الأخير قبل عبور المفترق.
نظر يساره إلى شرفة زجاجية لبيت من ستينات القرن الماضي على مستوى الشارع، عُلّق على جدارها صليب خشبي قديم وإطار مهترئ يطلب من الرب أن يحفظ ذاك البيت، أقصى اليمين خزانة قصيرة بدرفتين يعلوها نبتة أوراقها خضراء موشحة بالبياض، لا يكاد أن يخلو منها بيت في تلك المدينة.
تنقل الأب بنظره بين مكونات الشرفة الرتيبة حتى اصطدم بوجه عجوز، حدقت داخل روحه ولمستها مباشرة.
شهق، وأزاح عينيه إلى تفاصيل حجرية في الجانب الآخر من البيت، ثم عاد سريعاً ليتفحص داخل السيارة.
امتلكه الحرج للحظات.
بعد تجاوزه صدمة العجوز المترصدة، مد يده اليمنى ليلتمس الحياة من قدم طفلته اليسرى، ليملئ بها قدر استطاعته منها.
داعب ساقها التي لم يتجاوز طولها بعد باطن يده.
يعجبه ملمس القطن الناعم، وتأكد أن الطفلة يقظة تشاركه الرحلة.
احتاج الأب مساعد قبطان ليدله على طريق العودة، ولم يكن معه سوى طفلته لتشغل تلك الوظيفة.
مرة أخرى سنحت له الفرصة بالتحرك بضع أمتار إضافية نزولاً.
لم يقطع المفترق.
ما زالت هناك ثلاث سيارات تفصله عن الخط الأبيض الممحي عن الشارع.
هذه المرة، تحقق الأب من أضواء التنبيه على لوحة القيادة في سيارته، وتأكد أنها مضاءة جميعها عدا ضوء حزام الأمان.
ضوء المحرك مضاء، ضوء زيت المحرك مضاء، ضوء منع انزلاق السيارة مضاء.
هناك تماس كهربائي أضاء لوحة القيادة.
هي هكذا، منذ أن حمل الأب إلى المستشفى طفلته في رحلته القاسية الأسبوع الماضي. ارتبكت المركبة كما ارتبك سائقها بعد أن صمتت الطفلة لوقت طويل.
خاف الأب أن تكون رحلة طفلته إلى المستشفى باتجاه واحد، فأقسم لها مئات المرات، القادم سيكون أجمل.
صدمة الأب أعادته إلى لحظة صفر.
عليه الاستعداد لجميع الاحتمالات.
لم تشفع له عيناه الزرقاوان، ففاضت زرقتها منهما وانسابت على جلده المقشعر تحت قميصه.
قبض بيديه على عجلة القيادة،
وشدّد القبضة.
لم يتغير اتجاه السير، ولم تتحرك السيارة.
لأسبوع ترددت طفلته جانب المرض، فعادت وذهبت في الغياهب، تصارع الرحيل، وتتأنى قبل البقاء.
تحرك مرة أخرى نزولاً نحو المفترق،
عبرت من أمامه السيارة الأخيرة.
انقلب الضوء الأخضر وعاجله المؤقت البرتقالي.
استهجنت أبواق السيارات المحيطة به، عندما أحست أن في تمهله ضياع فرصة مرور سيارة أخرى.
لم يعبأ بأصوات الصفير خارجاً.
نظر من مرآته الوسطى إلى طفلته المكتفة بالقطن الناعم،
نظر إلى الألعاب، ومستلزمات الطفولة حولها.
من الآن وصاعداً لا شيء يعجبه سوى فتاته الصغيرة.
يريد لها كل شيء، ولا يريد لها أي شيء.
نظر مرة أخرى إلى أضواء التنبيه في لوحة القيادة.
ضوء حزام الأمان مطفأ.
ربط الحزام، قراره الحكيم الأول لحمايتها في رحلة العودة.
الإشارة ما زالت حمراء،
يتربص الأب محيطه العاصف.
تستكشف الطفلة قدميها بكلتا يديها، وتحاول تذوق إبهام قدمها اليمنى في مهمة تبدو مستحيلة.