من كتاب "ذاتٌ من الرّغبة: تبصّرات هيغلية في فرنسا القرن العشرين"
في مسرحية تينيسي ويليامز "عربة اسمها رغبة" تصف بلانش دوبوا رحلتها قائلة: «طلبوا إليّ أن أستقلّ عربة اسمها "رغبة"، ثم أنتقل إلى أخرى اسمها مقابر لأجتاز ستة أبنية، ثم أنزل في حقول الإليزيوم» ولمّا أدركتْ أن المكان القاحل الحالي، الذي هي فيه، هو حقول الإليزيوم [عالم الأموات]، أيقنت أن التوجيهات التي تلقّتها كانت مغلوطة. إنها في مأزق فلسفي ضمنيًا، فما رحلة الرغبة هذه التي تكون وجهتها مخادعة إلى هذا الحدّ؟
أي نوع من العربات تكون الرغبة؟ وهل تتوقف العربة عند مواقف أخرى قبل أن تصل إلى وجهتها المميتة؟ يتتبع هذا البحث رحلة من رحلات الرغبة، وأسفار الذات الراغبة التي تبقى بلا اسم أو جندر في عالميتها المجرَّدة. لن نتمكن من تعرُّف هذه الذات في خطة القطار، فلا يمكن القول إنها توجد كما يوجد الفرد. وبصفتها بنية مجرَّدة من التوق البشري، تكون هذه الذات تكوينًا مفاهيميًا من الفاعلية والهدف البشريين. في الواقع، شأنها شأن بلانش ورحلتها، تتبع الذات الراغبة سردية الرغبة والوهم والهزيمة معتمدةً على لحظات عارِضة من الاعتراف بوصفها مصدرًا للخلاص المؤقت وحسب.
لما قُدِّمتْ الرغبة في كتاب "فينومينولوجيا الروح" لهيغل، بُنيَت رغبةُ الذات هذه بوساطة أهداف فلسفية: هي تريد أن تعرف نفسها، لكنها تريد أن تجد داخل حدود ذاتها العالم الخارجي بأكمله. والحقّ، إن رغبتها في اكتشاف مجال الغيرية بأكمله، بوصفه انعكاسًا لها، لا تهدف إلى دمج العالم فيها وحسب، بل إلى تجسيد حدود ذاتها خارجيًا. وعلى الرغم من تشكيك كيركيغارد الصريح في إمكان وجود هذه الذات بصورة فعلية، وعلى الرغم من نقد ماركس فكرة هيغل ووصفه إياها بأنها نتاج المثالية الغامضة، اتَّخذَ التلقي الفرنسي لهيغل من موضوعة الرغبة نقطة للافتراق النقدي وإعادة الصياغة.
تعيد أعمال ألكسندر كوجيف وجان إيبوليت وصف الذات الراغبة الهيغلية بالاستناد إلى مجموعة من التطلّعات الفلسفية الأكثر تقيدًا. وفقًا لكوجيف، تكون الذات محتجزةً بالضرورة في زمن بعد-تاريخي تنتمي فيه ميتافيزيقيا هيغل، جزئيًا، في الأقل، إلى الماضي. ووفقًا لإيبوليت تكون ذات الرغبة فاعلية متناقضة، إذ تحبط المقتضيات الزمنية للوجود البشري إشباعها بالضرورة. تشير الأنطولوجيا الثنائية لجان بول سارتر إلى قطيعة مع افتراض وَحدة الذات الراغبة مع عالمها، التي افترضها هيغل، لكن عدم إشباع الرغبة الضروري يشترط السعي الخيالي إلى المثال الهيغلي. وبالنسبة لسارتر وجاك لاكان، في الواقع، يكمن هدف الذات في إنتاج الموضوعات والآخرين الخياليين والسعي إليهم. وفي أعمال جاك لاكان وجيل دولوز وميشيل فوكو، تُنتَقد الذات الهيغلية بوصفها بنية خيالية بالكامل. يرى لاكان أن الرغبة لم تعد تعني الاستقلالية، بل أصبحت تُميِّز المتعة وحسب بعد امتثالها للقانون القمعي. أما دولوز، فيرى أن الرغبة تُخفق في وصف لاوَحدة التأثّرات التي أشار إليها نيتشه من خلال مفهوم إرادة القوة؛ وبالنسبة لفوكو، تُنتَج الرغبة وتُنظَّم تاريخيًا، وتكون الذات خاضعة باستمرار في الواقع.
تمكن قراءة التلقي الفرنسي لهيغل، بوصفه سلسلة من الانتقادات الموجَّهة إلى ذات الرغبة، إلى ذلك الدافع الشمولي الذي تخيّله هيغل، والذي فقد معقوليته لأسباب عدة. ومع ذلك، إن قراءة متأنية لكتاب "فينومينولوجيا الروح" تكشف أن هيغل نفسه كان فنانًا ساخرًا في بنائه هذه الفكرة، وأن رؤيته أقلّ شمولية مما يُفترض. يبدو أن نقّاد هيغل الفرنسيين يفنِّدونه بمصطلحات تعزِّز، على نحو ساخر، موقف هيغل الأصلي.
تظلُّ ذات الرغبة خيالًا آسرًا حتى لدى أولئك الذين يزعمون أنهم كشفوا ألغازها تمامًا.

مدخل
الفقر الأعظم هو ألا يعيش المرء في عالم مادي،
أن يشقّ عليه التمييز بين رغبته ويأسه ..
والاس ستيفنز، (جمالية الشر)
لمَّا لم ينبذ الفلاسفة رغبة الإنسان، ولم ينتصروا عليها في سعيهم إلى أن يصبحوا فلسفيين، فقد اتجهوا إلى اكتشاف الحقيقة الفلسفية بوصفها الجوهر المحدَّد للرغبة، سواء كانت الاستراتيجية نفيًا أم استحواذًا، كانت علاقة الفلسفة بالرغبة ملحّة وقصيرة. لا شك في أن الجزء الأكبر من التقليد الغربي قد أبقى على نزعة شكّية تجاه الاحتمالات الفلسفية للرغبة، وقد صُوِّرت الرغبة مرة بعد مرة بأنها آخَر الفلسفة. بوصفها فوريةً واعتباطيةً وحيوانيةً وغير هادفة، تمثل الرغبة ما يتطلب تجاوزها؛ إنها تهدِّد بتقويض مواقف عدم المبالاة والفتور العاطفي، التي حدَّدت بطرائق مختلفة ومتباينة التفكير الفلسفي. يبدو أن مشروع الرغبة في العالم، ومشروع معرفة معناها وبنيتها، مشروعان متضاربان، لأن الرغبة دلَّت على انخراط محدود الرؤية، واستحواذ على الاستخدام، في حين قدَّمت الفلسفة نفسها في نقائها الفلسفي بأنها لا تحتاج إلى العالم الذي تسعى إلى معرفته. إن كان للفلاسفة أن يرغبوا في العالم الذي يحققون فيه، فإنهم سيخشون غياب النمط والتماسك والحقيقة المعمَّمة والمنتظمة عن نظرهم، وسيجدون بدلًا من ذلك عالمًا يتميز بالخصوصية الراديكالية والموضوعات التعسفية، عالمًا يقبل الاكتشاف، لكنه ينزاح انزياحًا جذابًا. هكذا، لطالما دلّت الرغبة على يأس الفلسفة، وعلى استحالة النظام، والغثيان الملازم للشهية.
ولأن الفلاسفة لا يستطيعون إلغاء الرغبة، يجب عليهم صوغ استراتيجيات لإسكاتها والتحكّم بها؛ في كلتا الحالتين، يجب عليهم، على الرغم منهم، أن يرغبوا، كي يتمكنوا من فعل شيء حيال الرغبة. هكذا، يكون نفي الرغبة أيضًا أسلوبًا من أساليبها. هكذا، يصبح اكتشاف الوعد الفلسفي بالرغبة بديلًا جذابًا، وتدجينًا للرغبة باسم العقل، ووعدًا بتناغم نفسي داخل الشخصية الفلسفية. إن لم يكن الفيلسوف متجاوزًا الرغبة، بل كان كائنًا ذا رغبة عقلانية، يعرف ما يريد، ويريد ما يعرف، فإنَّ الفيلسوف يظهر كباراديم للسلامة النفسية. يحمل مثل هذا الكائن وعدًا بوضع حدّ لاختلال التوازن النفسي والانقسام طويل الأمد بين العقل والرغبة، وآخرية العاطفة، والشهوة، والتوق.
إن كانت الرغبة تخدم، على نحو محتمل، السعي الفلسفي إلى المعرفة، وإن كانت نوعًا من المعرفة المُضمَرة، أو إن كان إنماؤها ممكنًا لتصبح قوة محفّزة مُخلصة للمعرفة، فليست هناك، من حيث المبدأ، رغبة غير عقلانية بالضرورة، وليست هناك لحظة تأثُّر عاطفي يجب التخلي عنها بسبب تعسّفيتها الجوهرية. خلافًا للفهم الطبيعاني للرغبات، الذي يصفها بأنها حقائق وحشية وعشوائية للوجود النفسي، يُسوِّغ نموذج الرغبة هذا تأثرات عاطفية معينة بوصفها حوامل محتملة للحقيقة، مشحونة بالدلالة الفلسفية. حينما تظهر الرغبات في شكليها العشوائي والتعسفي، فإنها تطالب، تاليًا، بفكّ شيفرتها ورموزها؛ وإذا ما افترضنا أن الرغبة والدلالة متكافئتان، تصبح المهمة تطوير تأويل مناسب للانعكاس الذاتي لأجل الكشف عن معناها الضمني.
لا يقدم مثال التكامل الداخليّ بين العقل والرغبة بديلًا للفهم الطبيعاني أو الوضعي للرغبة وحسب، بل يقطع عهدًا بتوسيع فكرة العقلانية عينها خارج حدودها التقليدية. إذا كانت الرغبات في جوهرها فلسفية، فإننا نفكّر من خلال تلهفاتنا الأكثر عفوية. لم يعد العقل مقيدًا بالعقلانية الانعكاسية، بل أصبح يميِّز ذواتنا المباشرة والمندفعة. بكلمات أخرى، يتبيَّن أن مباشريّة الرغبة متوسَّطة (غير مباشرة) دائمًا، إذ نكون في لحظة الرغبة أذكى دائمًا مما نكونه في حالتنا المباشرة التي نعرفها. في التجربة التي تكون قبل-عقلانية ظاهريًا، والتي فيها نرغب في خاصية ما في العالم، نكون في حالة تفسير للعالم على نحو سابق ومستمر، ونتحرك حركات فلسفية، ونعبِّر عن أنفسنا ككائنات فلسفية.
إن فيلسوف الدوافع الميتافيزيقية، كائن الرغبة الذكية هذا، هو البديل الجذاب للفيلسوف المغترب الخالي من العاطفة. إنما يبدو أننا يجب أن نسأل إن كان نموذج التكامل بديلًا صالحًا للروح الفلسفية المتشعبة داخليًا، أو كان صياغة جديدة للاغتراب في مستوى أعقد. هل عقلنة الرغبة ممكنة، أو أنها تمثل دائمًا تمزُّقًا وتصدُّعًا في المشروع الفلسفي؟ هل يمكن للفلسفة أن تستوعب الرغبة من دون أن تفقد طابعها الفلسفي؟ هل يتضمن استحواذ الفلسفة على الرغبة، على نحو مستمر، اختلاقًا للرغبة في صورة الفلسفة؟
لقد عُدَّت الرغبة خطرة من الناحية الفلسفية بسبب نزوعها تحديدًا إلى تشويش الرؤية الواضحة وتكريس قصر النظر الفلسفي، ما يشجع المرء على رؤية ما يريد وحسب، وليس ما يكون. إن الرغبة ضيقة، مركّزة، مكترثة، ومنخرطة جدًا. لكن، حينما تستجوب الفلسفة إمكاناتها بوصفها معرفة عملية ومنخرطة، فإنها تميل إلى التساؤل عن الإمكانات الفلسفية للرغبة. وعليه، إن سبينوزا في كتاب "الإيتيقا" هو الذي يصوغ الرغبة بوصفها جوهر الإنسان، وكانط في كتاب "نقد العقل العملي" هو الذي يميّز تلك القدرة العليا للرغبة بوصفها ضرورية للتفكير الفلسفي. حينما تصبح معرفة الحقيقة الفلسفية وظيفة لعيش حياة فلسفية، كما هي الحال في الفلسفة الأخلاقية تقليديًا، يبرز السؤال بالضرورة: هل «يجب» تعني ضمنيًا «يمكن»؟ هل يكون الفعل الأخلاقي مدعَّمًا بالسيكولوجيا البشرية؟ هل يمكن أن تتجسد الحقيقة الفلسفية في حياة فلسفية معقولة من الناحية السيكولوجية؟ إن كانت الرغبة مبدأ غير عقلاني، فإن الحياة الفلسفية المتكاملة ستكون وهمًا ليس غير، لأن الرغبة ستعارض دائمًا هذه الحياة، فنقوِّض وحدتها، وتعطِّل نظامها. لن تكون الحياة الفلسفية المصوَّرة، بوصفها سعيًا إلى التكامل، ممكنة إلا إذا أمكن اكتشاف الرغبة أو شكل من أشكال الرغبة التي تبرهن على القصدية الأخلاقية، كما هي الحال مع إيروس الفلسفي لدى أفلاطون، وفكرة الرغبة الموحَّدة لدى أرسطو، والإرادة النقية لدى كانط، والرغبة لدى سبينوزا.
إننا، بقدر ما نرغب، نرغب بطريقتين تقصي إحداهما الأخرى:
حين نرغب في شيء معين، نفقد أنفسنا، وحين نرغب في أنفسنا، نفقد العالم.
