نبي يناهض الرأسمالية: لماذا ينجذب جيل Z إلى دوستويفسكي؟ (ترجمة)

Fyodor Dostoevsky by Lautir

رولا عادل رشوان

مترجمة من مصر

أما دوستويفسكي نفسه، ففي أعماله شيء مظلم وخطير – وربما آثم – يجعله أكثر التصاقًا بروح القراء المعاصرين من تولستوي أو جوجول أو تورجينيف. إن واقعيته العنيفة ووجوديته المحمومة تتناغمان على نحو غريب مع شهية الأدب الحديث،

للكاتب/ة

باختصار، يجد "أبناء الشك الجدد" في إرثه الكثير مما يمكنهم مواجهته… والتعلّم منه.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

06/10/2025

تصوير: اسماء الغول

رولا عادل رشوان

مترجمة من مصر

رولا عادل رشوان

تخرجت في كلية الألسن ـ قسم اللغة الروسية. نُشرت لها العديدُ من المقالات الأدبية والترجمات بدوائر ثقافية مختلفة، داخل مصر وخارجها. تعمل حاليًا بمجال التَّرجمة وكتابة المُحتوى، باللُّغات الثلاث: العربية والانجليزية والروسية. صدر من ترجمتها "يهوذا"، "بابا ياجا"، "روزا"،"سخط"، و"آلَةُ چوزيف ڤالسر"، "الأميرة تاراكانوفا"، "أوليسيا"، و"الأيام الأخيرة في حياة تولستوي" و"شجرة العائلة".و"الفتى الحبيب" مذكرات آل باتشينو

كتبها كريستوفر أكيرز نشرها موقع "آنهيرد" في ١٥/٥/٢٠٢٥.

في رسالة كتبها بعد إطلاق سراحه من معسكر اعتقال سيبيري عام 1854، قدّم فيودور دوستويفسكي نفسه بوصفه "ابن العصر، ابن اللايقين والشك". كانت المادية والعدمية والإلحاد، التي اجتاحت روسيا في القرن التاسع عشر وحاربها دوستويفسكي بضراوة في كتاباته، هي ذاتها القوى التي تشكّل اليوم أساس الليبرالية الحديثة في عصرٍ يتّسم باللايقين والتساؤلات. ومع ذلك، فليست هذه هي الطريقة الوحيدة التي تتقاطع بها أعمال دوستويفسكي مع نبض الحياة المعاصرة.

إعلان

بل إن موضوعاته المتعلّقة بالحرية والإيمان، والقومية وتفكك الأسرة، والانتحار، لا تزال تتناغم مع اهتمامات ثقافية معاصرة. وفي اللحظة الحالية حيث تتصاعد فيها شعبيته، تبرز نبوءة دوستويفسكي أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. وتتردد أصداء أعماله – بما تحمله من عمق وتعقيد – بقوة في عصرنا المضطرب، حيث يواصل سحر الأدب الروسي أسر خيال الغرب.

ومهما اختلفت وجهات النظر، فقد نجح دوستويفسكي في لمس وتر حساس لدى جيل جديد من القراء. فروايته القصيرة "الليالي البيضاء" (1848)  قد تصدّرت المبيعات في نسختها المترجمة إلى الإنجليزية في سلسلة بنجوين كلاسيك العام الماضي – بفضل الضجة الواسعة على منصة التواصل الاجتماعي "بوك توك" – بينما تضاعفت مبيعات روايتي "الإخوة كارامازوف" (1880) و"الجريمة والعقاب (1866)" قرابة ثلاث مرات منذ عام 2020.

إعلان

ويُمثل هذا الاهتمام المتجدد أحدث فصول سمعة دوستويفسكي وقبول الناس له أو نفوره منهم، السمعة التي شهدت تحولات كبيرة خلال حياته وبعد وفاته عام 1881. فبعد الاستقبال الحافل لروايته الأولى "الفقراء" (1846)، قوبلت روايته الثانية "المزدوج" (1846)  بفتور نقدي، والذي واجهها الكاتب الروسي بعقد كامل من العزلة الأدبية. ولم يحقق دوستويفسكي شهرة واسعة بين القراء الروس إلا في أواخر حياته.

توصل كبار الأدباء إلى استنتاجات متناقضة تمامًا حول دوستويفسكي وإرثه. فقد رأى ألبير كامو أن "النبي الحقيقي للقرن التاسع عشر هو دوستويفسكي، وليس كارل ماركس"، بينما جادل إي. إم. فورستر بأن "أي روائي إنجليزي لم يسبر أعماق الروح الإنسانية بعمق كهذا". وعلى النقيض من ذلك، شكا جوزيف كونراد قائلاً: "هناك رائحة كريهة تنبعث من أعمال دوستويفسكي لا أستطيع احتمالها".

وربما يفاجأ من لا يعرف دوستويفسكي عن قرب بكونه يُصنَّف أحيانًا كرجعي متشدد، بينما له ماضٍ ليبرالي واضح. فقد دفعه اهتمامه بالاشتراكية الطوباوية الفرنسية إلى الانضمام لجماعة ثورية على صلة بحلقة بتراشيفسكي الراديكالية في سانت بطرسبرج. وأدى ذلك إلى اعتقاله عام 1849، والحكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص قبل أن يُعفى عنه في اللحظة الأخيرة، والأمر بنفيه إلى سيبيريا، ولم يُسمح له هناك بالاطلاع على أي كتب أو منشورات إلا نسخة من العهد الجديد رافقته خلال فترة عزلته الإجبارية.

وفيما بعد، عبّر دوستويفسكي بازدراء عن تلك الفترة التي وصفها بقوله: "حوّلتُ فيها نفسي إلى 'ليبرالي أوروبي". فالليبرالية التي وجّه إليها نقده اللاذع كانت هي العدمية الروسية في القرن التاسع عشر، التي جعلت من النفي ورفض التقاليد والقيود الأخلاقية طريقًا لرؤية زائفة للتقدّم. العدمية ذاتها، التي ازدادت رسوخًا في الوعي الروسي مع صدور رواية إيفان تورجينيف "آباء وأبناء" (1862)، والتي تُشبه إلى حد بعيد ليبرالية القرن الحادي والعشرين، سواء في طوباويتها العلمية أو في رؤيتها للمادية كوسيلة لتأمين القيم الأساسية.

وتُمثل رواية "الشياطين" (1872) الهجوم الأبرز لدوستويفسكي على العدمية. ففيها، يتحدث بيتر فيرخوفينسكي، المهووس بالإرهاب الثوري، قائلاً: "سيُقطع لسان شيشرون، وتُفقأ عينا كوبرنيكوس، ويُرجم شكسبير". تقود "شياطين" العدمية والمادية بيتر وعصابته من المتطرفين المتنوعين إلى القتل وتدمير الذات في أرياف روسيا القرن التاسع عشر. ومن خلال تصويره لانحدار عدمي نحو الفوضى تحت شعار الحرية المطلقة، استبق دوستويفسكي شمولية البلشفية في القرن العشرين.

ورغم حبكتها القاتمة، فإن الرواية مليئة بلحظات هزلية وسخرية لاذعة. وقد كانت ردًّا مباشرًا على أحداث واقعية وقوى فكرية معاصرة. فمشهد مقتل إيفان شاتوف – عضو الجماعة الثورية الذي كاد ينجو من قبضتها العدمية – استند إلى حادثة اغتيال الطالب إيفانوف على يد الثوري سيرجي نيتشايف بعد أن انقلب عليه. ومن وحي نيتشايف، أطلقت الراديكالية فيرا زاسوليتش النار على حاكم سانت بطرسبرج؛ وهي الحادثة التي استلهم منها أوسكار وايلد لاحقًا إحدى مسرحياته.

كان ردّ دوستويفسكي على المادية والليبرالية هو إيمانه بـ "روسيا المقدّسة"، فقد آمن بالتفوّق الروحي للأمّة الروسية، ورأى في الأرثوذكسية التعبير الأصيل والوحيد عن المسيحية النقيّة الطاهرة. اتخذ هذا الإيمان طابعًا قوميًّا متطرّفًا؛ إذ دعا دوستويفسكي إلى استعادة القسطنطينية كمركز للأرثوذكسية، وأيّد مساعي روسيا لاسترجاع الأراضي التي خسرتها في حرب القرم. ويمكن سماع صوته – الذي يبلغ أحيانًا حدّ المبالغة – على لسان شاتوف في إحدى شخصياته الروائية: "أمة واحدة فقط تتسم بالقداسة، هذه الأمة هي الشعب الروسي ذاته".

تثير هذه الرؤية الكونية قدرًا من الانزعاج في ظلّ غزو روسيا لأوكرانيا، رغم أنّ التكهن برأي دوستويفسكي نفسه في هذا الصراع يبقى أمرًا غير منصف على الإطلاق. ومع ذلك، وفي زمن تتصاعد فيه النزعات القومية والتطرّف السياسي، تستعيد سياساته التبشيرية أهمية خاصة داخل وطنه. فقد استشهد فلاديمير بوتين بمفهوم روسيا المقدّسة مبرّرًا التوجّه التبشيري المعاصر بالإشارة إلى معمودية الأمير فلاديمير في كييف عام 988 بوصفها لحظة الميلاد الروحي للأمّة الروسية. كما خصّ دوستويفسكي نفسه بوصفه كاتبًا يجسّد "قلب" روسيا المعارض للغرب "البراجماتي".

ويستحيل فهم دوستويفسكي دون إدراك مكانة مسيحيته الجوهرية. فبينما يستكشف الدين في رواياته من خلال جرعات كبيرة من الشكّ والعزلة الروحية، وغالبًا ما يتناول الإيمان عبر التناقض، فإنّ اعتباره مجرّد رجل يتبّع نهج "اللاأدريّة"، مثقل بالشكوك، يُعدّ سوء فهم جوهري لحقيقة أفكاره ومعتقداته. صحيح أنّه لم يقدّم حججًا لاهوتية رسمية لإثبات وجود الله، غير أنّه رسم عالمًا تُروى فيه حكاية الإيمان والكفر عبر خيارات البشر وعواقبها. يتجلّى هذا البعد بوضوح في رواياته القاتمة والمروّعة، من خلال المحن الفكرية، والجنون، والجرائم، والانتحار، وحتى الاغتصاب، بوصفها تجلّيات درامية لصراع الروح مع الله أو إنكار الذات الإلهية.

ويُعاد اليوم قراءة هذا المنظور الديني في لحظة ثقافية مثيرة. فقد بدأ الإجماع الذي فرضه تيار "الإلحاد الجديد" في أوائل القرن الحادي والعشرين يتعرّض لضغوط متزايدة. يتجلّى ذلك في تصاعد الاهتمام بالأشكال التقليدية للمسيحية لدى الأجيال الشابة: إذ أظهر استطلاع حديث أجرته YouGov أنّ 16% من الشباب البريطانيين (18-24 عامًا) يحضرون خطب الكنيسة شهريًا على الأقل، بعد أن كانت النسبة 4% فقط عام 2018. وفي فرنسا، ساهم اعتناق الشباب للمسيحية في تحقيق الكنيسة الكاثوليكية رقمًا قياسيًا للمعموديات خلال عيد الفصح الماضي. بل إنّ نقاشات عديدة على منصة Reddit تشير إلى أنّ قراءة دوستويفسكي ألهمت تحوّلات روحية جديدة، بينما أشادت به شخصيات مسيحية بارزة – من البابا فرنسيس إلى روان ويليامز – بوصفه كاتبًا ذا أهمية روحية عميقة (وقد ألّف رئيس أساقفة كانتربري السابق كتابًا كاملاً عنه).

ويقود هذا كلّه إلى رواية "الإخوة كارامازوف"، آخر وأعظم أعمال دوستويفسكي. فهي استكشاف شديد العمق للإيمان والأخلاق والحرية، تُبنى حول جريمة قتل الأب، والمعاناة الإنسانية، والشكّ الأخلاقي، من خلال وجهات نظر وتجارب الأبناء الأربعة المتباينة بشدة بعد مقتل فيودور كارامازوف.

ولدينا مثال آخر على هذا الطرح في الرواية الشهيرة "المفتش الأكبر"، التي يرويها المثقف إيفان – الممزّق بتساؤلاته حول الشر – لأخيه الراهب المبتدئ أليوشا. في هذه الرواية، يعود المسيح إلى الأرض في مدينة إشبيلية في القرن السادس عشر، لكنّه يُعتقل فورًا على يد المفتش الذي أنهى للتوّ حرق مجموعة من الزنادقة. يخاطب المفتش المسيح قائلاً إنه أساء فهم الحرية، فالبشر – في رأيه – كانوا سيغدون أكثر سعادة لو أنهم قبلوا إغراءات الشيطان في الصحراء؛ إذ إن الجماهير لا تطيق الحرية، بل ترغب في الخبز، والمعجزات، وسلطة الحاكم القوي. يقول المفتش ببرود: "أولئك الذين قبلوا قدميك اليوم، سيهرعون غدًا، بإشارة من يدي، لإشعال جمر نارك". يصمت المسيح طوال الخطاب. وأخيرًا، يقترب ويطبع قبلة هادئة على شفتي المفتش الشاحبتين الذي قد جاوز التسعين. وبرعشةٍ عميقة، يطلق المفتش سراحه.

تتناول هذه الرواية جوهر الاستبداد في القرن العشرين، وجدلية الحرية مقابل الرضا المضمون – وهي قلب الليبرالية الحديثة – كما تنذر بأدب القرن العشرين الديستوبي لدى كتّاب مثل هكسلي وأورويل. وفي الوقت نفسه، تُلقي الضوء على نهج دوستويفسكي المتناقض أحيانًا تجاه الحقيقة الدينية؛ إذ كتب الناقد كونستانتين ليونتييف أنّ "الخيال الجميل" في "المفتش الأكبر" يكشف عن رؤية دوستويفسكي "الخاطئة والزائفة والغامضة" للمسيحية.

ليس هذا بالأمر المفاجئ؛ فنهج دوستويفسكي، شأنه شأن الأنبياء، كان مليئًا بالمفارقات. لكن من المؤسف أن يقع كاتب بلغ هذا العمق في استكشاف معاناة الإنسان ضحيةً لمعاداتٍ ساذجة للسامية. ففي "الإخوة كارامازوف"، حين يُسأل أليوشا عمّا إذا كان اليهود يسرقون ويقتلون أطفالًا مسيحيين في عيد الفصح، يجيب ببساطة: "لا أعرف" – وهو توصيف سطحي لفرية الدم.

ثم هناك عداؤه الشديد للكاثوليكية، الواضح في "المفتش الأكير"، والذي بلغ ذروته بنفوره من الغرب عمومًا. ففي رواية "الأبله"، يطلق الأمير ميشكين رأيًا يعكس فكر دوستويفسكي نفسه حين يقول إن الكنيسة الكاثوليكية "أسوأ من الإلحاد نفسه". لم يكن الكاتب مسكونيًا بأي حال، ومع ذلك، يصعب أن يُضعف هذا من قوة دفاعه الأدبي عن المسيحية.

وعلى الرغم من هذه التوترات – بل ومن الدعوات المضللة لمقاطعة الثقافة الروسية برمتها بعد غزو أوكرانيا – لا يزال الأدب الروسي الكلاسيكي يحافظ على أثره العميق في المخيلة الغربية. فروسيا، وإن بدت دولة أوروبية في جغرافيتها وتاريخها، إلا أن تقاليدها المناهضة لليبرالية تجعلها غير غربية في جوهرها؛ مما يضفي عليها شعورًا بالغربة والغموض. هذا المزيج من الألفة والغرابة هو ما يمنح الروايات الروسية العظيمة سحرها المستمر، إذ تُستكشف على خلفية تقلبات التاريخ الروسي المضطرب.

أما دوستويفسكي نفسه، ففي أعماله شيء مظلم وخطير – وربما آثم – يجعله أكثر التصاقًا بروح القراء المعاصرين من تولستوي أو جوجول أو تورجينيف. إن واقعيته العنيفة ووجوديته المحمومة تتناغمان على نحو غريب مع شهية الأدب الحديث، بينما تنجذب فئات واسعة من القراء الشباب إلى معاداته للرأسمالية بعدما أنهكتهم إخفاقات السياسة المعاصرة المرهقة.

باختصار، يجد "أبناء الشك الجدد" في إرثه الكثير مما يمكنهم مواجهته… والتعلّم منه.

هوامش

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع