استكمالاً لملف "أرشيفنا لنا"

فيصل حوراني: القصّة الكاملة لنهب مركز الأبحاث الفلسطيني ببيروت

2017-11-30 08:00:00

فيصل حوراني: القصّة الكاملة لنهب مركز الأبحاث الفلسطيني ببيروت
Palestinian fighter during the civil war, Beirut, Lebanon, 1976 © Dotation Catherine Leroy

أمّا الأرشيف فضمّ ما أمكن جمعه من أدبيّات الأحزاب والفصائل الوطنيّة الفلسطينيّة قبل 1948 وما صدر بعد هذا العام، كما ضمّ الأرشيف قصاصات من الصحف الرئيسة شملت ما نشرته هذه الصحف من أنباء وآراء ذات صلة بمسائل الصراع الذي اختصّ بها المركز. وضمّ الأرشيف الأدبيّات السياسيّة الإسرائيليّة التي تمّ نشرها منذ تأسيس إسرائيل، وبضمنها محاضر اجتماعات الكنيست وما إلى ذلك من محاضر جرى نشرها هناك.

يُعد فيصل حوراني (1939) من أبرز الكتّاب الفلسطينيّين في العقود الأربعة الأخيرة، ومن أكثرهم حيويّة ونشاطاً في ميدان الصحافة. وهو شاهد على ما تعرّض له مركز الأبحاث الفلسطينيّ التابع لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، للنهب أثناء الإجتياح الإسرائيليّ لبيروت. انتقل في العام 1979 من دمشق إلى بيروت ليعمل في مركز الأبحاث، وهناك تسلّم رئاسة قسمين فيه: الدراسات الفلسطينيّة والدراسات الدوليّة، ثمّ أُضيفت إلى مسؤوليّته عن هذين القسمين مسؤوليّة سكرتير تحرير شهرية المركز "شؤون فلسطينيّة"، وبعدها مسؤوليّة مدير التحرير. 

ويوم حاصر الجيش الإسرائيليّ منطقة غرب بيروت عام 1982، ثمّ نَهب موجودات المركز عندما اجتاح هذه المنطقة بعد إخراج المقاتلين الفلسطينيين منها، أسهم حوراني مع من بقوا من نشطاء المركز بعد خروج المقاتلين في تنشيط العمل في الظرف المستجدّ.

"رمّان" التقته لمعرفة ما جرى لمركز الأبحاث، وحقيقة نهب موجودات المركز ومن المسؤول عن ذلك، وما آل إليه مصير هذه الكنوز المنهوبة بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود. فكان هذا الحوار:


تعدّدت الروايات الفلسطينيّة والإسرائيليّة حول نهب مكتبة مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينيّة وأرشيفه. سؤالي لك، بما أنك شاهد عيان على ما جرى، هو هذا: ما هي حقيقة الذي جرى، وهل تتحمّل أطرافٌ لبنانيّةٌ أو سوريّة أيّ مسؤولية عن هذا النهب؟

نعم، ذاعت روايات عديدة، بعضها أهمل نقاطاً ذوات أهميّة، وكثير منها تضمّن مبالغات وتهويلات أنشأتها حزازاتٌ شخصيّةٌ أو رغبات في امتداح أشخاص بعينهم، أو أنشأها الجهل بطبيعة مركز أبحاث وما يمكن أن تحويه مكتبته أو تضمّه ملفّات أرشيفه.

لن أدخل في تصحيح أخطاء الرواة ومعلوماتهم، بل سأروي لك الوقائع كما شهدتُها، وستقتصر الرواية على ما فيه الإجابة على أسئلتك. ولن أدخل في تفنيد دوافع الرواة الذين أهملوا أو بالغوا أو هوّلوا، فالإهمال والمبالغة والتهويل سمات عامّة، خصوصاً في ظروف ساحتنا الفلسطينيّة. ولكم، كما أنّ لقرّاء "رمّان"، أن تقارنوا ويقارنوا هم بين ما أرويه وبين ما تُدوول من روايات سابقة.

فور تأسيس م.ت.ف. في أواخر أيّار/ مايو 1964، وبعد أن أفلح القائد المؤسّس، المرحوم أحمد الشقيري، في تشكيل اللجنة التنفيذيّة، بما هي اللجنة القائدة التي أوكل المؤتمر التأسيسي مهمّة تشكيلها للشقيري نفسه، جاء قرار تأسيس مركز الأبحاث - م.ت.ف.، كما هو الاسم الرسميّ للمركز، بين القرارات الأولى التي أصدرتها اللجنة؛ وأغلب ظنّي، إذا لم تخنّي الذاكرة ،أنّه كان القرار الثاني للّجنة. وقد استثمر الشقيري علاقاته الوطيدة بزعماء لبنان، فاستصدر هؤلاء قراراً من مجلس النوّاب اللبنانيّ منح المركز حصانة دبلوماسيّة شملت مبناه ومحتوياته، ومنح الحصانة ذاتها للمدير العام للمركز، المدير الذي تعيّنه قيادة م.ت.ف.

ومع تعاقب المدراء العامّين، تطوّر عمل المركز ونمت موجوداته واتسعت نشاطاته باطّراد، فشغل طوابق خمسة في بناية من ستّ طوابق وطابقاً واحداً في بناية مقابلة في زقاق كولومباني المتفرّع من شارع السادات في منطقة رأس بيروت الشهيرة، قريباً من موقع الروشة الأشهر. ومادام أنّ سؤالك تطرّق لنهب مكتبة المركز وأرشيفه وحدهما، مع أنّ النهب الإسرائيليّ شمل موجودات المركز كلّها وبضمنها سلال المهملات، فسأقصر حديثي هنا على ذكر وضع المكتبة والأرشيف اللذين نُهبا، كما آل هذا الوضع إليه وقت النهب.

فمكتبه المركز هي مكتبة متخصّصة بمسائل الصراع العربيّ الصهيونيّ، وقد حوت كتباً بأربع لغات، هي العربيّة والعبريّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، بلغ عددها عند نهبها خمسة وعشرين ألف كتاب، بضمنها الموسوعات العامّة والقواميس ومجلّدات الأطالس وما إلى ذلك ممّا لا يُستغنى عنه في أيّ مكتبة لمركز أبحاث محترم.

أمّا الأرشيف فضمّ ما أمكن جمعه من أدبيّات الأحزاب والفصائل الوطنيّة الفلسطينيّة قبل 1948 وما صدر بعد هذا العام، كما ضمّ الأرشيف قصاصات من الصحف الرئيسة شملت ما نشرته هذه الصحف من أنباء وآراء ذات صلة بمسائل الصراع الذي اختصّ بها المركز. وضمّ الأرشيف الأدبيّات السياسيّة الإسرائيليّة التي تمّ نشرها منذ تأسيس إسرائيل، وبضمنها محاضر اجتماعات الكنيست وما إلى ذلك من محاضر جرى نشرها هناك.

والواقع أنّ مخاطر الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي بدأت قبل سنوات كثيرة من نهب المركز، كانت قد أثارت هواجس الخوف على مقتنيات المركز. ولمّا كان من الممكن الحصول على الكتب إن فقدت وإن بكلفة أعلى، فقد تركّز الخوف على موجودات الأرشيف: الوثائق والبيانات التي يصعب تعويضها إن فقدت. وقبل تولّي المؤرّخ صبري جريس منصب المدير العامّ للمركز خلفاً لمحمود درويش، كان الذين سبقوه قد اتخذوا قرارهم بتصوير محتويات الأرشيف أوّلاً بأوّل. وقد نشط التصوير في عهد صبري، فوصل إلى الموادّ العائدة للعام 1978. ومع  تفاقم مخاطر الحرب الأهليّة، ومع الاستهداف المتواتر لمركز الأبحاث، تقرّر أن تُحفظ النسخة المصوّرة خارج لبنان، وتمكّن صبري من عقد اتفاق مع مركز الدراسات الإسرائيليّة الذي أنشأته السلطات العراقيّة في بغداد، لحفظ ما تمّ أو سيتمّ تصويره في هذا المركز في بغداد. وكان ضمن ما أرسل للحفظ في العاصمة العراقيّة صورة عن سجلّات طابو فلسطين التي أودعتها سلطات الانتداب البريطانيّ في مكتبة الأمم المتّحدة في نيويورك. وحين صار لمنظّمة التحرير منذ 1974 ممثلون رسميّون في المنظّمة الدوليّة، اكتشف هؤلاء أنّ هذه الصورة قد اختفت. ولكن أهميّة هذا الموضوع فرضت متابعة البحث، فاكتشف الموكّلون به أنّ سلطات الانتداب البريطانيّ ذاتَها كانت قد أودعت صورة أخرى في قبرص، فأمكن الظفر بصورة عنها، هي هذه التي حواها أرشيف المركز والتي نُقلت صورة عنها إلى بغداد.

لستُ أعرف ما الذي آل إليه مصير النسخة المصوّرة من أرشيف المركز كلّه بعد الغزو الأميركي للعراق، ولستُ أعرف من يمكن أن يفيد في هذا المجال. لكنّي أخمّن أنّ موجودات مركز الدراسات الإسرائيليّة العراقيّ قد تعرّضت للنهب أو التلف مع ما نهب من كنوز العراق أثناء الغزو الأمريكي. وما دمتم أنتم معنيين بهذا الملفّ فإنّي اقترح أن تتابعوا الأمر في بغداد ذاتها.

بدأ الغزو الإسرائيليّ الشامل للبنان في 5 حزيران/ يونيو 1982. وقبل أن ينقضي أسبوع، كانت الدفاعات الفلسطينيّة والوطنيّة اللبنانيّة قد عجزت عن إيقاف زحف الغزاة باتجاه بيروت، وكان وليد جنبلاط، وهو الذي خلف والده كمال جنبلاط في زعامة حزبٍ وطائفةٍ، قد أمر الميلشيا التي تخضع لأوامره بالامتناع عن مقاومة الجيش الغازي. وقد أدّى هذا وذاك إلى بلوغ الجيش الإسرائيليّ مشارف بيروت من ناحية الجنوب في غضون أيّام قليلة. ولم يلبث أن أحكم هذا الجيش حصاره البحريّ والبرّيّ والجوّيّ على ما اشتهر باسم الشطر الغربيّ لبيروت. إلا أن المقاتلين الفلسطينيّين والمقاتلين اللبنانيّين الوطنيّين ووحدات من لواءٍ سوريّ من قوات الردع كانت معسكرة آنذاك داخل غرب بيروت وحوله، عملت تحت قيادة واحدة هي القيادة المشتركة الفلسطينيّة الوطنيّة اللبنانيّة التي يرأسها ياسر عرفات، وجمّدتْ تقدّم الجيش الغازي على خطوط الحصار، وحالت بينه وبين اجتياح غرب بيروت.

أثناء الحصار الذي استمرّ قرابة ثمانين يوماً، بقي مركز الأبحاث قائماً بعمله بالمقدار الذي تتيحه ظروف هذه الحصار. وجرت المفاوضات المعروفة، ونشط مبعوث أميركيّ في سياق هذه المفاوضات بين أربعة أطراف، حكومة إسرائيل، والحكومة اللبنانيّة، وقيادة م.ت.ف.، وقيادة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة المجنّدة مع الفلسطينيّين لمقاومة الغزو الإسرائيليّ.

في المفاوضات التي طال أمدها، ركّزت القيادة الفلسطينيّة، بين ما ركّزت عليه، على ضمان أمرين: استغلال وقت التفاوض لتوفير أكثر الضمانات الممكنة لخروج المقاتلين الفلسطينيّين الآمن والكريم من بيروت، وعدم تعرّض المدنيّين الفلسطينيّين ومؤسّساتهم المدنيّة لأيّ إساءة، لا من قبل إسرائيل ولا من قبل عملائها الذي نصّبهم الغزو حكاماً للبلد.

مرّة أخرى سأركّز الحديث على ما يتّصل بمركز الأبحاث في هذه المفاوضات الشائكة التي استخدم فيها ياسر عرفات قدراته المشهود له بها على المناورة. وقد حصلت القيادة الفلسطينيّة على ضمانات دوليّة بأن لا يتعرّض المدنيّون الفلسطينيّون ومؤسّساتهم لأيّ سوء على يد جيش إسرائيل. كما حصلت القيادة على ضمانات قدّمها قادة الطرف اللبنانيّ المتعاون مع إسرائيل بأن لا تمسّ سلطتُهم الجديدة المدنيّين الفلسطينيّين أو مؤسّساتهم. وقد عزّزت القيادة الفلسطينيّة الضمانات اللبنانيّة بتقديم رشوات بملايين الدولارات لعدد من أصحاب النفوذ في الجانب الذي قدّمها. ولقد كنتُ، شخصيّاً، بصحبة القائد الفلسطينيّ المرحوم صلاح خلف "أبو إياد" حين تلقّى مكالمة هاتفية من أمين الجميّل الذي  سيخلف أخاه بشير في رئاسة جمهوريّة لبنان بدعم من إسرائيل. واسمعني "أبو إياد" ما قاله الجميّل هذا حين كرّر من صار الرئيس اللبنانيّ تعهّده حماية مركز الأبحاث والمستشفيات والعيادات الطبيّة الفلسطينيّة وبقيّة المؤسّسات المدنيّة، وتلقى مقابل ذلك وعد القائد الفلسطينيّ بمنافع ستوفّرها له القيادة الفلسطينيّة.

عليّ أن أقرّ هنا بأنّي أُخذتُ وقتها بالضمانات الدوليّة، خصوصاً تلك منها التي قدّمتها إدارة الرئيس الأميركيّ دونالد ريغان عبر مبعوثه الشخصيّ فيليب حبيب الذي أدار المفاوضات، وأظهر، وهو لبنانيّ الأصل، أنّه إسرائيليّ أكثر من أكثر الإسرائيليّين عدوانيّة، لكنّي لم أُؤخذ بالضمانات اللبنانيّة ولم أعوّل عليها.

معروفٌ لديكم ما حدث بعد ذلك. لم تُقمْ إسرائيل وزناً لتعهّداتها الدوليّة، ولم تعاقبها أيّ من دول الغرب العظمى التي قدّمت ضماناتها بأن تفي إسرائيل بهذه التعهّدات. وما أن أُخرج المقاتلون الفلسطينيّون من عاصمة لبنان، حتّى اجتاحت إسرائيل غرب بيروت الذي لم تتمكّن من اجتياحه وهؤلاء المقاتلون فيه. وبهذا الاجتياح، لم يتعرّض للأذى الفادح إلا المدنيّون الفلسطينيّون وحلفاؤهم اللبنانيّون والمؤسّسات الفلسطينيّة. وحين بدأ جيش إسرائيل اجتياحه الأوّل لعاصمة دولة عربيّة، كنّا في المركز في إبّان انهماكنا في العمل الذي بدأناه قبل أيّام لتهيئة مركزنا لأداء المطلوب منه في الظروف المستجدّة. وحين تأكّد لنا أن جيش الاجتياح بلغ مستديرة الكولا وتوجّه نحو كورنيش المزرعة في طريقه إلى منطقتنا، قدّرنا أن أمامه ما لن يزيد كثيراً عن ساعة واحدة ليبلغ مبنى مركزنا، فانصرفنا إلى إخلاء ما يمكن إخلاؤه من موجودات المركز ممّا قد يؤدي وقوعه في أيدي العدوّ إلى أضرار شخصيّة بالعاملين معنا. أخلينا السجلات التي تضمّ أسماء العاملين في المركز وأسماء المتعاونين معه من اللبنانيّين والعرب الآخرين، والسجلّات المالية، ومحتويات الخزانة الحديديّة في حجرة المدير العامّ، وما إلى ذلك ممّا أمكن أن تتّسع له سيّارة المدير العامّ. بكلمات أقلّ، أخلينا ما يمكن إخلاؤه تحت أشدّ الأخطار في غضون ساعة. وحين عرفنا أن المجتاحين المتّجهين نحو رأس بيروت قد بلغو منطقة الروشة، صدرت التعليمات للعاملين كلّهم بالتفرّق فرادى أو في جماعات صغيرة والبحث عن مخابئ تؤويهم، حتّى لا يقعوا أسرى في يد عدوّ يَعدّ كلّ فلسطينيّ مخرّباً ويعامله على هذا الأساس. وفي بحثي المتلهّف عن مخبأ، وضعت الصدفُ أمامي سيّدة لبنانية تنتمي لأسرة مسيحيّة، وهي من معارفي الموثوقين، فتوفّر لي مخبأ غير بعيد عن المركز، وتوفّر ما هو أهمّ، إذ تولّى أعضاء الأسرة تأمين اتصالاتي بكلّ من أحتاج الاتصال به، فقضيتُ فترة الاختباء في مأمن دون أن أتعرّض للعزلة. 

وقتها، كما تعرفون، وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا. وقد بلغني عبر اتصالاتي وأنا في المخبأ أن جنرال المجازر الإسرائيليّ أرييل شارون، وهو من كان آنذاك وزير الدفاع في حكومة مناحيم بيغن الإسرائيليّة، خطّط المجزرة ، وأشرف على تنفيذها بنفسه، وتعمّد أن يتمّ ذبح الناس الأبرياء في مخيّم شاتيلا وحيّ صبرا، الذي هو، بالمناسبة، ليس مخيّماً بل منطقةً سكنها فقراء يحملون جنسيّات شتىّ، على أيدي عملاء إسرائيل اللبنانيّين، وقد وجّه شارون جيشه ليقدّم لمن نفّذوا المجزرة كلّ ما يحتاجون إليه من مساعدة. ووقتها، أيضاً، جرى نهب مركز الأبحاث. 

وقد أُبلغ إليّ من قبل صحافيّة أميركيّة مستعربة ألفت أن تتردّد على مركزنا وتستفيد من الخدمات التي يوفّرها، وعقدت صداقات وطيدة مع عدد من العاملين فيه، وبضمنهم أنا، أنّها، وهي التي تقطن في شقّة السطح في عمارة تطلّ على بناية المركز، عدّت خمسة وثلاثين شاحنة عسكرية متهيّئة لنقل ما ينقله إليها جنود إسرائيل من موجودات المركز، في ما بدا لها أنّها عملية نهب شاملة. وقد اتفقت مع هذه الصحافيّة على أن تُجري هي مقابلة مع قائد الوحدة العسكريّة الإسرائيليّة التي تقوم بنهب المركز الفلسطينيّ؛ قدمتُ الاقتراح، فاستهواها.

سألتْ جانيت لي ستيفنسون الضابط الإسرائيليّ عن مسوّغاته لنهب موجودات مركز أبحاث، وهو المنتمي لجيش ضربت الحكومة المسؤولة عنه رسمياً عرض الحائط بالاتفاق الدوليّ الذي كان يُلزم جيشها بالابتعاد عن بيروت، وسوّغت ما أقدمت عليه بالزعم أن الجيش سيدخل المدينة لأن م.ت.ف. لم تُخرج منها كلّ المخرّبين الذين ينتمون إليها وفي ردّه على هذا السؤال، قال هذا الضابط للسائلة: هذا مركز مخرّبين، ويبدو أنهم خدعوك، فهل تصدقين أن بين هؤلاء الفلسطينيّين من يقرؤون ويكتبون. فلمّا احتجّت الصحافيّة الأميركيّة في وجه الضابط الإسرائيليّ النهّاب بأنّ ما ينقله جنوده إلى الشاحنات العسكريّة ليس أسلحة ولا متفجرات بل كتباً ومكاتب وأدوات تلزم الباحثين وليس المخرّبين، طلب الضابط أن تريه هي بطاقتها الصحافيّة، ونقل اسمها إلى مفكرته. وبعد بضعة شهور، استُدعيت الصحافيّة الأميركيّة إلى سفارة بلدها لتقابل مسؤولاً فيها، وشوهدت وهي تدخل السفارة، لكنها لم تشاهد خارجة منها.

أربعة طوابق من الطوابق الستّة العائدة للمركز جُرّدت من كلّ ما حوته. وإذا نجت محتويات طابقين من النهب، فلأنّ النهّابين الإسرائيليّين تلقّوا الأمر الذي تلقّته وحداتهم التي اجتاحت غرب بيروت بالانسحاب منه. هذا الأمر صدر لأنّ ضغطاً عالميّاً هائلاً انصبّ على إسرائيل بسبب مذبحة صبرا وشاتيلا. فاضطرّ النهّابون إلى الانسحاب قبل أن يستكملوا نهب موجودات هذين الطابقين. وللمفارقة، كان في واحد من الطابقين الصحف العبرية التي جمعها المركز منذ تأسيسه، وكان الطابق الآخر الناجي، وهو الطابق العائد وحده للمركز في البناية المقابلة، مقرّاً لباحثين يتركّز عملهم على إصدار نشرة تضمّ مقالات الصحف الإسرائيليّة كل يوم، وتُوزّع على نطاق واسع في بيروت وسواها، وتعيد صحفٌ عربيّة كثيرة نشر ما تحتويه.

في الشقّ الثاني من سؤالِك تطلب منّي أن أبيّن ما إذا كانت أطرافٌ سوريّةٌ أو لبنانيّةٌ قد تحمّلت أيّ مسؤوليّة عن هذا النهب. لقد ذكرتُ أن الطرف اللبنانيّ المتعاون مع إسرائيل يتحمّل مسؤوليّة كاملة عن تنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا، ولست أعرف ما إذا كان الإسرائيليّون الذين نهبوا مركز الأبحاث قد استشاروا هؤلاء المتعاونين معهم من اللبنانيّين أو تلقّوا منهم المساعدة، وإن كنتُ لا أستبعد أن يكون شيء من هذا قد حدث.

أمّا الطرف السوريّ الذي تمثّل وجوده الرسميّ في لبنان آنذاك بوجود قوّات الردع العربيّة، فقد حلّ به ما حلّ بالفلسطينيّين. وبتزامن مع خروج الفلسطينيّين من بيروت، أُخرج منها الوجود السوريّ الرسميّ وغير الرسميّ.

على كلّ حال، فإنّ دور عملاء إسرائيل من بين اللبنانيّين المتعاونين معها، في الاعتداء على مركز الأبحاث، لم يتأخّر طويلاً. فهؤلاء العملاء نفّذوا، بعد شهور من انسحاب القوّات الإسرائيليّة من غرب بيروت، جريمة تفجير مبنى المركز بسيّارة ملغّمة بمادّتين، حارقة ومدمّرة. وقد أصيب جرّاء التفجير مائة وعشر أشخاص بين قتيل وجريح، وصار المبنى خراباً يباباً غير قابل للاستعمال. فقوّة الانفجار عادلت قوة ربع طن من الديناميت، وانداحت آثارها في دائرة قطرها خمسمائة متر.

ما مدى مسؤوليّة قيادة م.ت.ف. ومؤسّساتها والسلطة الفلسطينيّة في إهمال المطالبة رسميّاً، أثناء المفاوضات التي أجريت مع المحتلّ، على الصعيد الدوليّ وفي المؤسّسات الدوليّة، باستعادة ما نُهب، ومن ثمّ مسؤوليتها في إهمال حفظ ما أمكنت استعادته؟

سؤالك هذا من نوع أسئلة يمنع القاضي توجيهها إلى المتّهم أثناء محاكمته. فالقاضي لا يجيز أن يُسأل المتّهم هذا السؤال: هل تعمد إلى تدخين سيكارة بعد أن تضرب زوجتك؟ لستُ أملك السلطة التي للقاضي، ولستُ راغباً في منعك من توجيه أيّ سؤال. لكنّي أجتذب انتباهك إلى أنّ حديثنا يدور حول ما جرى في وقت لم تكن فيه شؤون العلم والثقافة مهملةً من قبل م.ت.ف.، خصوصاً أنّه الوقت الذي تبع الازدهاء الفلسطينيّ بالمواجهة الباسلة لجيش هو واحد من أقوى جيوش العالم. ففي ذلك الوقت، كان للعلماء والمثقّفين دورهم الملموس في المواجهة وتعزيز صمود المقاتلين، وكان مركز الأبحاث بمنجزاته العديدة واحداً من المفاخر الفلسطينيّة، ولم تكن القيادة لتهمل هذا أو ذاك.

لقد استمرّت الإدانة الرسميّة، ناهيك بالشعبيّة، لعمليّة النهب، منذ بدأت هذه العمليّة. ومع الإدانة الواسعة، استمرّت أيضاً المطالبة بإعادة ما نُهب، إلى أن تحقّق الجزء الأكبر من هذه الإعادة.

قصّة الإصرار على الإعادة ومدلولاتها العميقة يغفلها الذين يتحدّثون عن نهب مركز الأبحاث بنيّة تشنيع قيادة م.ت.ف، وقيادات بعض فصائلها. ولكي لا يقع أيّ سوء فهم من أيّ نوع أحبّ أن تعرف أنّي أجد عشرات بل مئات الأسباب لانتقاد القيادات الفلسطينيّة، لكنّي أبرئ الجميع من تهمة إهمال المطالبة باستعادة مكتبة المركز وأرشيفه المنهوبين. وأجد من الضروري، إذاً، أن أواصل معك استعراض ما جرى دون الدخول في متاهة تفنيد أخطاء الروايات السابقة أو النبش في دوافعها. 

ففي إبّان الاشتباكات مع القوّات الإسرائيليّة التي غزت لبنان في العام 1982، تمكّنت دورية فلسطينيّة من أسر سبعة جنود إسرائيليين ونقلهم إلى مواقع فلسطينيّة، وانتهى الأمر بأن استقرّ عدد من هؤلاء في قبضة حركة "فتح" وعدد آخر في قبضة ”الجبهة الشعبية – القيادة العّامة“. وعندما جرت بإشراف الصليب الأحمر الدوليّ المفاوضات لمبادلة الأسرى الإسرائيليّين بأسرى فلسطينيّين، تشبّثت القيادة الفلسطينيّة بإدراج منهوبات مركز الأبحاث في عداد صفقة تبادل الأسرى. وأمام هذا التشبّث، وفي تلهّفها لاستعادة جنودها، رضخت إسرائيل. وفي المحصّلة، تمّت في 1983 صفقة تبادل الأسرى الشهيرة ، فأفرجت إسرائيل عن أكثر من ألف أسير فلسطينيّ وعن مكتبة المركز وأرشيفه.

لقد أوصت القيادة الفلسطينيّة، وفيها عدد ملموس من كبار المثقّفين الفلسطينيّين، بأن يتشبّث المفاوضون الفلسطينيّون باستعادة ما نهب. ولأنّ المرحوم خليل الوزير "أبو جهاد" هو من قاد فريق المفاوضين الفلسطينيّين، فإنّه لم يكن بحاجة إلى توصية، هو الذي كثيراً ما أسّس أو رعى، وكثيراً ما موّل، أيضاً، مؤسّسات ثقافيّة وعلميّة متعدّدة الأغراض، داخل الوطن المحتلّ وخارجه.

ولأنّي فقدتُ الصلة الشخصيّة بأحمد جبريل "أبو جهاد" الآخر، زعيم الجبهة الشعبيّة- القيادة العامّة ، فإنّي لا أملك أن أصف موقفه من مسألة إدراج منهوبات مركز الأبحاث في صفقة التبادل التي كان هو طرفاً رئيساً فيها.

استثمر الإسرائيليّون طول فترة التفاوض على التبادل لتصوير موادّ الأرشيف الذي نهبوه من المركز. وقد عرفتُ مؤخّراً الإجابة القاطعة على سؤال شغل بالي منذ وقع النهب: أين وضع النهّابون الإسرائيليّون النسخة المصوّرة والكتب؟ ولمن يعنيهم الأمر سأذكر هنا ما عرفتهُ؛ فقد أودع جيش إسرائيل هذا كلّه في مكتبة الجامعة العبريّة في القدس، ولكنّه حظر اطّلاع أحد عليه مالم يحصل على إذن الجهات الأمنيّة الإسرائيليّة.

وبالعودة إلى مآل مفاوضات التبادل، طلبت القيادةُ الفلسطينيّة من المدير العام للمركز، صبري جريس، أن يحضر إلى الجزائر في اليوم الذي تقرّر أن يتم التبادل فيه، لكي يُوقّع على إيصال باستلام مئة وأربع عشرة حاوية تضمّ مكتبة المركز وأرشيفه. وقد رفض صبري أن يحضر التبادل ويوقّع على إيصال باستلام حاويات مقفلة في احتفال عاجل دون أن تتوفّر فرصة تفحّص ما وضعته إسرائيل في هذه الحاويات. لكن إباء صبري لم يعطّل تنفيذ عمليّة التبادل. فالصليب الأحمر الدوليّ قبل أن يوقّع وصل الاستلام الملكة دينا التي كانت في الجزائر، وعيسى عبد الحفيظ المستشار السياسيّ لسفارة فلسطين في العاصمة الجزائريّة.

بالتزامن مع مفاوضات التبادل والتبادل ذاته، وقعت التطوّرات التي أفضت إلى إلغاء وجود مركز الأبحاث في بيروت. اعتُقلتُ أنا من قبل سلطات لبنان الجديدة. وبعد التحقيق معي في مبنى الأمن العامّ اللبنانيّ، صدر القرارُ بإبعادي عن لبنان، واقتادني رجلا أمن ألقياني في طائرة مغادرة إلى قبرص وأنا مقيّد اليدين. وبعد أيّام، أُبعد صبري جريس، بالرغم من الحصانة الدبلوماسيّة التي يتمتّع بها، فجاء إلى قبرص حيث كنتُ في انتظاره. وتعرّض آخرون من العاملين في المركز إلى الاعتقال أو الإبعاد، ولم يبق من مركز الأبحاث في بيروت ما يُعتدّ به.

وجرتْ محاولات شارك فيها قادة كثيرون لإقناع سلطات أيّ دولة عربيّة من الدول المحيطة بإسرائيل بأن تأذن لنا بأن نعيد تأسيس مركزنا في عاصمة هذه الدولة أو تلك، وذاك دون طائل. فتوجّهنا، صبري جريس وأنا ومن انضمّ إلينا ممن أبُعدوا عن لبنان، إلى إعادة تأسيس المركز في نيكوسيا عاصمة قبرص.

تحضرني هنا واقعة طريفة تستحق أن أرويها ليتّضح لكم واحد من الأسباب التي أدّت إلى بقاء الحاويات المستعادة في الجزائر. فبعد حصار طرابلس الشهير وخروج ياسر عرفات منه في باخرة فرنسيّة حملته إلى اليمن، وتوقّفه في قناة السويس، واختراقه المقاطعة العربيّة الرسميّة الإجماعيّة للنظام المصريّ، ولقائه مع الرئيس حسني مبارك، ثارتْ عاصفة احتجاج طاغية ضدّ هذا الاختراق العرفاتي، واشتدّ انقسام الساحة الفلسطينيّة، وقاد صلاح خلف "أبو إياد" المعترضين على الزيارة في "فتح" وغيرها، وبرز أبو إياد بوصفه المناوئ الأوّل والأكثر مقدرةً لياسر عرفات وسياسته تجاه النظام المصري.

في هذا الجوّ المشحون، التقى عرفات مع مبارك في لقاء آخر، وشاء الزعيم الفلسطينيّ، وهو الذي لا يُهمل الاهتمام بشيء يعنيه الاهتمام به، أن يدعم الجهود المبذولة وقتها لإقناع مصر باستضافة مركز الأبحاث. وكما هو مألوف في اللقاءات المماثلة، أبدى الرئيس المصريّ ترحيبه الشخصيّ بما طلبه عرفات، واستمهله كي يشاور الجهات المصريّة المختصّة. وفطن، وهو عرفات الذي يعرف طبيعة المجاملات المصريّة ومغازيها، إلى ما ينطوي عليه تفلّت مبارك، فشاء أن يُلوّح للرئيس المصريّ بالفوائد التي تجنيها مصر بوجود مركز أبحاثنا فيها. ومما قاله عرفات في هذا السياق، إنّ وجود المركز الفلسطينيّ في القاهرة سيوفّر لمصر هديّة ثمينة هي مكتبة مركز الأبحاث وأرشيفه المستعادين من براثن إسرائيل. فتعامل مبارك مع هذا الذي قاله عرفات بوصفه عرضاً من الرئيس الفلسطينيّ بتقديم المكتبة والأرشيف هديّة لمصر فعلاً وليس مجازاً، وشكر مبارك عرفات على الهديّة وأبلغ إليه أنّه يقبلها بامتنان شديد.

حكاية هذه الهديّة بلغت مسامع صلاح خلف، فاستشاط غضباً، وكان معه الحقّ في أن يغضب: مركز الأبحاث أولى الجميع بأن يستعيد ما نُهب منه، أمّا إن كان لا بدّ من إهداء الكتب لدولة عربيّة، فمصر مليئة بالمكتبات العامّة، والجزائر أولى. وبين ياسر عرفات وصلاح خلف، تماوجت مواقف القادة الفلسطينيّين الآخرين، بين مؤيّد لإعادة ما فقده المركز إليه، ومؤيّد لإهدائه لمصر أو للجزائر، وداع إلى تقسيمه بينهما أو منعه عن كليهما.. إلخ.

وهكذا، دخلت حكاية مصير المستعاد من منهوبات المركز بين مسنّنات الخلاف بين القادة، وانضاف إليها افتقار المركز للميزانيّة الماليّة التي تغطّي نفقات شحن مائة وأربع عشرة حاوية، براً وبحراً، من صحراء الجزائر إلى العاصمة القبرصيّة. ولم يتحمّس أحد لتغطية نفقات عمليّة شحن يعرف الجميع أنّ الاستفادة في قبرص من نتائجها أقلّ من أن يُدفع ثمن مرتفع لتنفيذها. وعلى هذا الحال، تعاقبت سنون كثيرة، ثم جاءت أوسلو وعقابيلها وضاقت حلقات المهتمين بالأمر، واقتصرت على المعنيين مباشرة به.

في غضون ذلك، نقلت الحاويات من معسكر تبسّه الجزائريّ الصحراويّ الذي وضعت فيه في البداية إلى مكان آخر تضاربت الأنباء التي وصلتنا إلى قبرص في تحديده. وفي العام 1989، استقلتُ أنا من مركز الأبحاث بعد خلافات جوهرها سياسيّ مع مديره العامّ، وتفرّغتُ كليّاً للكتابة، كما هو شأني إلى الآن، وفقدتُ الصلة المباشرة بالمركز، لكنّي لم أفقد الاهتمام بمعرفة مصير المكتبة والأرشيف المستعادين.

وفيما أنا أعدّ نفسي لإجراء هذه المقابلة معكم، اتصلت بمقرّ ما حمل اسم المركز القديم في رام الله، أي ما شكل إعادةً متواضعة لتأسيس المركز، وسألتُ د.سميح شبيب الذي أعاد إصدار مجلة المركز الشهريّة، "شؤون فلسطينيّة"، بعد أن جعلتها الميزانيّة المتواضعة فصليّة، عن أمور أحتاج لتذكّرها من أجل المقابلة، فعرف أنّي بصدد تقديم القصّة الكاملة لحكاية نهب مركز الأبحاث، وقدّم د. شبيب لي بشرى لم أتوقّعها: جَمّعت السلطات الجزائرية ما وقعت عليه من حاويات مركز الأبحاث، وتفحّصتها وأرسلت إلينا قائمة مفصّلة بما تضمّه، وأظهر استعراضنا القائمة أنّ الحاويات ضمّت فعلاً جزءاً كبيراً من المكتبة والأرشيف اللذين نُهبا في العام 1982، ووعدت سلطات الجزائر بأن تشحن هذا الكنز، الذي يضمّ سبعين حاوية من الحاويات المائة والأربع عشرة، وتوصله إلينا في رام الله. ولي أن أقول الآن إنّي لم أتلقّ نبأ عامّاً واحداً خلال السنوات العشرين الأخيرة فأسعدني، بمقدار ما أسعدني هذا النبأ.

وإذا كان لا بدّ من تحميل مسؤولية تأخّر الاستعادة الفعلية لما نُهب منذ العام 1982، فلم تتحقّق بوادر الاستفادة منه إلا في هذا العامّ، فإنّ هذه المسؤوليّة تقع على عاتق الذين أسهموا في تردّي الحال الفلسطينيّ العامّ منذ العام 1982 واستسلموا لواقع هذا التردّي أو قصّروا في مقاومته. ولئن شمل هذا الحكم فلسطينيّين كثيرين، فإن شمولهم لا يلغي حقيقة أهمّ، وهي أنّ مسؤوليّة التردّي ذاته، إن استسلم له بعضهم أو قاومه آخرون، تقع في المقام الأوّل والأخير على المعتدين الإسرائيليّين وكلّ من يشدّون على أيديهم من أجانب وعرب. وإذا كان هؤلاء المعتدون قد نهبوا موجودات مركز أبحاث، فإنّهم نهبوا قبل هذا وبعده وطناً بكامله وحرّيات ناسه وحيواتهم وتاريخهم ومنجزاتهم الماديّة والروحيّة الفرديّة والجماعيّة عبر هذا التاريخ، وألحقوا بالوطن وناسه كوارث لم تكفّ عن التعاقب منذ أكثر من قرن حتّى يوم الناس هذا، وقد لا تكفّ عن التعاقب في المستقبل.

يقال إنّ هناك أرشيفاً أو أرشيفات كانت م.ت.ف.، بقرار من الرئيس ياسر عرفات، تعمل على حفظها في دول صديقة، فما حقيقة هذا القول، وهل كان هناك شيئاً من هذا القبيل؟

تحدثت عن مكتبة مركز الأبحاث وأرشيفه وموجوداته الأخرى، ولم يكن فيها ما هو سرّي، بل إنّ الاطّلاع عليها كان متاحاً للجميع. أرشيف المركز لم يحتو الأرشيف الإداري لمنظمة التحرير، ولم يحتو الأرشيف الشخصيّ لأيّ قائد، أي أنّه لم يحتو ما يُعدّ في الأسرار. ما يدور الحديث عنه ممّا قد يكون مخزوناً لدى دول شقيقة أو صديقة هو محاضر اجتماعات المجلس الوطنيّ وهيئات م.ت.ف. القياديّة الأخرى حين كان يُعدّ لهذه الاجتماعات محاضر، وهو الأرشيف الشخصيّ لقادةٍ حرصوا على تسجيل وقائع عاينوها وحفظ كلٌ منهم ما سجّله في خزائن تؤجّرها جهات تضمن سرّيتها.

وقد عُنيتُ بأن أستفهم عمّا خزّنه في هذا النحو قادةٌ عرفتهم وعرفت ما فعلوه. أورد لك اسمين فقط من أسماء قادة فعلوا هذا، هما ياسر عرفات وخالد الحسن "أبو سعيد"، وقد علمتُ أنّ ما خزّناه آل بعد رحيلهما إلى أيدٍ أمينة.

بين ما يمكن أن يَعُدّه بعضهم سرّياً، وُجد في أرشيف مركز الأبحاث أشرطة، قليلة جداً، سَجّل عليها أصحابها شهاداتهم عن مهام قاموا بها، ثمّ لم يحن وقت الافصاح عن تفاصيلها. أضرب لك مثلاً واحداً عن الأشرطة التي سجّلتها أنا للدكتور المرحوم عصام سرطاوي عن مساعيه مع قادة الإشتراكية الدوليّة، وفي المقدّمة، ممّا اشتهر أمره، لقاءاته مع رئيس حكومة النمسا اليهودي برونو كرايسكي. مسجّلو هذه الأشرطة كانوا يطلبون عدم وضعها لاطّلاع الجمهور إلا بعد انقضاء عدد قليل أو كثير من السنين أو حتّى بعد رحيلهم عن دنيانا. مثل هذه الأشرطة، وأكرّر أنّها كانت قليلة العدد، كان يوضع في خزانةٍ حديديّةٍ يملك مفتاحها المدير العامّ للمركز وحده وهي موجوده في حجرة مكتبه. وقد حدّثتك منذ قليل عمّا جرى لمحتويات هذه الخزانة قبل نهب الإسرائيليّين لموجودات المركز.

شخصيّاً، لم أحتفظ، لا في منزلي ولا في أدراج مكاتبي في حجرات العمل، بأيّ وثائق لا أستطيع أن أجهر بأنّي أملكها. وذلك بسبب خشيتي المزمنة من مداهمة ناس الأمن السياسيّ، في أي بلد عملت فيه، لهذه الحجرات. وحين تلقّيت نصيحة خالد الحسن بأن أفعل ما فعله هو فاستأجر خزانة في برلين، أبيتُ اتّباع هذه النصيحة. وكنت كلّما حصلت على وثيقة هامّة أقدّم هذه الوثيقة إلى أيّ من أصدقائي الذين لا تستحوذ عليهم الهواجس المماثلة. وما أكثر ما فعلتُ هذا، وما أكثر ما انتفع آخرون بما أحلته أنا إليهم! وأذكر أنّي قلتُ لخالد الحسن إنّي لا أضمن أن يستمرّ النظام الصديق في حكم البلد الذي أُودع وثائقي في خزائنه، فما الذي يضمن أن لا يسقط نظام صديق ويحلّ محلّه نظام معادٍ لنا. فكأنّي كنتُ أقرأ في كتاب الغيب، فقد شهدتُ في حياتي سقوط أنظمة كثيرة صديقة وحلول أنظمة معادية محلّها. ولا أملك معرفة ما خسرناه بسبب هذا التبدّل.

فُقدت أرشيفات فلسطينيّة كثيرة، بضمنها كتب وقصاصات صحافيّة ووثائق ومواد سينمائية ولوحات وملصقات أثناء الاجتياح الإسرائيليّ للبنان في العام 1982، فلماذا لم يُكتب النجاح للمبادرات التي سعت لإعادة تجميع ما فُقد، هل لغياب الإرادة السياسيّة دور في غياب النجاح، أو أنّ هناك أسباباً أخرى؟

تحدّثتُ حتّى الآن عن ما جرى لمكتبة مركز الأبحاث وأرشيفه اللذين نُهبا بسهولة، لأنّ المركز لم يتّخذ إجراءات احتياطيّة، لتعويلنا على الضمانات الدوليّة، ولأنّ استمرار وجوده في بيروت كان قد تقرّر قبل انتهاء الحصار.

أمّا أرشيفات المؤسّسات الأخرى التابعة لـ م.ت.ف. وفصائلها، فإن القيادة الفلسطينيّة الموجودة في بيروت تنبّهت، منذ بدأ التفاوض الذي سبق أن تحدّثتُ عنه حول فكّ الحصار الإسرائيليّ عن بيروت وتجنيبها الدمار الكامل والإبادة البشرية، إلى الأخطار التي تتهدّد كنوز الممتلكات الفلسطينيّة العامّة، الماليّة والثقافيّة والعلميّة. فأجرت هذه القيادة الاتصالات اللازمة مع الدول الصديقة، وأخصّها الاتحاد السوفياتي، فبدأ دبلوماسيّو هذه الدول في إخلاء كلّ ما هو ثمين ماديّاً أو معنويّاً من بيروت إلى البقاع. وهكذا، خرجت من بيروت قبل خروج المقاتلين الأموالُ الورقيّة أو المعدنيّة التي تملكها م. ت. ف. وفصائلها، والوثائق ذات الأهمّيّة.

وقد أنسى أشياء كثيرة لكنّي لن أنسى جهود دبلوماسيّ سوفياتيّ خدم في أكثر من بلد عربي واحد، وانتهى به الأمر إلى أن صار المستشار الثقافيّ في السفارة السوفياتيّة في بيروت والمدير الاقليميّ لمكاتب وكالة أنباء نوفوستي في عدد من الدول العربيّة، إنّه صديقي السوفياتيّ محبّ الفلسطينيّين المستعرب ألكساندر سميرنوف. فقد ألف سميرنوف أن يقود بنفسه سيّارةً تحمل أثمن ما تملكه م.ت.ف. لتنقله إلى البقاع، أو حتى إلى دمشق، متسلّحاً بحصانته الدبلوماسيّة وفارضاً حتّى على زعران حواجز المتعاونين مع إسرائيل، وليس على الإسرائيليّين وحدهم، أن يحترموا حصانة ممثّل الدولة العظمى. وما فعله سميرنوف فعله دبلوماسيّون آخرون من زملائه السوفيات ومن رفاقه البلغار على وجه الخصوص، ومن غيرهم. 

وشاءت فرنسا أن تسجّل جميلةً على الفلسطينيّين وأنصارهم ومؤيّديهم في الدول العربيّة والإسلاميّة الأخرى. فاتصلت السفارة الفرنسيّة بالقيادة الفلسطينيّة، حين تقرّر خروج المقاتلين الفلسطينيّين من بيروت. وعرضت السفارة على القيادة أن تنقل المؤسّسات الثقافيّة الفلسطينيّة أيّ موادّ من طبيعة ثقافيّة إلى مبنى السفارة في رأس بيروت، وتعهّدت أن توصل فرنسا هذه المواد إلى أيّ عناوين خارج لبنان يطلبُ أصحاب الموادّ إيصالها إليها. وكُلّفتُ أنا من قبل القيادة بأن أبلغ هذا العرض الفرنسيّ إلى مؤسّساتنا المعنيّة به. فاتصلتُ بهذه المؤسّسات واحدة واحدة، وأبلغت إليها ما كُلّفت إبلاغه. وتأكّدت من المسؤولين الذين اتصلت بهم في كل مؤسّسة أنّهم يعرفون عنوان السفارة الفرنسيّة ويملكون الوسائل اللازمة لنقل كنوزهم الثقافيّة إليها. أمّا على صعيد الواقع، فإنّ حزماً قليلة العدد وصلت إلى السفارة، وكان منها حزمتان لهما أهمّيّة خاصّة: حزمةُ أشرطة أرسلتها إذاعة فلسطين في بيروت، ما زالت الإذاعة التي انتقلت إلى الوطن بعد أوسلو تستخدمها إلى اليوم، وحزمةٌ أخرى فيها ثروةٌ من الصور التي التقطها مصوّرو الوكالة الفلسطينيّة للأنباء ”وفا".

لا أعرف إن كانت سفارات غير هذه الفرنسيّة قد اتخذت مبادرة مماثلة، ولا أعرف بالتالي إن كانت القيادة الفلسطينيّة قد كلّفت سواي أيضاً بما كلفتني به. ولكنّي عرفت بعد إخراجي من بيروت أن الصديق الرائع المرحوم مصطفى أبو علي، رئيس قسم السينما في م.ت.ف.، قد أفلح في نقل جانبٍ لا بأس به من كنوز قسمه. وحين سألتُه عن وسيلته، كادت الدموع تفرّ من عينيه: "لم أفلح في نقل كلّ شيء"، فاحترمتُ حزنه الموجع لي أنا الآخر، ولم أكرّر سؤالي.

أمّا المؤسّسات الأخرى، فلم تستفد من المبادرة الفرنسيّة. أهمل بعض المسؤولين العرض الفرنسيّ، وعوّل الآخرون، منذ عرفوا أنّ مغادرة بيروت ستتمّ في سفن كبيرة، على أن ينقلوا أشياءهم الثمينة معهم على هذه السفن، ولم يقل أحد لهم إنّ اتفاقيّة الخروج أوجبت أن يُغادر كلّ مقاتل فلسطينيّ بيروت حاملاً بندقيةً واحدة وجعبةً عسكريّة صغيرة، وليس حقائب أو رزماً أو أيّ شيء من هذا القبيل.

ولأنّ السفن أخرجت من بيروت ثلاثة عشر ألف مقاتل، بينهم عددٌ ممّن قاتلوا بالكلمة أو السياسة وممّن لم يقاتلوا بأيّ شيء، فإنّ منطقة الجامعة العربيّة التي طالما شغلتها مكاتب الفلسطينيّين وشقق سكناهم خلت من شاغليها. وقد عنّ لي ذات يوم أن أزور هذه المنطقة، فما كان أوجع ما شهدتُ أثناء هذه الزيارة! المكاتب وشقق السكن وقد أخليتْ، وعبث شتّى أنواع الناس لشتى الأغراض بموجوداتها الثمينة وغير الثمينة، وألقوا على أرض الشقق وأرض الشوارع والأزقّة بما لم يستهوهم أخذه من موجوداتها. وأذكر أنّي وقعت في أحد شوارع المنطقة على سجلّ كبير وجدتُ فيه أسماء أعضاء فصيل فلسطينيّ صغير، هو انشقاق عن فصيل أكبر، ومع كلّ إسم صفته في التنظيم ومقدار راتبه الشهري.

هل ترى أنّ هناك إهمالاً من قبل الجهات الفلسطينيّة التي يجب أن تهتمّ بتوثيق الذاكرة الفلسطينيّة؟

الإهمال ظاهرة تطال كلّ شيء في حياتنا العامّة. وقد تفاقمت هذه الظاهرة مع تفاقم حالة التردّي بعد الخروج من بيروت، بسبب الجهد المنهجيّ الذي تمارسه إسرائيل لإلغاء الوجود الوطنيّ، وبضمنه الذاكرة الجمعيّة، للشعب الفلسطينيّ، حتّى تتبدّد السمات المشتركة التي تصون هذا الوجود الوطنيّ. وقد أوضحتْ إجاباتي السابقة جانباً من النقطة التي يثيرها سؤالك، وبَقي أن أضيف أنّ المسؤول الرئيس عن هذه الحال هو العدو الذي يُدمّر بمثابرة شديدة البنى التحتيّة الماديّة والروحيّة للشعب الفلسطينيّ، فلا يُبقي مجالاً لترسيخ الذاكرة أو لإنبات بنى فوقيّة تحلّ محلّ البنى المتفسّخة التي أكل الدهر عليها وشرب وتجشّأ أيضاً.

لقد أدّى التدمير الذي تُلحقه إسرائيل بالبنى التحتيّة الفلسطينيّة، بمساعدة من يشدّون على يدها من عرب وغير عرب، مع أسباب أخرى، بالطبع، إلى تفاقم حالة العجز الذي ينجم منه ليس الإهمال وحده، فقط، بل قصور ذات اليد وعجزها عن وقف التردّي أيضاً.

ماذا عن غياب مبادرات من قبل الجهات غير الحكوميّة، أو الفصائليّة، أو الأهليّة، رغم تعدّد المبادرات الفرديّة من قبل مثقّفين فلسطينيّين؟

لا أتفق معك على أنّ المبادرات الفرديّة هي أكثر من مبادرات الجهات غير الحكوميّة والفصائليّة والأهليّة. فسلوك إسرائيل ومن يشدّون على يدها أبلغ العطب إلى نقي العظام، وصار الجميع، مؤسّسات وأفراداً، حين يتعلق الأمر بجوهر الأمور، سواء. 

كيف، في رأيك، هو السبيل اليوم إلى جمع الذاكرة السياسيّة والثقافيّة الفلسطينيّة، وهل من رؤية واضحة لتحقيق هذا الجمع؟

معظم وقائع الحياة العامّة الفلسطينيّة اختزنتْه الذاكراتُ الفرديّة لصنّاع هذه الوقائع وشهودها. ومع تفاقم التخلّف، وبضمنه ضمور الرغبة في البوح ووهنُ الإلحاح على المراجعة، يشتدّ التخلّف في مجال جمع الذاكرة العامّة، فتنشط ذاكراتُ الأفراد لاختزان وقائع الحيوات الشخصيّة. فقد تجد في مخيّم فلسطينيّ أو قريةٍ أو مدينةٍ كثيرين قادرين على استحضار الوقائع الشخصيّة لسكّان محيطهم، ولا تقع إلا على أفراد معدودين يعرفون ماهي فصائل السلام، أو روابط القرى، أو ما هو دور هنري كتن وعوني عبد الهادي في الحياة الفلسطينيّة العامّة قبل 1948 أو بعده. وقد روى لي من أثق بصدقه أنّ مسابقة أجرتها وزارة فلسطينيّة تُعنى بالعمل السياسيّ لاختيار موظّفين فيها، فتقدّم للمسابقة هذه مائة وخمسون خرّيج جامعة، فأفلح قليلون جداً منهم في تعريف الحاجّ أمين الحسيني تعريفاً صحيحاً أو قريباً من الصحّة، وأفلح أقلّ من هذا القليل في تعريف الأستاذ أحمد الشقيري. ولأنّي لا أفصلُ بين مستوى التطوّر المجتمعي وبين إفرازاته الثقافيّة، فأنا أومن بأنّ المجتمع المفتقر إلى التطوّر الذي يحقّق التراكم الرأسمالي لن يفلح في تحقيق تطوّر الذاكرة الوطنيّة.

بالرغم من هذا، ومع تفاقم الإحساس بالخطر على الذاكرة الوطنيّة، صدرتْ منذ سنوات دعوات متفرّقة أطلقها أفراد متقدّمو الوعي لصيانة الذاكرة الوطنيّة وتعزيزها، بعض هذه الدعوات حمل عنوان التأريخ الشفهي، وبعضها حمل عنوان كتابة الشهادات من قبل صنّاعها وشهودها الآخرين. والواقع أنّ عملاً كثيراً قد أنجز تحت هذين العنوانين، غير أنّ ما أنجز ظلّ إلى الآن أقلّ من المطلوب لصيانة ذاكرة وطنيّة معرضة للضياع بفعل فاعلين مثابرين ومقتدرين. إنّه التردّي العامّ للحال الفلسطينيّ، وهو أيضاً الشتات، وكذلك ما حلّ ويحلّ بهذا الشتات، إنّه، بكلمات وجيزة، عدم الاستقرار.

شعب يتعرّض وجوده الوطنيّ، بما هو شعب، لإبادة منهجيّة منذ عقود كثيرة لا بدّ أن يُعدّ منجزه في مجال الاحتفاظ بهذا الوجود بين معجزات عصرنا. وأنت تسأل عمّا إن كانت هناك رؤية واضحة لتحقيق هذا الهدف. وأنا أملك أن أبيّن لك رؤيتي: لن يستطيع شعب فلسطين أن يفعل ما يفي بالغرض في هذا المجال إلا إذا تمتّع بحقّ تقرير المصير وتوفّر له الوضعُ الذي يمكّنه من ممارسة حياته الطبيعيّة. والمطلوب قبل أيّ شيء آخر هو التشبّث بالكفاح الوطنيّ، بشتى أشكال الكفاح، حتّى تزول العقبة التي تقف في وجه التمتّع بحقّ تقرير المصير. والعقبة، بكلمة واحدة، هي الاحتلال. وبدون القضاء على هذا الاحتلال وصانعيه، سوف يبقى كلّ شيء على حاله المشكوّ منه. التمتّع بالحريّة، وما يقترن بها من أمانٍ واستقرار وحياة طبيعيّة، سيهيئ الظرف الذي يُمكّن الشعب الفلسطينيّ من استعادة ما خسره، وتدارك ما فاته بناؤه، وهذا سيأذن بإعادة بناء البنى التحتيّة الماديّة والروحيّة التي دمّرها الاحتلال، فيأذن استطراداً، بتوفّر بنى فوقية جديدة تحلّ محلّ البنى المتفسّخة والعاجزة.

كيف تُقيّم المنجز الثقافي الفلسطينيّ في الأرض الفلسطينيّة التي تشرف عليها السلطة كمتحف محمود درويش، المتحف الفلسطينيّ، متحف ياسر عرفات، تخصيص مبنى للمكتبة الوطنيّة المأمولة.. إلخ. ألا نخاف من مصير محتمل لها مماثل لما حصل لمركز الأبحاث؟ وقد يقتحمها جيش الاحتلال في أي وقت؟

تأسيس حديقة البروة، هذه التي أشرت أنت إليها بتسمية متحف محمود درويش، تقدّم مثالاً على ما أشرت أنا إليه في ما سبق من حديثي إليك. فهذه الحديقة التي تضمّ ضريح الشاعر ومتحفه، والتي تشغل ثمانية آلاف متر مربع على قمّة تلٍ مشرفٍ على مدينة رام الله، صمّمها ونفّذها مهندسون وعمّال كلّهم فلسطينيّون، وتمّ إنجازها بالتعاون بين السلطة والبلدية والجمهور، وأُنجز العمل فيها بسرعة قياسيّة، وقد أسهم الجميع، السلطة، والبلديّة، والمتبرّعون الأفراد، في تمويل هذا العمل البديع. وبجوار هذه الحديقة، أقيم قبل إنشائها مركز ثقافيّ يضمّ مسرحاً معدّاً لأداء الأعمال المسرحية كلّها، ومزوّداً بأحدث تكنلوجيا هذه الأعمال. وما ينطبق على ما سمّيته أنت متحف محمود درويش انطبق بتمامه على متحف ياسر عرفات وعلى كثير من المنجزات الثقافيّة الأخرى في قطاع غزّة وفي الضفّة.

إشارتك، ولأقل هواجسك بشأن أخطار الاحتلال الإسرائيليّ على أيّ منجز فلسطينيّ ثقافيّ أو غير ثقافيّ، أشاركك فيها ويشاركنا كثيرون. والوضع يطرح معضلة: هل يكفّ الفلسطينيّون عن تحقيق أيّ منجز لأنّ جيش الاحتلال قد يدمّره، أو إنّ عليهم أن يواصلوا تحقيق ما يتيسّر لهم تحقيقه، بالرغم من هذا الخطر؛ إنّها المعضلة التي تنطبق على بنود الحالة الفلسطينيّة كلّها. وفي رؤيتي للوضع بإجماله، أنا مقتنع بأنّ هذا الوضع يتضمّن عوامل فريدة تقتضي حلولاً فريدة. وبهدي هذه الرؤية، وانطلاقاً منها، نصحتُ القائمين على شؤون المتاحف العديدة التي جرى إنجازها والتي في قيد الإنجاز بأن يتجنّبوا عرض أيّ مادّة أصليّة فيها وأن يستعيضوا عن عرض مثل هذه المادّة بعرض صورة لها. غير أن رؤيتي ليست هي الوحيدة الموجودة في الأرض المحتلّة.