كتبها ماتان كامينر ونشرت في "جاكوبين" في ١/١٠/٢٠٢٥.
حتى قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان سكان غزّة قد أُقصوا إلى موقع «سكان فائضين» عن الحاجة، لا يُستخدمون إلا في حدودٍ دنيا داخل الاقتصاد الإسرائيلي. لقد أسهم طردهم من الاقتصاد الرأسمالي الإسرائيلي في التمهيد لوقوع الإبادة الجماعية.
يشاهد العالم بخزيٍ وخوفٍ اجتياح إسرائيل لمدينة غزّة، إذ تنقل حملتها الإبادية ضد الفلسطينيين إلى مستوى جديد من الرعب. لقد انقلب الرأي العام في أنحاء العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة، ضد عدوان إسرائيل منذ زمن، كما أصدرت أعلى مؤسسات الحكم الدولي دعوات متكررة لوقف العدوان.
لكن رغم أن بعض الحكومات الأوروبية بدأت تبتعد عن إسرائيل، فإن أقوى دول الكتلة الغربية ما زالت تدعمها بلا تردد. حتى إن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو سافر إلى تل أبيب ليتعهّد شخصيًا باسم إدارة ترامب بـ«الدعم الكامل». وقد استقبل رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بحرارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الذي صرّح سابقًا بأن «غزّة خالية من الأبرياء».
وإسرائيل دولة صغيرة تعتمد كليًا على الولايات المتحدة وداعميها الغربيين الآخرين. فلماذا يصرّ قادة هذه الدول على دعمها، رغم الرفض الشعبي الجارف لذلك، وحتى على حساب فرصهم الانتخابية؟ هل الميل الكامن إلى القضاء على الشعوب غير البيضاء جزء من «الحمض النووي الأيديولوجي» للغرب، كما تقول بعض قراءات نظرية الاستعمار الاستيطاني؟ أم أن هناك ما في ديناميات النظام الرأسمالي العالمي يجعل الإبادة ممكنة، بل مرجّحة؟
للوهلة الأولى، قد يبدو هذا الادعاء مشكوكًا فيه. فالرأسماليون يعتمدون على العمل البشري لتحقيق أرباحهم؛ فما الفائدة إذًا من تدمير قوة العمل البشرية؟ غير أن تاريخ الرأسمالية هو أيضًا تاريخ الطرد المتزايد لأعداد هائلة من الناس من العمل المنتج.
لقد كان الفلسطينيون عامة، وسكان غزّة خاصة، من أولئك الذين حُوِّلوا إلى «سكان فائضين»، أي إلى فئة لا تحتاجها الرأسمالية العالمية، وتكون سعيدة بتدميرها عندما تقاوم مصيرها — كما لا بد أن تفعل.
السكان الفائضون
لا يستطيع الرأسمالي الفرد تحقيق الربح إلا عبر استغلال العمال، لكن المنافسة بين الرأسماليين تجبرهم على الاقتصاد في استخدام العمل. وكما أوضح كارل ماركس في «رأس المال»، فإن ارتفاع الإنتاجية يؤدي على المدى الطويل إلى زيادة عدد العمّال الزائدين عن حاجة رأس المال، أي الذين لا يجدون عملًا منتجًا. وتشير أبحاث حديثة إلى أن حجم هذه «السكان الفائضين» يبلغ اليوم ما بين 40 و60% من البشرية، وهي نسبة تتزايد بوضوح.
كلما طال عمر الرأسمالية، ازدادت احتمالات تعرّض العامل العادي عالميًا للبطالة والفقر. لكن الأمر لا يقوم على انقسامٍ بسيط بين عاملٍ وعاطل؛ بل يُقسَّم البروليتاريا إلى طبقات متدرجة، لكلٍّ منها مستوى مختلف من الاستقرار الوظيفي. وغالبًا ما يُربط هذا الانقسام بفئات مثل العِرق والطائفة والدين والجنس. ومع تشديد الرقابة على الحدود، أصبحت الجنسية، على وجه الخصوص، عاملًا حاسمًا في تهميش فئاتٍ واسعة ضمن هذه المجموعة الفائضة.
حتى إن لم يحتج رأس المال إلى عملهم باستمرار، فهو يجد للسكان الفائضين استخداماتٍ أخرى. إذ يوظفهم كـ«جيشٍ احتياطي» يمكن استدعاؤه بسرعة في فترات الازدهار، وصرفه عند الأزمات، كما يُستخدم لخفض الأجور. ويساعد التطور الرأسمالي أيضًا على خفض تكلفة الحاجات الأساسية، ما يجعل من الممكن إبقاء هؤلاء السكان على قيد الحياة عبر «المساعدات الإنسانية».
غير أن رأس المال في جوهره متحرّر من أي التزامٍ بإعادة إنتاج هؤلاء السكان على المدى الطويل أو عبر الأجيال. وحين تسنح الفرصة، لا يتردّد في اختبار أساليب تمزج بين الاستغلال وتدهور مستويات المعيشة. فالقضاء على الدعم الحكومي لإعادة الإنتاج الاجتماعي في بلدان الجنوب العالمي، مثل بنغلادش، عبر «برامج التكيّف الهيكلي»، لم يمنع رأس المال العالمي من مواصلة استغلال الطبقات العاملة هناك رغم تزايد بؤسها.
من فرط الاستغلال إلى الإبادة
مهما كان هذا الاستغلال وحشيًا، فإنه لا يرقى إلى الإبادة الجماعية. لكنه يمكن أن يتحول إليها، كما بيّن آدم توز في دراسته عن الاقتصاد النازي. فقد ربط توز بين إبادة يهود أوروبا الشرقية ومخطط «الجنرالبلان أوست» (Generalplan Ost) الاستيطاني الذي سعى لتحويل المنطقة إلى ريفٍ زراعي يخدم ألمانيا. وبموجب هذا المخطط — الذي حظي بدعمٍ متحمّس من الرأسماليين الألمان — كان من المقرر أن يُعتبر جميع يهود المنطقة ومعظم سكانها «فائضين»، وبالتالي محكومين بالتهجير أو الموت.
لكن منطق النازية تطلّب في الوقت نفسه استخدام كلّ طاقةٍ بشرية متاحة، والحفاظ على الغذاء ووسائل المعيشة للجنود والمدنيين الألمان. وهكذا صُمِّم مجمع أوشفيتز-بيركيناو لتحقيق «دمجٍ عقلاني» بين الاستغلال والإبادة: مَن لا يستطيع العمل يُقتَل فورًا، والباقون يُرهقون بالعمل حتى الموت، بينما تُستنزف أجسادهم الجائعة أقصى طاقتها، تحت تجارب علمية لتحسين «كفاءة» هذه العملية. ومن دون أن تحمل الأيديولوجيا العنصرية نفسها، قادت السياسات البريطانية في الهند، مثل «تحويل السعرات القسرية» من المدنيين إلى الجيش، إلى مجاعات أودت بالملايين، كما حدث في الاتحاد السوفييتي أيضًا.
في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، جعل ارتفاع الإنتاجية الزراعية إطعام الناس أرخص بكثير، ولم تعد الدول الإمبريالية مضطرة للاختيار بين إطعام المتروبول والمستعمرة. وكما أوضحت دراسات الزراعة النقدية، فإن إغراق العالم الثالث بفوائض الغذاء كـ«مساعدات» دعم أرباح الغرب، لكنه قوض قدرة الفلاحين الجنوبيين على البقاء في أراضيهم، وجعلهم أكثر عرضة للجوع رغم وفرة الغذاء عالميًا. وقد أدّى تعميق التبعية للسوق في الجنوب إلى تفاقم نمو السكان الفائضين، الذين تركزوا الآن في المدن.
تشكّل قطاع غزّة
في الشرق الأوسط — المنطقة الأكثر اعتمادًا على الغذاء في العالم اليوم — كانت هذه الدينامية أكثر وضوحًا. وداخلها تُعَدّ غزّة حالةً متطرفة. فقد تحوّل الفلاحون الفلسطينيون، الذين طُرد معظمهم في نكبة 1948 وجُمِعوا في مخيمات لاجئين حول الدولة الجديدة، إلى نموذجٍ للسكان الفائضين في المنطقة.
القطاع الساحلي الصغير، الذي أصبح لاحقًا «قطاع غزّة»، نشأ من الكارثة كمنطقةٍ خاضعة للحماية المصرية تستضيف مئات الآلاف من اللاجئين من جنوب فلسطين. وكان ذلك على خلاف الضفة الغربية التي سيطر عليها الأردن، حيث تمكن جزء كبير من الفلاحين من الاحتفاظ بأراضيهم.
بعد احتلال المنطقتين عام 1967، دخل الفلسطينيون من غزّة والضفة إلى سوق العمل الإسرائيلي. وبحلول عام 1986، كان 46% من القوى العاملة الغزّية تعمل في إسرائيل، مسهمةً في ازدهارها الاقتصادي الطويل. غير أن سياسة «اللا-تنمية» الإسرائيلية أبقت غزّة في حالة هشاشة دائمة، إذ منعت نشوء قاعدة إنتاجية داخل القطاع، وسعت في الوقت نفسه لتجنّب اعتماد الشركات الإسرائيلية على العمال الغزّيين خشية التبعات السياسية.
وقد تحقّق هذا الخطر فعلاً مع اندلاع الانتفاضة الأولى (1987–1991)، التي أدت إلى طرد تدريجي للعمّال الفلسطينيين، خصوصًا من غزّة، واستبدالهم بعمّالٍ مهاجرين من الجنوب العالمي. ومع «عملية السلام» في أوسلو وسياسة «الفصل» الإسرائيلية، تسارع هذا الاتجاه، حتى لم يتجاوز عدد العاملين من غزّة في إسرائيل عام 2022 نسبة 3.5% من القوى العاملة. ومع اندلاع الحرب في 2023، أُغلقت الأبواب تمامًا. وهكذا أُقصي جميع الغزّيين تقريبًا حتى من فئة «المستخدمين دوريًا» ضمن السكان الفائضين.
استقلال هشّ
يكشف الوضع الذي فُرض على قيادة غزّة بين عامَي 2007 و2023، كما وصفه طارق بقعوني في كتابه "حماس محاصرة"، عمّا يُعرض اليوم على السكان الفائضين في العالم. فقد فُرض على غزّة حصارٌ من ثلاث جهاتٍ إسرائيلية ورابعة مصرية، مُنح خلاله القطاع قدرًا محدودًا من الحكم الذاتي الداخلي ومساعدات غذائية تكفي لتجنّب المجاعة.
في المقابل، كان يُتوقّع من سكانه القبول بدوراتٍ روتينية من العنف العقابي، والفقر المدقع، والانفصال عن باقي الشعب الفلسطيني، والنسيان الدولي. وشمل هذا الترتيب — إلى جانب إسرائيل التي امتنعت عن إسقاط حكم حماس — قطر، حليفة حماس، التي موّلت بقاء الغزّيين أحياء لكن في حالة جمودٍ اقتصادي وسياسي.
في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، قلبت حماس هذا الترتيب رأسًا على عقب عبر هجومٍ مفاجئ على المنطقة الإسرائيلية المحيطة بغزّة، استهدف مدنيين وجنودًا على السواء. وفي اليوم نفسه، بدأ سكان غزّة — الذين لم يُستشروا في الهجوم — بدفع الثمن: حملة إسرائيلية من القتل العشوائي، بنسبة قتل لا تقل عن سبعين إلى واحد (حتى الآن)، وتدميرٍ متعمّدٍ للبنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس.
وقد أعلن باحثون ونشطاء فلسطينيون فورًا أن ما يجري هو إبادةٌ جماعية قيد التنفيذ، مستندين إلى تصريحات القادة الإسرائيليين وأفعالهم، وهو ما تؤكده اليوم جهات قانونية وأكاديمية عديدة. كما استهدفت إسرائيل — بدعمٍ مباشر أو ضمني من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفائها «الإبراهيميين» — كل القوى الإقليمية المتضامنة مع غزّة، من حزب الله إلى الحوثيين في اليمن، وصولًا إلى إيران. وحتى هجومها الأخير على قطر، الحليف المخلص لواشنطن، لم يُضعف هذا الدعم.
ثمن التمرّد
من الواضح أن الإبادة الإسرائيلية لا يمكن تفسيرها بعوامل اقتصادية فقط؛ فهناك مستويات أخرى من التحليل، من ألاعيب بنيامين نتنياهو السياسية إلى التقاء الأيديولوجيا الإنجيلية بالصهيونية، كلها ذات صلة. لكن فهم كيف تُنتج الرأسمالية سكانًا فائضين، ولماذا لا تكترث لمصيرهم، يساعدنا على إدراك سبب إصرار قوى الإمبراطورية على دعم عقاب غزّة.
إن الدافع، ببساطة، هو فرض ثمنٍ باهظٍ على أي تمرّدٍ لهذه الفئات ضد احتوائها. فلهذه الشريحة المتزايدة من البشر، التي ترى بؤسها منعكسًا في صورة الفلسطينيين، يوجّه التدمير الإسرائيلي المدعوم غربيًا رسالة واضحة: ابقوا في «حُفَرِكم» (كما يسميها دونالد ترامب)، وستُمنحون عيشًا نباتيًا بائسًا بلا عملٍ منتج ولا سيطرةٍ على مصيركم الجماعي. أما إن حاولتم كسر الحصار، فستُبادون.
ورغم فظاعة هذه الرسالة، لا يتعارض شيءٌ فيها مع مصالح رأس المال. فالإبادة الجماعية ليست حتمية أبدًا — إنها دومًا جريمة تقع على عاتق أفرادٍ ودولٍ بعينها. لكنها، في عالمٍ يحكمه نظامٌ يرى البشر أنفسهم فائضين عن الحاجة، تظل خطرًا حاضرًا ومتزايدًا باستمرار.