"الزن على الودان أمَّر من السحر" هو مثل يردده المصريين كحكمة متداولة عن تأثير "التكرار" والإعادة المحمومة على مسارات التفكير والحياة العملية بشكل ملموس. لكسر ما هو "أمَّر من السحر" لابد أن أُذَكِر نفسي ببديهيات واقعية حتى لا تُسلَب مني في إطار حرب المفردات والمفاهيم التي نُقذَف بها كل يوم من الساحة الدولية عبر وسائل الإعلام والتصريحات السياسية وفي الشارع العربي الذي أسكنه بين مدينتان. المد اليومي من المصطلحات والتعريفات السياسية بالأساس ينبعث من حقنا في البقاء والحياة أو عدمها. أكرر لنفسي أنه لا يمكن نزع صفة البشرية/الإنسانية عن أي إنسان علمياً وواقعياً ولهذا لا يجوز أن تصبح صفة “الإنسانية” أو "الأنسنة" بمثل تشريف وعباءة لغوية ومعنوية ترقى بالبشر من البدائية/التخلف للحضارة/التقدم/التطور كما يقصد بها الغرب الأوروبي الليبرالي الأبيض. الالتباس بين "الإنسانية" وتحويلها لفعل، أي "الأنسنة،" وعكسها بنزعها، تحولت في المعمل اللغوي السياسي الغربي إلى جزء من الخلطة السياسية التي تهدف إلى الدفع الدائم بهذا المصطلح، التي لا تضح معالمه في الخطاب اليومي بشكل قاطع، إلى مساحات من الكلام تمتلئ بأحكام مسبقة مبنية على تفاصيل صلاحية هذا الانتقاء السياسي.
يذكرنا كورنيل ويست الفيلسوف الأمريكي والمرشح الرئاسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية السابقة في حواره مع الإعلامي الأمريكي كريس هدجز، بسلة المصطلحات التي يستخدمها خطاب الرجل الأبيض طالما تحدث عن البشر في التمثل الأوروبي وكأن الإنسانية بمعناها العريض مكانة تتم في إطار مفهوم "العضوية"، لتصبح مركزية النقاش هي تحديد من ينتمي لها ومن لا ينتمي لها من موقع الأوروبية البيضاء. ويذكرنا بعلاقة تلك العضوية بمنطق الاستعمار في سياق أمريكا الشمالية مثلاً عندما أعلن المستعمر الأوروبي أنها خالية من البشر (كما يتكرر هذا الطرح فيما يتعلق بفلسطين والاحتلال الصهيوني). في الوقوف أمام بشر آخرون والادعاء أنهم ليسوا كذلك يَستَدعي التمادي في هذا الإنكار الممنهج لفكرة تأسيسية لابد من الرجوع إليها وهي فكرة العضوية للبشرية أو للإنسانية عند تبني هذا المنطلق الفكري والسياسي. وبهذا تنبثق لعبة تحويلها إلى فعل ومبادلة المصطلحات في سياق يطرح تطابق داخل باقات من المفردات من المفترض أن يؤدي بعضها إلى بعض بسبب فرضية "العضوية" التي تطرحها نقطة الانطلاق في النظر والحكم على العالم ومن هو “الإنسان" بالأساس. أطلق الكاتب والمعلق والسياسي محمود مامداني على مبادلة المصطلحات التي تغذي تأطير الأسباب والعواقب السياسية بمفهوم "تنميط الثقافة السياسية" (Culturalization of Politics) التي استعانت به ويندي براون أستاذة العلوم السياسية الأمريكية بجامعة بيركلي في كتابها "تنظيم الاشمئزاز" (Regulating Aversion). يوضحا مامداني وبراون أنه من خلال التنميط المستمر يتم غمر وتدريب الشعوب التي تعيش في سياق سياسي معين على الخلطة السياسية التي يتم فيها مبادلة المصطلحات والمفاهيم كثقافة دارجة ومنتشرة "تساوي وتخلط (ما تعتبره) غير قابل للمقارنة من أشخاص وممارسات...".1Brown, Wendy. 2006. Regulating Aversion: Tolerance in the Age of Identity and Empire. Princeton: Princeton University Press. P. 19. My translation from: “(M)ore than being ambiguous” a furthering effect takes place that “equates and conflates non-commensurable subjects and practices…”
مسألة البدائية والحضارة بشكلها المجرد أصبحت في عرف الثقافة العالمية (الأكثر رواجاً بحكم موازين قوى الهيمنة وعدد المؤسسات والكتل المنتجة للمعرفة الواقعة فيما يسمى بالشمال العالمي) معضلة الرجل الأبيض في تعاطيه مع الاستعمار والعنصرية التي تنتمي إلى باقة المفردات المتعلقة بالعضوية في "الإنسانية" كي تستطيع أن تنظر في أعين السكان الأصليين وتدعي أنها لا ترى بشر أو إنسان. ليصل الإنكار لحد الاحتقار ولكن يظل إيجاد تصنيف للحم والدم الماثل أمام الرجل الأبيض ضروري لأنه مُنطَلق المعارف. في الحالة السابق ذكرها كان الاختلاف في أسلوب الحياة ومعنى الحضارة وممارساتها بين الأوروبي الأبيض والأمريكي الأصلي يتطلب من العقل الاستعماري استحضار قدر لا بأس به من التعالي والاحتقار لسحب عضوية سكان أمريكا الشمالية الأصليين من الإنسانية وادراجهم كمخلوقات مصيرها القتل والمحو. يصل بنا مفهوم منح وسحب العضوية من الإنسانية بمعناها البيولوجي والثقافي والسياسي لتحويلها إلى فعل يتعدى وصف إنسان لإنسان، فعند المنح يمكن أن نتبنى المفردات المخصصة لوصف إنسان لإنسان، ولكن عند السلب أو الطرد فهناك باقة مجهزة أيضاً لهذا الغرض. لنصل لحزمة المصطلحات الاستعلائية المجرمة والقاتلة مثل "الحيوانات البشرية" التي لا تُصَنَف كشتيمة لاحتقار الآخر بحد الخصوص، بل كسبب تأسيسي للتحكم والعبودية والقتل والإبادة. طالما شعرت بالانكماش والتوتر والغضب كلما حضرت كلمة dehumanize (نزع-الأنسنة) في نقاش ما. هذا المصطلح يصف بالأساس الإنسان الذي يعيش في ظروف مجحفة ومهينة اقتصادياً وسياسياً. يرى الطرف الأقوى في تعاليه استحالة أن يصل به الحال لتلك الظروف وفي هذه الاستحالة المتخيلة يميز نفسه عن الأخر. في إطار العقل الاستعماري فرصة لترسيخ مؤشرات هذا الواقع المرير، فيه يجعل المستعمر من ضحيته نموذج لإثبات واستعراض علاقة واضحة لتفاوت القوة بين الطرفين (أو أكتر) تضع الطرف الأضعف رهن ظروف بدائية تضمن إعاشته بيولوجياً على مستوى ما، كي يبعده عن الموت بنسب متفاوتة ويضمن الحرمان من كل ما يتمتع به الطرف الأقوى من مقومات ازدهار الحياة البشرية (ٍالأنسنة) من صحة بدنية ونفسية وعاطفية وروحية.2Anker, Elizabeth S. 2012. Fictions of Dignity: Embodying Human Rights in World Literature. Ithaca: Cornell University Press. ولأن معامل المصطلحات تقوم بعملها في سن القواميس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في معزل عن شعوب المقهورين المسحوقين فيما يسمى بالجنوب العالمي والذي تقع بلادنا العربية ضمنه. فنواجه المصطلح معرفياً وتفاوضياً بأشكال متعددة وفي تلك الأثناء يرشح المصطلح كما البقعة التي تتمدد على الإنسان الأضعف كصفة ملتصقة بوجوده وكأن الحرمان من الازدهار والشعور بالأمان يأتي مع ولادته بالتعريف كجوهر وجودي وكأن ما ومن يهينه ويقهره ويُعيقه ويهدم مقومات حياته لا يقع في حسابات هذا المصطلح لأنه لا يعترف بمآل وسياق عناصر التحكم. ولنا في كتابة أستاذة الأنثروبولوجيا بجامعة جونز هوبكنز فينا داس تأملات عنما يحدث في قلب هذه الصيرورة بالنظر للعكس. تنبهنا فينا داس بأن الخروج من إطار الإنسانية في فهم العنف مغلوط جذرياً لأنه يمنعنا من "التساؤل عن الحياة نفسها"3Das, Veena. 2007. Life and Words: Violence and the Descent into the Ordinary. Berkeley: University of California Press. P.90 (ترجمة الكاتبة). هذا التساؤل البالغ الأهمية كتبت عنه فينا داس في تأمل وتفكيك الأحداث التي أحاطت بالفصل بين الهند وباكستان وأحداث الاعتداء التي نتجت عنه بين الطرفين وما تركته من أثر على الحياة اليومية والأجساد والعقل الفردي والجمعي لمن سكنوا الحدود على الجانبين من ضحايا العنف. تذكرنا بأن هؤلاء لم ينظروا لمن أجرموا في حقهم وحاولوا سحقهم كوحوش مثلاً: "ذعر الانتهاكات التي نتجت عن التقسيم كمنت بالأساس في حقيقة أن الضحايا كانوا يعلمون أن المعتدين بشر: وهذا ما يجعل الحياة نفسها محل سؤال."4Ibid. “…for the terror of the violation of the Partition was precisely that victims knew their perpetrators to be human: that is what puts life itself into question.” P.90 كيف نقوم بمراجعة أي مفهوم عن العيش المشترك بكرامة في حين نقوم بطرد الأفراد والمجتمعات والشعوب من "عضوية" الإنسانية بتعريفاتها، بدون تلك المرآه بكل ما تحمل من قبح تحمل تشوهات واستعلاء قد يختلف سياقه وموقعه من قوى الاستعمار ولكن مفاده أنه لا علاقة لنا ببعضنا البعض فكيف نسائل المجرمين وكيف ننقذ المقهورين؟
يُنسَب واقع الطرف الذي يقع تحت سيطرة المعتدي كرهينة سياسية لضعفه، هذا التلفيق يتم بشكل ممنهج وحاسم وأساسي في الخطاب السياسي وبالتبعية يحاك هذا الضعف حول المُستَعمَر ليظهر وكأنه لا يقاوم لأنه بطبيعته تابع. يدعي الطرف المعتدي/المهيمن/الاستشراقي/المستعمر دائماً أن عناصر الضعف والقوة تحيا بدون سياق تاريخي فيتم التعتيم على الواقع بإطاره المعاصر الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، والثقافي. في ظل هذه المعادلة تصبح الإنسانية ذات محدودية متخيلة تستبعد الطرف الأضعف خارجها كي تستكمل طور المصطلحات حول الممارسات الإجرامية التي أحق لها أن توصم المجرم بدلاً من أن تحاصر المهزوم بالإشارة إليه واستحضار أسباب احتقاره كلما استهدفته جرائم القوة لتضربه أينما كان.
لكي تتحقق جرائم القوة لابد أن يدرك المجرم التشابه بينه وبين ضحيته لكي يُهندس كيفية فنائها وعلى هذا الأساس يُدَبِر بشاعة العقاب لأنه وبشكل تلقائي يستطيع أن يتصور مدى فداحته. فتصبح الإهانة مسار إجرامي يستهدف حرمان البشر من كل سبل المعيشة والاطمئنان. أدعي أنهم حين ينادوننا بالحيوانات سواء في سياق الحرب كإهانة لمناداة العدو، أو في منزل فاره يطلق ساداته نفس اللفظ على خادميهم، يعرفون جيداً وقع تلك الإهانة التي لا يمكن أن يرضوها لأنفسهم وأظن هذا الشرخ الاستعلائي الذي يطنون بتعزيزه استحالة أن يتخذوا موقع الضحية هو الدافع الأصلي للتشدق بتلك الإهانات.
أشعر بالراحة عندما لا أجد هذا المصطلح الاستعلائي (نزع-الأنسنة) يستخدم بإفراط في كل مقابلة وبث إعلامي عن العقلية الاستعمارية التي أصبحت جزء أساسي فج من حياتنا اليومية منذ اندلاع طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023. "نزع-الأنسنة" لفظ يصف عملية شديدة العنف. أن تنزع أي شيء لابد أن تقف في موقع/موقعية تَحَكُم تتجلى فيها عقلية المستعمر ونظرتها للشعوب التي تقع تحت قبضتها. أعتقد أنه لفظ ضمن مفردات الصوابية السياسية وكأن من تنُزع إنسانيته تتقلص في حقه حجم الجريمة، فجريمة الإنسان تجاه إنسان لا تحتمل، أليس كذلك؟ ولكن جريمة إنسان (أبو الإنسانية وأمها المتمثل في جسد وروح الرجل الأوروبي الأبيض) في حق كائن أخر تصبح أكثر براءة لأنها تقع في سياق ترويض الطبيعة. وفي هذه الحالة يصبح المصطلح اختزال يفقد فجاجة معناه الأساسي بحسب اللاهوت السياسي الليبرالي الأبيض.
أريد أن أفكك المصطلح كمحاولة للنظر فيما يحوي من إسقاطات بدلاً من استخدام توليفته كلفظ معقم ومتحضر بالمعنى الليبرالي الغربي الذي يأتينا كملخص محايد يقلل من حجم جرائم المستعمر. يُطرد الإنسان من إنسانيته في قاموس الليبرالية البيضاء بتعريفات إقصائية طالما شغل الرجل الأبيض نفسه بها. إن المفردات مسكونة أو مدفوعة على الدوام بمحاولات دؤوبة من التعريف وإعادة التعريف لكل ما يقع داخل وخارج مفهوم الحضارة بمعناها الليبرالي الغربي الأبيض. نستطيع أن نستوعب هذا الهوس من خلال كتابات إدوارد سعيد لتوضيح العقلية الاستشراقية التي نتج عنها هلوسة سياسية أصبحت في متن تعامل الغرب مع الشرق بمعناه الواسع والعنصري. كل التعريفات بشكلها الباطن والمعلن تؤكد على حضارة ورِقَة مشاعر وفكر المستعمر. في إطار الحداثة وما تتصوره المجتمعات الحديثة عن نفسها يكون "فقد الوطن/السكن والمقام السياسي مماثل للطرد من الإنسانية بأكملها،"5“Only in a completely organized humanity could the loss of home and political status become identical with being expelled from humanity altogether” (1951: p.148) كما كتبت حنا أرنت في أصول الشمولية The Origins of Totalitarianism. يوجهنا إدوارد سعيد كذلك لمصطلحات أكثر دقة كشرط أساسي لهيمنة تلك الهلوسة السياسية فيما تفعله بالعقل الاستشراقي ضمن احتفاؤه بضرورة استعمار الشعوب الأخرى. يتحقق هذا من خلال ثلاث أفعال: التغاضي (disregarding)، التأسيس/ الانطلاق من تعريف فيه إصرار على فكرة باعتبارها جوهرية متحجرة/متأصلة/ثابتة (essentializing)، التعرية/السلب (denuding). 6Said. Edward W. 2003. Orientalism. London: Penguin Books. P.108من هذه الموقعية الاستشراقية يبدأ محرك الخطاب السياسي من نقطة مضللة، الانفكاك عنها غاية في الصعوبة، مما يجعل هدمها وإعادة بناء أسس مختلفة عادلة وواقعية في التعاطي مع أي قضية "شرقية" ضروري. الفكاك من كون الإنسان الشرقي منزوع الإنسانية أو محل شرفها7أفترض هنا أن المسألة شرفية لأنها تحتاج إلى فعل- أنسنة- وكأنها ليست من المعطيات وبهذا تقع كعكس للنزع لأنه وحتى إن منحت الأنسنة عند الولادة للأوروبي فهي لاتزال تحتاج لتصنيف وكأنه لابد من التأكد من أن الطفل أبيض كي تمنح له كما تسلب من غيره. (عكس النزع) معركة يضعنا فيها التصنيف الغربي في حين أن في حالة الإنسان الغربي/الأوروبي هي مستحقة طبقاً لسياق حياته/ا. في نطاق هذا التصور يمثل المواطن الأوروبي المثل الأعلى في إطار تنظيم البشرية التي ضمنياً لا تخضع للمساواة ولكن لتراتبية متخيلة، تُختزل في صفته وتكوينه، فيفترض أنه/ا الإنسانية في سموها واكتمالها لتصبح المقياس الجوهري الذي يُسقِط علينا مثاليته في احتلال كل من هو آخر، كما يُسقِط علينا كابوسه الذي تتمثل مأساته في فقدانه لوطنه وتميزه السياسي كما توضح أرنت. فيجعل من هذه التوليفة محور عذاباتنا ومحل استحقاقنا للطرد من البشرية بأكملها. نتجرع هذه التعريفات في مناحي اللا-وصول non-arrival الذي يحاوط أركان الحياة في بلدان الجنوب العالمي كما يسمينا أهل الشمال. لأننا كشعوب لا نصل لمحطات خلاصنا في علاقتنا مع الاستشراقي المستعمر/الإمبريالي/ المهيمن الذي لا يكتفي من أحلام الهيمنة كواجب وعبء "إنسانيته"، فليس أمامنا في هذه المخيلة البيضاء إلا خيارين بحسبه، إما أن نخضع فننخرط بشروط الهيمنة أو أن نقاوم فنستحق الإبادة كامتداد للـ cancel culture، الإلغاء في شكله النهائي، حله النهائي، الحل الهتلري.
فكك إدوارد سعيد الصفات المنسوبة للطرف المهيمن في قالبه الاستعماري الإنجليزي والفرنسي تاريخياً لإضاءة ملامح الشخصية الاستشراقية في تحليله لنصوص المستشرق الفرنسي إرنست رنان ضمن أخرين. قائمة الصفات كالآتي: ليبرالي، إقصائي، استعلائي، ضد-الإنسانية (إلا في حالات مشروطة).8Said:2003, p.146. “Renan’s style, his career as Orientalist and man of letters, the circumstances of the meaning he communicates, his peculiarly intimate relationship with the European scholarly and general culture of his time- liberal, exclusivist, imperious, antihuman except in a very conditional sense…” نتيجة هذه التراتبية المتخيلة أن يُقدم الإنسان السامي الذي تتمثل فيه الصفات التي ذكرها سعيد على الاستعمار فتُصبح ضمن مهمته في الحياة أن يقتل لكي يحقق عملية تعقيم البشرية التي يطمح إليها، في حالة مقاومة طموحاته الكوكبية. لا أتصور هذه العقلية دون التطرق لمفهوم الصيد. وفي هذه اللحظة الوجودية في تاريخنا المعاصر وفي غياب المصطلحات العنصرية المرهفة الرقيقة يحضرنا فعل الصيد في أوضح صوره في استهداف المدنيين في غزة: صيد الإنسان للإنسان. يوضح الباحث جرجوار شامايو في كتابه Manhunts (مطاردة البشر) كأنه يصف المشهد في غزة أن المطارد "يتم طرده من مجتمعه/مجتمع الإنسانية ومن حماية القانون ومن الدولة فتصبح زوجته أرملة وأطفاله أيتام كما يُحرَم من الدفن حتى تكتمل إبادته في الحياة والموت."9Chamayou, 2012: p.25 ونرى في غزة تصعيد لهذا المفهوم ففيه يصطاد المستعمر الأرملة والأطفال للقضاء على احتمالات أي استكمال لأشكال الحياة أو الاستمرارية.
ثنائية العظيم/المتفوق والتابع/الخاضع لا تفارق سياسة الهيمنة حيث يقع التابع في حالة عدم-أمان جذري (radical insecurity) كما يذكرنا شامايو وبالتالي تحت تهديد الصيد والمصيدة بصفة دائمة.10Ibid, p.24 لابد من صياد لكي يطارد صيده ويقتله حتى لو ارتدى قفاز يحجب يداه وهو/هي يتمم أو تتمم إنهاء حياة الآخر وفي الاستعانة بالكلاب أو تسخير الذكاء الاصطناعي من أجل خلق مسافة مُرضية بينه وبين الجريمة. وهنا تأتي معضلة الرجل الأبيض المعاصر الذي لا يريد أن تكون يداه ملطخة بالدماء ووحشية القتل كي لا يعكر صفو إنسانيته. ولكن كيف له أن يحقق الإبادة (قتل كامل) في لحظة تُمكنه فيها التكنولوجيا المتاحة من براءته واستعلائه على الضحية كما يرجو بشكل جزئي فقط؟ في نهاية الأمر لابد له أن يحدد صيده، أن يجد أناس أخريين يحتقرهم ويُقدِم على صيدهم، لابد أن تتجلى فيه الوحشية الكافية لهذا ولكنه لا يقوى على أن يُنعَت بحقيقة وصفه، فيفعل ما يجيده وهو تحويل الأنظار عن صيده بفعل المستحيل: نزع إنسانيته.
هوامش
- 1Brown, Wendy. 2006. Regulating Aversion: Tolerance in the Age of Identity and Empire. Princeton: Princeton University Press. P. 19. My translation from: “(M)ore than being ambiguous” a furthering effect takes place that “equates and conflates non-commensurable subjects and practices…”
- 2Anker, Elizabeth S. 2012. Fictions of Dignity: Embodying Human Rights in World Literature. Ithaca: Cornell University Press.
- 3Das, Veena. 2007. Life and Words: Violence and the Descent into the Ordinary. Berkeley: University of California Press. P.90
- 4Ibid. “…for the terror of the violation of the Partition was precisely that victims knew their perpetrators to be human: that is what puts life itself into question.” P.90
- 5“Only in a completely organized humanity could the loss of home and political status become identical with being expelled from humanity altogether” (1951: p.148)
- 6Said. Edward W. 2003. Orientalism. London: Penguin Books. P.108
- 7أفترض هنا أن المسألة شرفية لأنها تحتاج إلى فعل- أنسنة- وكأنها ليست من المعطيات وبهذا تقع كعكس للنزع لأنه وحتى إن منحت الأنسنة عند الولادة للأوروبي فهي لاتزال تحتاج لتصنيف وكأنه لابد من التأكد من أن الطفل أبيض كي تمنح له كما تسلب من غيره.
- 8Said:2003, p.146. “Renan’s style, his career as Orientalist and man of letters, the circumstances of the meaning he communicates, his peculiarly intimate relationship with the European scholarly and general culture of his time- liberal, exclusivist, imperious, antihuman except in a very conditional sense…”
- 9Chamayou, 2012: p.25
- 10Ibid, p.24