توثق المجموعة القصصية مساحة ضيقة بين القلق والسكينة، وتختبر أسس السلم المجتمعي في مدينة رام الله، وآليات تشكله، ومحدداته، كما تحاور الطبيعة الهشة للحدود الفاصلة بين الخاص والعام فيها، وتستكشف فضاءات زمانية ومكانية لحظية بين ساكنيها، والتي تتشكل مؤقتاً عند تقاطعهم إثر تحركهم الدائم بين أحيائها المتباينة، وتبحث عبر الخريطة إشكالية إعادة إنتاج ذوات مستقلة داخل عجلة مدينة مقيدة، ويتناول رتابتها، وانكفاءها على هويات وصور مسبقة متراكمة.
يشكل تطبيع المدينة المستمر لتحولاتها دافع كتابة الخريطة القصصية، فنتعقب من خلالها عنف حلم المدينة وكوابيسها، من تقلبات اقتصادية واجتماعية رافقت نموها الطبيعي، وتجلي فشل مشروع منظمة التحرير الفلسطيني بين أحياءها.
ربما كانت رام الله حالة دراسية لمدن عالم الجنوب كافة، وربما كانت أزمة المشروع التحرري الفلسطيني هي أزمة الحراكات الحقوقية كافة.
لا أسماء في خريطة المدينة القصصية أو عناوين، كي تقترب رام الله من مثيلاتها في العالم، حيث تتشابه بريبة أدوات الطغم الحاكمة، والسياسات الاقتصادية المفروضة رغم الاختلافات الطفيفة في الأسماء والتبريرات، فمقرات الحكم والبعثات الأجنبية ما تزال معزولة في مربعاتها الخضراء، ومخيمات اللاجئين كما العشوائيات صنوان على الهوامش حتى وإن كانت وسط المدينة.
المُشاهَدة الثالثة
فنجان قهوة
ترتجف يدها،
تحاول بحركتها الدائرية إذابة القهوة في بكرج ماء ساخن.
تستدير عن عيون الغاز من ماركة التايجر إلى طاولة في منتصف المطبخ.
تلتقط قطعتي خبز، وتعيد غلق كيس حفظ القطع المتبقية.
تمشي أرجلها بخطوات عددها كثير، قياساً بالمسافة المقطوعة نحو الثلاجة.
ملعقتي لبنة، وقطعة جبنة بيضاء، وملعقة متوسطة من مربى المشمش. تضعهم كعينات صغيرة في صينية من الملامين، وتتركها على البلاطة جانب المجلى.
تعود إلى تحريك القهوة، وتنتظر انقلاب وجهها.
لم تنتظر صاحبة السابعة والثمانين عاماً سوى ثوانٍ قليلة قبل أن تطفئ عين الغاز وتحرك القهوة مرة أخرى.
وضعت البكرج وفنجانها المذهب في طبق نحاسي خاص بطقس القهوة الصباحي.
لديها متسع من الوقت للقيام بعدة جولات بين مطبخها والشرفة، حيث تحب الجلوس صباحاً في الأيام المشمسة.
اخذت فطورها في الجولة الأولى، ثم عادت لتحمل القهوة بعد أن كنّ تِفلها في الجولة الثانية.
أثناء رحلة جلب القهوة، تغاضت الهرمة عن الأطُر التي ملئت الحوائط حولها.
عشرات الصور؛ كل من فيهم تغيرت ملامحه بشكل واضح،
شبَّ شاب أو مات أحدهم.
لم يعد تحديث الحوائط يثيرها.
لم تقم بذلك منذ ما يقارب الخمسة عشر عاماً، بعد أن لاحظت ترك الأقرباء للصور قبل رحيلهم.
لم تشأ الهرمة فقدان المزيد منهم.
صورة مع زوجها وقت الشباب، هي الصورة الوحيدة التي احتفظت بها في مكان بعيد عن تلك الصور.
خارج الخط الزمني الذي حكمه الحائط، في غرفة نومها، ركزتها فوق البيرو تحت مرآتها إلى اليسار، إلى جانب بعض مستحضرات إخفاء العمر الضرورية.
وجدت تلك الهرمة في الصورة دواءً صباحياً نافعاً، أنيقة بدت فيها، وهي تجلس على أرض حرجية، بحياء تداعب يدها قشة، وعيون زوجها ترصدها من الخلف.
ملابسهما، وقصات الشعر، وساعات اليد، وتقاسيم وجهيهما في الصورة ذات الثلاث ألوان متسقة، وجميلة، ورزينة.
تسامحت من فقدان زوجها قبل عشرات السنين، فحوّله الزمن إلى مؤنس خيالي، يشاركها القهوة كلما باغتتها الحاجة إلى رفيق.
مشهدها السعيد الذي تجاوز الزمن احتاج قشة صيفية، وعيون متربصة.
اعتدل جسدها المتقلص على كرسيها الخيزراني، وتناولت فطورها بتأني محسوب، لقمة بعد لقمة.
مسحت فمها، وخدود التجاعيد المؤدية إليه بمنديلها الأبيض، الذي طرّزت حفيدتها في زاويته وردة بخيوط حمراء وخضراء.
أزاحت الهرمة صينية الملامين المستطيلة إلى الأمام، وقرّبت الطبق النحاسي الدائري من اليسار.
أمسكت بيد البكرج السوداء،
سكبت فنجانها الأول دون أن ترفع البكرج بعيداً عن سطح الطبق النحاسي، في حيلة أدركتها بعد تقدمها بالعمر، عندما اكتشفت أن لا حاجة لبذل الكثير من الجهد، في رفع البكرج عالياً لسكب فنجان قهوتها الأول.
أمسكت بكلتا يديها فنجان القهوة، ورشفت منه رشفة رضى قبل إن تعيده إلى الطاولة.
حدقت بعدها بالشارع أمامها تراقب العابرين، وتتفحص تفاصيل وجوه سائقي السيارات، المتوترين منهم والمبتهجين.
راقبت الهرمة مقطع طولي لا يتجاوز عرضه خمسة أمتار من ذلك الشارع المنحدر نزولاً، فشجر السرو أمام بيتها أعماها عن رؤية المزيد منه.
خفف شجر السرو ضجيج الشارع المكتظ، وحدد لها إطار المراقبة.
رن جرس الباب.
استعانت بالعذراء مريم عندما استقامت لفتح القفل.
على الأغلب، أحد أولاد ابنتها التي ما زالت تقيم في البلاد. أولادها الآخرين وابناءهم، يعيشون بعيداً وراء البحار، يزورونها صيفاً كلما هدأت الأمواج.
لا تتركها ابنتها وحيدة، فإن لم تستطع هي، حرصت على أن يقوم أحد أبناءها أو بناتها أو أحد الأصدقاء بالمرور.
وصلت الباب الذي لم يُقرع جرسه سوى مرتين،
لم تود حفيدتها التي إرباك سكينتها، لاحظتها من تحت جذوع شجر السرو تراقب الشارع.
فتحت الباب، قبّلت الحفيدة رأس جدتها،
وتضاحكتا بعد ابتسامة.
حضنتها برفق، ومشتا صوب الشرفة.
تصر الجدة الهرمة أن كمال جمال حفيدتها موروث منها، فشعرها الأسود المموج يماثل شعرها قبل إن يفقد اللون، وقوامها الحسن يشابه قوامها.
الدليل ذات الصورة المركونة على البيرو.
تعلم الحفيدة أن عليها الجلوس إلى يسار جدتها في الشرفة، على المقعد بينها وبين الخزانة القصيرة.
لا تجرء على التحرك كثيراً أمامها، فقد تعلمت درسها عندما كانت صغيرة. الكبار في العمر لطيفين، لكن سريعي الغضب.
أصرت الجدة على خوض جولة أخرى إلى المطبخ، جلبت فيها فنجان مذهب آخر، يليق بحفيدتها المفضلة.
عادت إلى الشرفة، وجلست تستنظر الحديث.
لدى الجدة مخزون جيد من الذكريات، ولدى الحفيدة بعض المواقف الطريفة من الأيام القريبة.
سكبت الجدة القهوة في الفنجان المذهب، ورفعت البكرج عن الصحن النحاسي بما يتناسب مع كمية القهوة المتبقية داخله.
بعد دقيقة قصيرة وفي مداخلة عتاب، لامت العجوز ابنتها التي تقاعست عن الزيارة في الأيام القليلة الماضية.
لم تعترض الحفيدة على ذلك بل قالت
- والله ماما ما بتستحي.
جاوبت الحفيدة قبل أن تنظر إلى ساعة هاتفها النقال، تترقب موعدها مع صديق في حانة قريبة.
راقبت الحفيدة هاتفها النقال عدة مرّات قبل أن تصرّح بضرورة المغادرة.
قبّلت رأس جدتها قبل إن تغلق الباب، ثم مشت صعوداً نحو الحانة.
عادت الجدة إلى شرفتها بخطى معقولة، واستعانت بالعذراء جلوساً.
رفعت البكرج لسكب فنجان قهوتها الثاني، الزاوية مدروسة.
حرصت الجدة على عدم تسرب التفل إلى الفنجان.
أخذت الجدة كفايتها من القهوة والعالم.
اقتربت عقارب الساعة من الحادية عشرة.
المُشاهَد الرابع
فري لانس
غادر شقته الكائنة في رووف إحدى البنايات المطلة على وادي غربي يلامس البحر عند مغيب الشمس.
نصف الشقة المؤجر له مغري لأي ضيف حل فيه، لكن الشاب ما انفك يخبرهم ببحثه عن ملاذ آخر، قبل تسرب مطر الشتاء وتسلل ريحه الباردة من بين الشقوق.
ماطل مالك العقار البخيل في إصلاحها، حتى أدرك الشاب مكره وتيقن من أسلوبه في تطفيش المستأجرين منه بشكل دوري.
خرج من باب شقته ودخل المصعد.
ضغط الزر المخصص للطابق الأرضي.
نظر للمرة الألف إلى ملصق على يساره جانب الباب، والذي احتوى قواعد السلامة والامان في حال توقف المصعد.
في حال الحريق.
في حال توقف المصعد.
في حال ...
وصل المصعد.
خرج منه دون استكمال القراءة.
أوقف تاكسي من الشارع المزدحم أمام بيته، وطلب منه ايصاله إلى حانة في حي قريب، تتطلب الأجرة أن يدفع عشرة شيكل لا أقل أو ولا أكثر.
في ستة دقائق وصل وجهته، وجلس بين الطاولات أمام الحانة، ينتظر قدوم الزبون الجديد.
يعمل الشاب كمصور بعقود حرة، وقد انتظر يومها أحد الزبائن، الذي ود تنسيق جلسة تصوير لعائلته الجديدة؛ طفلته ذات الخمسة عشر شهر، وزوجته، وهو.
الاتفاق بسيط، لكن الزبون أصر على مشاركة بعض الصور مع الشاب، ونقاش إمكانية تقليدها أو تنفيذ ما يشبهها.
جلس الشاب وحيداً في حانة نصف ممتلئة، طلب كأس أعشاب يكون فيه عادة عود قرفة وقطعة زنجبيل محلى بالعسل.
نظر إلى هاتفه النقال، أجاب بعض الرسائل القصيرة قبل أن يحول انتباهه إلى حاسوبه اللوحي ذي الشاشة الأكبر حجماً بقليل من هاتفه النقال.
اكتظت الطاولات أمام الحانة بمرور الدقائق التالية، واخرج من ود الجلوس هناك طاولات وكراسي إضافية من الداخل.
الجو مشمس ومناسب للجلوس خارجاً. من بقي في الداخل كان من فضّل العمل أو الكتابة بعيداً عن ضوضاء المتحدثين الفرحين بالطقس.
يألف أغلب مرتادي الحانة بعضهم بعضاً، هم من دائرة ضيقة في مدينة صغيرة لا تألف الحانات كالمقاهي والمطاعم.
الخدمة في الحانة شبه شخصية، والنادل شبه صديق وأصحابها أشباه ملّاك، هم فيها كالمرتادين الآخرين.
هي في الأمر الواقع شبه حانة، تناور شبه مدينة.
تبادل العامل الحر أطراف الحديث مع من كان هناك، ومع من مرّ جانب طاولته حتى وصل الزبون، الذي لم يجد كرسياً ليجلس مقابله.
التفت يمنة ويسره قبل أن يجد كرسي فارغ، ثالثٌ على طاولة يجلس عليها شاب وفتاة ذات شعر أسود متموج.
سأل من لفت انتباهه منهم أولاً، إن كان باستطاعته أن يأخذ الكرسي.
أجاب الشاب بنعم وتفضل ومرحبا بك.
استبدل العامل الحر فتيلة الدخان في سيجارته الالكترونية منتظراً إنهاء الزبون محادثته القصيرة.
استنشق النفس الأول بعد أن وضع الزبون الكرسي أمامه وقال
- دير بالك على الكرسي.
بدي اطلب قهوة. أطلب إلك شي؟
أشار الشاب رافعاً يده بالنفي والاكتفاء.
وعاد لاستكمال سيجارته، وأعد حاسوبه اللوحي لسماع رأي الزبون في بعض الصور.
نادى الزبون على نادل الحانة، وطلب فنجان القهوة بصوت مرتفع دون أن يدخلها تماما.
وقف على العتبة، قدم في الداخل وقدم في الخارج.
ثم عاد إلى طاولته، التي لم يختفي كرسيه عنها بعد، على الرغم من نظر أحدهم إليه بشكل مقلق.
جلس الزبون رفقة العامل الحر ظهر يوم خريفي مشمس جزئي، وانتظم لقاءهما بسلاسة تماشت مع اعتدال الحالة الجوية.
سمح الجو اللطيف للعامل الحر بإقناع الزبون بسذاجة العديد من وضعيات الصور، حتى اقترحت زوجة الزبون فكرة عابرة من خلال زوجها.
جلسة تصوير بسيطة في فناء مقهى قديم.
أمسك العامل الحر بالفكرة ولم يتحدث إلا بها.
اتفقا على يوم تصوير قريب، وعلى المقابل المادي، وعدد الصور، وموعد تسليمها.
انفض اللقاء بعد أن غادر الزبون مستعجلاً، ليتبعه الشاب بعد أن دفع عشرة شيكل بدل كأس أعشابه المحلى بالعسل.
اتجه الشاب للقاء زبون آخر بعد تركه الحانة، في مقهى يقع على عتبة الطرف الغربي من المدينة، يقطن ذلك الحي أصحاب القروض الكافية للاستملاك فيه.
ذاك الحي بِدْعة مُحدثة، لا يقلق أغلب زائريه التباين في أسعار القهوة عن الأماكن المحيطة، ولا تشابه الخدمات الترويحية المقدمة.
قهوة، وأراجيل، وطاولات.
في طريقه إلى الحي البِدْعة، اتخذ شارع المدينة القديم عن وجه قصد، فلطالما أحس براحة كلما عبره، تفاصيله تتغير بطريقة مُرضية نوعاً ما، بشكل يعاكس تطور المدينة العام.
الشارع الآن باتجاه واحد، الأرصفة عريضة وعدد الطاولات المنتشرة على أرصفته في ازدياد، بعض المقاهي والمطاعم كما هي، تعجب الشباب من كلا الجنسين، وبعضها الأخر أعاد ترويج نفسه ليركب موجة قبول المرأة ككائن يستطيع الجلوس.
على نحو غريب، يخلو الشارع حتى هذه اللحظة من المباني الضخمة، ربما لذلك لم يشعر الشاب بالخوف عندما مشى هناك.
حافظ الشارع القديم على حرارة جسده المديني، على الرغم من صغر حجمه مقارنة بأحياء المدينة الأخرى.
يشك العامل الحر في صلاحية الطعام المقدم في أحد المطاعم الشعبية، وهو متأكد من أن أغلب موجودات دكان آخر منتهية الصلاحية.
يفكر بذلك وهو يمشي نحو الحي البِدْعة، على الرصيف، على الشارع، بين الطاولات، لا يستطيع التنصل من عجقة الشارع الدائمة.
كلما توقفت سيارة للحظة توقف الشارع كاملاً،
وعندما أغلقت شاحنة توزيع متوسطة الحجم الشارع لثواني لم ترق لسائقي السيارات المستعجلين، فدبّت الواقعة.
راقب العامل الحر العجقة، فحدث نفسه ساخراً.
- الشارع قصير، قصير جداً.
تجاوز الشاب عجقة سير الشارع القديم المُحَدَث، ومشى نحو المفرق أعلى الشارع، خرج منه إلى يساره نحو شارع أكثر سرعة في اتجاهين.
هناك مبنى جديد، ضخم جداً، أخفى غروب الشمس عن المحلات الصغيرة حول المفرق.
العديد من الشائعات أثيرت حول ذلك المبنى، سلامة العمّال فيه، وكيف رخصته البلدية، وتعديه الصارخ على الشوارع الضيقة حوله.
لم تشغل الشاب ضخامة المبنى، بل شغله كلما مر من هناك ضخامة الحفرة التي استلزمت بناءه. غاصت الحفارات قبل أربعة أعوام على نحو وقح بعيداً في الطبقات الصخرية اسفله.
يتخيل أحياناً أن بعض الحفارات ما زالت تدق أسفل المبنى.
وصل الشاب عتبة الحي البِدْعة ودخل المقهى، ليجد الزبون في انتظاره.
أشار إليه ليعلمه بوصوله.
طلب قهوة أمريكانو من النادل خلف البار، ودفع مقابلها خمسة عشر شيكل.
مشى ناحية الزبون.
شت انتباهه، فتابع صوت حفارات قريبة.
أيقظه بعد لحظة، صوت ماكينة طحن القهوة المرتفع.
