قطارٌ على متنه بلادٌ بأكملها، فيه مطبعة للصحف ومكاتب للموظّفين.
مهما تفرّق الركّاب، تبقى جدرانه محيطة بهم. السيد س واحدٌ منهم. مسافرٌ لا يحبّ السفر. يظهر مديره كمفتّش تذاكر، ويوبّخه لأنه جالس لا يعمل، فيسأله: "ولكن كيف يستطيع الإنسان أنْ يعمل في قطار متحرّك، منطلق كالمجنون؟"
يجيبه المدير: "ستعتاد الأمر"، ويدلّه إلى مكان عمله في الطابق الثالث من القطار.
تضطرب العربات وتتوقّف، فيقذفون إلى العراء ميتاً لكيلا يؤذي المسافرين بتفسُّخه، ثم تتابع الرحلة سيرها. حين يعترض السيد س ويصرخ: "ولكني لا أفهم، أنا لا أفهم!"
يناوله مسافر آخر سيجارة ليهدّئه:
"لن ينفعك الصراخ في شيء... فستعترضك بعد اليوم أشياء كثيرة لن تفهمها".
هذه بضعة تفاصيل من قصة "القطار" (1965) لجورج سالم. أقلّني إليها مشروع قطار الحجاز الجديد في سوريا 2025.
قاسى السوريون سنتهم الانتقاليةَ الأولى، منذ هروب بشار الأسد في فجر 8 ديسمبر 2024، وهم ينتقلون من "سوريا المفيدة" إلى "سوريا البراغماتية" لأحمد الشرع. ترجّلوا من قطار التاريخ البعثيّ المعطَّل، لينتظروا وعود الحكّام الجدد بقطارات فائقة السرعة ستسعف البلاد النازفة، وتحملها من العصر الأمويّ إلى عصر الذكاء الصناعيّ، ذهاباً وإياباً.
لا تزال أغلبية السوريين عالقة في نفق الحاجات والمخاوف. كلما لاحتْ لهم بارقةُ أمل توجّسوا. قد يكون الضوء في آخر النفق انفجاراً جديداً، في كنيسة أو كراج باصات أو قنبلة من "قنابل السلام" الدولية التي تساقطت على ساحات الرقّة وحلب القديمة وتلال عفرين. بلادهم تعيش بمعجزة، مع طلقاتٍ مستقرّة في الرأس استخراجها أفدح من إبقائها.
محمَّلاً بالأسئلة والجرائم، قطار السوريين ذاهبٌ بكلّ حنينهم إلى الحاضر، لأنّ لديهم ما يكفي من الماضي ليعتزّوا أو يشمئزّوا، وهم يعلمون كم لقّنت الفواجعُ ضحاياها دروساً خاطئة في المغفرة والنسيان وقلبتهم إلى سفّاحين. ربما لم يلتفتْ معظم المسافرين إلى النساء المختطفات من جبل الدروز وجبال العلويين، ولا أدْمَعَ عيونهم دُخانُ المكتبة التي فُرشتْ بالرماد، بعدما أحرق الغزاة سبعة آلاف كتاب لملمها الروائيُّ ممدوح عزام طوال خمسين عاماً في منزله بالسويداء.
تواقَتَ تحريرُ دمشق وتدميرُ غزة، في عزّ الإبادة الحضارية للـ "البشر الحيوانات". الرجاء الآن، في هذا الغلاء الذي ينعم به العالم، وصولُ المستثمرين بفرص عمل خياليّة إلى أرض المحرومين، لينتقل الموظّفون من نيران عالم الرشوة إلى نيران عالم الضرائب. يكتب الذين حرّروا دمشق قصة نجاح سورية كما تُكتَبُ قصصُ النجاح الأميركية، محتذين لمستقبل بلادهم أسطعَ نماذج الرفاهية في دول الخليج: المولات والأبراج والفنادق، تتحوّل معها نكبات الحياة إلى استعراض كحفلات الجوائز الكبرى، ويردّد الأطفال يتامى المعارك أغاني الدعايات بدلاً من النشيد الوطني. نجح السيّد الرئيس الانتقاليّ في كسر الحصار، وزار البيت الأبيض في إمبراطورية النجاحات العظمى. ما أفضح المنتهى، حين يكرمك الذي طردك من مأدبة العالم، ويحتفل بشجاعتك مَن عاقبك وطاردك. قتلك ونجوتَ. كان نصرك التاريخي مكافأة على هوانك التاريخي، أو بقول بدويّ الجبل: "تأنّق الذلُّ حتى صار غفراناً". نهضة الشعراء العموديين الذين واكبوا مسيرة التحرير من إدلب إلى عاصمة الأمويين طربتْ لهذا الجناس بين النجاة والنجاح.
ما عاد السوريّون أرقاماً على جباه المقتولين في معتقَل صيدنايا. صاروا أرقاماً في البورصة، وهم الآن ينتقلون من أسرار الميليشيات والمجاهدين التائبين إلى أسرار الشركات الكبرى التي تراقب العالم فتحجب ما تشاء وتسحق ما تشاء، وتجعل سوريا في السوق عملةً وجهاها الأسد والشرع.
ويليم جيمس، عرّاب البراغماتية، ربط بين الإيمان و"قيمته النقديّة" (أي الماليّة)، بين الفضيلة الدينيّة والمنفعة. كانت نصيحته للكتّاب: "عليكم أنْ تستخلصوا من كلّ كلمة قيمتَها العمليةَ النقدية". يُضرب بالكتّاب والفنانين المغمورين المثَلُ في الفشَل. الحقيقة مرّة. فأغلبيتهم عاطلون لا ينتجون شيئاً سوى الأوهام، والقتَلةُ عمليُّون ولا يطيقون الفشَلَة. ولهذا تذيّلُ مشاريعُ الفن والأدب بقيةَ المشاريع، الأولى والأنفع. فطباعة كتاب في أدب الناجين لن تكلّف أكثر من برميل رَمَتْهُ حوّامات الأسد على داريّا، وصناعة فيلم سينمائي عن الخوذ البيضاء لن تتجاوز بالنفقات ثمنَ صاروخ دَمّر جسراً في دير الزور.
إذا كنتَ كاتباً أو فنّاناً منتِجاً، وإذا حالفك الحظّ أو وفّقك الله، فقد يقترح عليك الرقباء الصالحون مخاوفهم لتتجنّب ما يسيء إلى منتَجك ومشروعك، ضماناً للترويج أو حرصاً على سلامتك. تلك حريتهم المشروطة، وقد علّمتك التجربة بأيّ عنفٍ ترتدّ الرقابة بغتة، فانتبهْ أين تقف. تذكّرْ بدويّ الجبل: "وَحولي الساخران الغيبُ والأبدُ". في وسعك أنْ تبدّل كلمة الله بالمقدّس، أو الإسلام بالعروبة، أو الطوائف والأعراق بالأديان والأمم، أو علم فلسطين بالبطّيخ.
الرقابة إحدى الملهمات الكبرى في الإبداع. لا تزال الرقابتان السياسية والأخلاقية تُفْرضان بالتهديد والابتزاز، وقد تدفع أيٌّ منهما باسمك إلى تداولات السوق فتنتفع قليلاً إذا مُنِع كتابك في الكويت، أو حُجِبتْ جائزة عنك في ألمانيا، أو تعرّيتَ في ساحة عامة احتجاجاً على الحرب. وإذا عدت إلى الوراء، وتذكّرت المسرح السياسي لمحمد الماغوط، لقلتَ إنّ الثقافة السورية قد أبدعتْ بالفعل في الاحتيال على الرقابة وحواجزها. لكنّ الرقيب الداخلي أدهى في تلفيق الذرائع والكذب على النفس. إنه كالكاهن الوقح الجبان، يعرف دهاليز الممنوع والمُباح، يكلّمك من داخل رأسك وأحشائك وكوابيسك، كحربٍ أهليّة بينك وبين ظلّك. عمّ ستتنازل، أيّها الكاتب الحرّ؟ كيف ستنتصر إذا حاربتَ نفسك، وأنت المنتصر والمهزوم كلاهما؟ آثار هذه الحرب السرية ظاهرةٌ في الكتابات السورية، مثلما تملأ الندوبُ أجسادَ المعذّبين والخرائبُ أجسادَ المدن. أروع هذه الندوب في جسد الكتابة الجريحة هي الرموز والمجازات. كان للرقابة دور المربّية الفاضلة في التربية الشعرية للسوريين، فهذّبتهم على المناورة، ولطالما قالوا شيئاً أرادوا به شيئاً آخر.
صيف هذه السنة، اطّلعتُ على بعض الكتابات الجديدة في سوريا، استوقفني من بينهم يسر برّو. قرأتُ كيف حرّر عنف التجربة خيال الشبّان ولغتهم. ما أحوج المخيّلة إلى تحريرٍ آخر لا يقرّر شيئاً على أرض الواقع، حيث لا يكون بؤسُ الحاضر انتقاماً مفتوحاً من بؤس الماضي، وينعتق الحالمون من كاريزما القائد و"فزعات" زعماء العشائر والهالات المزيّفة لتجّار الدين.
واقعنا غريبٌ عن الأمل، والفنون دعوة هادئة إلى المجابهة وتأمّل القسوة لا إلى التفاؤل. في كرنفال النجاحات، لا ينسى الأدب أولئك الذين فشلوا بعدما كافحوا لينقذوا أرواحهم، وخلاصة ما شهدوه هو أنّ حياتهم قد ضاعتْ.
