Author Name

كاتب فلسطيني سوري

للكاتب/ة

في الواقع لا ينطوي حديث الرجل على أي منطق، فقول جده "اتركوني أچُوچُلها" براسي، هو تحوير بسيط لقوله اتركوني "أجوِّلها" أو أدوِّرها برأسي، وما تحويره فعل "أجوِّلها" إلى "أجوجلها" إلا إشارة إلى رغبة في كثرة تجويل الفكرة في رأسه.  

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

18/11/2025

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

كاتب فلسطيني سوري

فرج بيرقدار

أثناء تأديتي لـ "دورة الأغرار أو المستجدّين" في بداية الخدمة العسكرية الإلزامية، كان المُدرِّب يشرح لنا فكَّ وتركيب البارودة الروسية "كلاشينكوف" وأسماء أجزائها، وكانت عيناه تبرقان سعادة واعتزازاً وهو يقول: 

- أمّا عيار الجَفُّ، فهو بالضبط 62,7 ملّيمتر. سعادة المدرِّب متأتّية عن قناعته بأن لا أحد سمع بكلمة "الجَفّ" سابقاً، وهذا ما يتيح له أن يلعب دور المعلِّم أمام أشخاص يحوزون شهادات ثانوية وجامعية في حين هو لم تسعفه ظروفه بأكثر من الحصول على شهادة الصف التاسع. 

- اِنتبهوا إليّ جيداً، يجب أن لا تنسوا عيار الجَفّ، والجَفّ يعني هذا المكان الذي تخرج منه الطلقة أو المقذوف، وهكذا فإن عيار الجَفّ لهذه البارودة هو 62,7 ملّيمتر. هل هناك أحد لم يفهم المقصود بعيار الجَفّ؟

رفعت يدي، على نيّة أن أجفِّف ريق هذا المدرّب، وسألت: 

= هل الجّفّ كلمة عربية؟

- طبعاً عربية، أم تظنني أتكلم بالأفرنجي؟!

= طيب هل كانت كلمة "الجفّ" موجودة في اللغة العربية حين كانت السيوف هي السلاح المستخدم، وإذا كانت موجودة فعلى ماذا كانوا يطلقونها؟

- ستقضي مقابل فذلكتك ستة أيام في سجن الكتيبة.

= جيد.. أستريح من مناوبات الحراسة الليلية.

رفع أحد زملاء الدورة يده ليقول:

سيادة المدرِّب.. قبل إرساله إلى السجن، ليتك تطلب منه أن يشرح لنا ما معنى الجفّ، فهو شاعر وصحفي وقد يفيدنا ويفيدك.

حاول المدرِّب أن يتنازل قليلاً عن تجهّمه العسكري، فقال:

- ماشي الحال.. هات يا شاعر يا صحفي.. اِشرح لنا ما معنى الجَفّ؟

الحقيقة أعطاني الزميل فرصة طيبة لإكمال السيناريو، فقلت:

= العرب تقول "الجُفُّ" بضمّ الجيم وليس بفتحها، والمعنى هو "كلُّ ما خلا جوفه"، وبالتالي فإن المقصود بالجُفّ هنا هو الفراغ الموجود داخل فوَّهة أو سبطانة أو ماسورة البندقية.

بدا المدرِّب أقلَّ صلافةً وهو يقول:

- طوال عمرنا نقولها "جَفّ"، هكذا تعلمناها وهكذا نعلِّمها، وأنصحك بأن لا تكون "كثير غَلَبَة".

*   *   *

كان الأب يعتقد أن ابنه ضلَّ سبيل الإيمان، فراح لا يفوِّت فرصةً أو فكرةً، يمكن توظيفها في هدايته، إلا استخدمها. وقد خطر له مرة أن يطلب من ابنه كتابة "ربّكَ فكبِّر"، فكتبها الابن وانتظر ما الذي يريده أبوه بعد ذلك. قال الأب: 

- هل تمعَّنت بما كتبت؟

- لا يحتاج الأمر إلى تمعن يا أبي.

- ألا ترى فيها يا بنيّ عظمةَ الله وحكمته؟

استغرب الابن، فأكمل الأب كلامه: 

- ألا ترى أنك إذا قرأتها من اليمين إلى اليسار "ربّكَ فكبِّر"، أو من اليسار إلى اليمين، فلن يتغير شيء لا في اللفظ ولا في المعنى؟

فكَّر الابن أن الفرصة مواتية لإقناع أبيه بأن يكفَّ عن مثل هذه السذاجات، فقال:

- هذه الألاعيب اللغوية الصغيرة يا أبي لا تحتاج إلى عظمة الله أو حكمته، فلغتنا العربية مليئة بقصص من هذا القبيل كقول الشاعر: 

مودتهُ تدوم لكل هولٍ =  وهل كلٌّ مودتهُ تدومُ

كما ترى، فإن البيت لا يتغير معناه في حال قرأناه معكوساً، وإذا أردتَ ما هو أكثر من ذلك، فتأمَّل ما يلي:

باهي المراحم لابسٌ =  كَـرَماً قـديـرٌ مسـنـدُ

البيت ينطوي على مديح، فاذا قرأناه معكوساً بقي شعراً موزوناً وعلى نفس البحر، ولكنه ينطوي على هجاء، إذ يصبح:

دنِسٌ مـريـدٌ قـامـرٌ = كسبَ المحارم لا يهاب

وأزيدك أن هناك أبياتاً تستطيع أن تقرأها أفقياً ورأسياً بدون أن يتغير فيها شيء، من مثل:

ألوم صديقي وهذا محالْ

صديقي أحبُّ كـلامٍ يقالْ

وهذا كـلام بليغ الجمـالْ

محال يقال الجمال خيالْ

*   *   *

بخْ بخْ بتسكين الخاءين، هي نفسها بخٍ بخٍ بتنوينهما، ويصح أن تقول بخِ بخْ بكسر الخاء الأولى وتسكين الثانية، وبخٍ بخْ بتنوين الأولى مع الكسر وتسكين الثانية، وبَخٍّ بَخٍّ بتشديد وتنوين مع الكسر في الخاءين، وبَهٍ بَهٍ بنفس معنى بخٍ بخٍ، وقد حبَّرَ لغويّونا عشرات الصفحات في شرح نطق ومعنى وتشكيل هذا التركيب الذي يدلّ على استحسان وتعجّبٍ وتعظيم، كما أشاروا إلى أن كلمة "بخ" في الأصل معرَّبة عن الفارسية. 

إذا كانت لغتنا واسعة ورحبة ومرنة إلى هذه الحدود، فلماذا لا نوسِّع فضاءاتنا وخياراتنا واجتهاداتنا في اللغة عموماً، ولماذا أيضاً لا نفكر في استخدام لفظ آخر، غير "بخ بخ"، يجنِّبنا هذه البخبخة، ولا سيما أن كثيرين يرددونها ببغائية من دون معرفة معناها، إن لم نقل إنهم يستخدمونها في سياق تعبيرهم عن الاستنكار أو الاستهزاء، أي على النقيض من معناها؟!

*   *   *

كان يحدِّثُنا بمنتهى الثقة أن كلمات من قبيل (چُوچُل ويچوچِل ومچوچَل ومچوچِل وچوچَلة) أصلها عربي، والدليل أن جّدّه الذي رحل قبل عصر الانترنت، كان يقول كلما تعرض لسؤالٍ صعب أو مسألةٍ تحتاج إلى تفكير: اتركوني "أچُوچُلها" براسي.

في الواقع لا ينطوي حديث الرجل على أي منطق، فقول جده "اتركوني أچُوچُلها" براسي، هو تحوير بسيط لقوله اتركوني "أجوِّلها" أو أدوِّرها برأسي، وما تحويره فعل "أجوِّلها" إلى "أجوجلها" إلا إشارة إلى رغبة في كثرة تجويل الفكرة في رأسه.  

*   *   *

"قال لي إني صبور"، بكسر همزة إن. هو هنا يقصد نفسه، أي أنه هو صبور.
"قال لي أني صبور"، بفتح همزة أن. هو هنا يقصدني، أي أني أنا صبور وليس هو. 

كما ترون فإني أرى أنَّ همزة إنّ ما بعد "قال" ليست مكسورة دائماً، بل فقط عندما تأتي في موقع يتضمَّن مقول القول، ويفضَّل في هذه الحالة أن نضمِّن مقول القول بين قوسين، أو أن نضع نقطتين رأسيتين بعد قال. أمَّا حين يكون القول ليس نصّياً أوتضمينياً، بل بمعنى يقصد او يدعي، من مثل هذه الشطرة في إحدى قصائد نزار قباني "ليقول لي أني رفيقة دربه"، أي جاء إليَّ ليقول لي أني رفيقة دربه، فإنه لا يستقيم هنا أن يقول الشاعر "إني" بكسر الهمزة، إذ لو قالها بالكسر لتوجَّب عليه أن يجعلها "ليقول لي إني رفيق دربكِ"، وهذا يذهب بالمعنى في اتجاه آخر. هكذا أفهم الأمر وفق المنطق الذهني واللغوي وليس وفق مزاجي ولا وفق ببغائيات لا تقبل تعديلاً أو تبديلاً.

هوامش

موضوعات

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع