تتميّز إيرلندا بإرث سينمائي غني، يتقاطع في كثير من الجوانب مع التقاليد السردية في العالم العربي، خصوصاً في تناوله لموضوعات مثل الهوية، والصلابة، والذاكرة، والمقاومة.
ضمن شعار «مهرجان عمّان – أول فيلم» (2-10 تموز/يوليو 2025) «عالم خارج النص»، تلتقي الروايات الإيرلندية والعربية لتعبّر عن نضالات فردية وجماعية، وتقدم نظرة صادقة وغير مقيّدة إلى الحاجة الإنسانية للتعبير، والبحث عن الحقيقة، والأمل.
تحضر السينما الإيرلندية في المهرجان من خلال خمسة من أبرز الأعمال الكلاسيكية:

«قدمي اليسرى» (1989)
في غرفة خافتة الإضاءة، وباستخدام إصبعي قدمه اليسرى، أخرج كريستي براون (دانيال داي لويس)، أسطوانة من غلافها الورقي، ووضعها على مشغّل الموسيقى، وضبطه لتشغيل الاغنية من البداية، واستعد لاستمتاع في اللحظة.
هذا المشهد، هو الأول في فيلم «قدمي اليسرى» (My Left Foot)، للمخرج جيم شيريدان، ينبئ في ثوان قليلة بقصة أصبحت، بفضل الأداء التمثيلي البارع ونصها المُعدّل بإتقان، جوهرة سينما السير الذاتية. الفيلم المستوحى من سيرة الرسام والكاتب الإيرلندي كريستي براون (1932 – 1981)، الذي كان يعاني من شلل دماغي. وبفضل إصراره ودعم والدته غير المشروط، تمكّن من تحطيم جميع الحواجز التي حالت دون اندماجه في المجتمع.
«قدمي اليسرى» (My Left Foot)، معالجة دقيقة للحبّ غير الأناني، والتضحية، والثقة بالنفس، والكفاح الدؤوب وبالمثابرة. فيلم واقعي يُظهر ثراءً في الدقة، وقوة تعبيرية هائلة، وأداء استثنائياً من داي لويس، مما يجعل الفيلم يناشد رؤية متفائلة للحياة من خلال عدسة بطله، متجنباً الجمود والوقوع في فخ المأساة.

«باسم الأب» (1993)
حوّل المخرج الأيرلندي جيم شيريدان القصة الحقيقية المأساوية لما يُعرف بـ«أربعة غيلفورد» إلى فيلم سينمائي. في عام 1974، أُدين هؤلاء الشباب الأيرلنديون، بقيادة جيري كونلون (دانيال داي لويس)، مع والده وعدد من أقاربه، وسُجنوا بتهمة هجوم شنّه الجيش الجمهوري الأيرلندي على حانة في لندن، وأسفر عن مقتل عدة أشخاص. وبعد خمسة عشر عاماً، أُعلنت براءتهم.
صدمت هذه الحادثة، التي رواها جيري في كتابه «براءته مؤكدة»، الرأي العام نظراً إلى الظلم الذي ارتُكب. يُعدّ فيلم «باسم الأب» (In The Name of my Father) مكثفاً، يُبرز اهتمام نظام الشرطة بالعثور على الجاني أكثر من كشف الحقيقة. مشاهد الاستجواب الأولية مُريعة، لا سيما أنها تنطوي على تعذيب نفسي أكثر منه جسدي.
لاحقاً، تتبع القصة مسارات دراما سجن قاسية (المخدرات والبلطجية والعزلة هي السائدة) ترأسها العلاقة بين جيري الرجل الفقير اليائس ووالده جوزيبي، الرجل البسيط الصادق الذي يحاول مساعدة ابنه بكل الوسائل. يُبرز الإخراج السينمائي بنجاح الشعور الخانق الذي يشعر به المرء محاصراً بين أربعة جدران.

«مايكل كولينز» (1996)
كتب المخرج الأيرلندي نيل جوردان وأخرج فيلماً لطالما تمنى إنجازه. يُصوّر فيلم «مايكل كولينز» (Michael Collins) استقلال بلاده من خلال حياة القائد الكاريزماتي مايكل كولينز (ليام نيسون).
يصف الفيلم أفعاله، منذ انتفاضة عيد الفصح عام 1916 حتى وفاته في هجوم إرهابي عام 1922، في ظروف غامضة.
ينتقد جوردان بشدة الحكم البريطاني للجزيرة، لذا تُقدّم الهجمات التي روّج لها كولينز على أنها السبيل الوحيد لتحقيق الاستقلال. من دون تجنّب فظاظة تصوير هذه الأعمال العنيفة، يُحيطها المخرج بهالة رومانسية، لأنها موجهة ضد قوات الاحتلال ولأنها تتناقض مع أعمال الانتقام البريطانية القاسية، مثل مذبحة الملعب، وهي واحدة من أروع مشاهد الفيلم.
يجد جوردان البنية السردية المثالية. فهو يُحدّد بدقة الأحداث التاريخية، كعلامات إرشادية على مسار السرد. وفي الوقت نفسه، يُضفي روّاد التاريخ حيويةً على رحلتهم.

«الريح التي تهز الشعير» (2006)
أيرلندا، 1919: داميان (كيليان مورفي) وتيدي (بادريك ديلاني) شقيقان يقاتلان في حرب الاستقلال الأيرلندية ضد إنكلترا. في عام 1921، وُقِّعت معاهدة سلام بين الجانبين، لكن الحرب الأهلية استمرت، والخيانات حتمية.
«الريح التي تهز الشعير» (The Wind That Shakes the Barley)، (عنوان مقتبس من قصيدة للشاعر الأيرلندي روبرت دواير جويس من القرن التاسع عشر)، للمخرج كين لوتش، يحكي قصة هذين الشقيقين بفيلم ميلودرامي أيديولوجي بامتياز، وبأسلوب بسيط وعميق وعاطفي. إن ما يتحدث عنه الفيلم في الواقع هو نهاية الأوهام، أي أوهام قطاع من القومية الأيرلندية، أي يسارها، الذي اعتبر الاتفاقيات بين التاج الإنكليزي والجيش الجمهوري الأيرلندي، التي أدت إلى ولادة الجمهورية، خيانة له.
بساطة غامرة، وإيقاع لا ينقطع يجعل أكثر من ساعتين من الفيلم تبدوان قصيرتين. وفي فيلم خال من المفاجآت (لوتش لا يخدع أحداً: فأنت تعرف إلى أي جانب ينحاز)، تبرز نهاية صادمة، حيث يُعيد التاريخ نفسه، ليس كمهزلة، بل كمأساة مروعة.

«جنيات إنيشيرين» (2022)
بادريك (كولن فاريل)، رجل بسيط، مباشر وغير ذكي، يعيش في منزل صغير بجانب البحر مع شقيقته شيبون (كيري كوندون)، وحمارهما المحبوب والأبقار التي يعتاشان من حليبها.
أهم ما يميز يومياته، التي تبدو ثابتة، هو الذهاب كل يوم عند الثانية بعد الظهر إلى بيت صديقه المقرب الأكبر سناً كولم (بريندان غليسون)، ثم الذهاب معاً إلى الحانة لشرب الجعة حتى عودتهما إلى منزلهما بشكل عام في حالة كارثية من السكر.
هذه العادة تنتهي عندما يفاجأ بادريك بأن كولم لا يريد الذهاب معه إلى الحانة للمرة الأولى في حياتهما، فيطالب كولم بتوضيح قراره. يصعقه كولم بالجواب الذي يبدو طفولياً بعض الشيء، هو أنه لا يريد أن يكون صديقاً له بعد اليوم.
مع وجود هذه القصة البسيطة، نتابع الحياة اليومية لمجتمع أيرلندي صغير عندما أصبحت المعضلة الخاصة هذه مصدر ارتباك كبيراً للمدينة. انهيار الصداقة هذه هي استعارة للحرب الأهلية الأيرلندية التي قاتل فيها الجيش الجمهوري الأيرلندي ضد الحكومة المؤقتة عامي 1922 و1923.
الأشخاص الذين قاتلوا جنباً إلى جنب في حرب الاستقلال قبل بضع سنوات، وجدوا أنفسهم فجأة على طرفي نقيض، مع إيديولوجيات مختلفة، في صراع أكثر دموية.
في «جنيات إنيشيرين» (The Banchees of Inisherin)، تنمو هذه الحكاية المأساوية تدريجاً، ويستخدم المخرج طبيعة شخصياته للحفاظ على جو من الخفة رغم الثقل النفسي، وبين كل سطر وجودي، هناك توازن مثالي بين الفكاهة والحزن، حيث تختفي النكات بين مشاعر الخوف من الوحدة والموت والنسيان.
