كتبتها آن- ماري ماكمانوس، نُشرت في مجلّة الأدب العالمي، الصادرة عن دار بريل للنشر، 2017.
ملخَّص
في هذا الحوار، يُحدِّثنا إلياس خوري، وهو أحد أبرز الأصوات في الأدب والنقد العربيَّين المعاصرَين، عن عالميَّة الأدب العربيّ، وككاتبٍ وصوتٍ نقديّ ذي باعٍ طويل في المشاركة السياسيَّة، يطرحُ خوري مقاربةً شديدة الأهمِّيَّة بصدد كلٍّ من الإمكانيَّات والقيود ذات الصلة بالمناقشات الأدبيَّة العالميَّة الراهنة.
يُعتبر الروائيّ اللبنانيّ إلياس خوري واحداً من أبرز الأصوات في الأدب والنقد العربيَّين المعاصرَين؛ وهو مفكِّرٌ عامّ يحظى باحترامٍ واسع النطاق في عالمَي السياسة والصحافة العربيَّتين؛ وكذلك مؤلِّفٌ مرموق تُرجِمت رواياته إلى الإنكليزيَّة والفرنسيَّة. من أبرز رواياته "باب الشمس" (1998)، و"رحلة غاندي الصغير" (1989)، و"الوجوه البيضاء" (1981)، و"يالو" (2002). حظيَت كتابات خوري وأعماله الثقافيَّة بجوائز إقليميَّة وأوروبيَّة؛ أحدثُها، في عام 2016، جائزة محمود درويش للإبداع، والتي تبرَّع بها إلى جامعة بيرزيت؛ كما تزامن إعداد هذا الحوار مع وصول أحدث رواياته، "أولاد الغيتو- اسمي آدم" (2016)، إلى القائمة الطويلة للجائزة العالميَّة للرواية العربيَّة (البوكر العربيَّة). وفي الترجمة، فاز خوري بالجائزة الفرنسيَّة للرواية العربيَّة في أولى دوراتها، عام 2008، وذلك عن رواية "كأنَّها نائمة" التي صدرت بترجمة رانيا سمارة. بالإضافة إلى ما سبق، أُقرَّ بخوري سفيراً عالميَّاً للثقافة العربيَّة إذ فاز في عام 2012 بجائزة اليونسكو-الشارقة لمساهماته في تعزيز الثقافة العربيَّة في العالم.
على هذا النحو، يتمتَّع خوري بمكانةٍ فريدة تخوِّله تناول عالميَّة الأدب العربيّ؛ سواءٌ بوصفه كاتباً دخلَت أعمالُه شبكات الأدب العالميّ المعاصر، أو كصوتٍ نقديٍّ يوفِّرُ انخراطُه السياسيّ طويل الأمد، لا سيَّما مع كلٍّ من القضيَّة الفلسطينيَّة والانتفاضة السوريَّة، مقاربةً شديدة الأهمِّيَّة بصدد كلٍّ من الإمكانيَّات والقيود ذات الصلة بالمناقشات الأدبيَّة العالميَّة الراهنة.
خلال حوار أُجري في كانون الأوَّل من عام 2016 في برلين، تحدَّث خوري عن رؤيته المميَّزة للعلاقات التي تربط الأدب العربيَّ بآداب العالم الأخرى. يبتعد خوري عن محطّ التركيز السائد في المجال على الدوائر المعاصرة للترجمة والتبادل، ليدعو بدلاً من ذلك إلى سردٍ تاريخيّ متعدِّد المستويات لعالميَّة الأدب العربيّ؛ الذي من شأن نتاجِه أن يكون نموذجاً لقراءات أدبيَّةٍ وتفاعلاتٍ إبداعيَّة لا حصر لها، بمقدورها ربط سرديَّة القرن العاشر العبَّاسي بأميركا اللاتينيَّة في القرن العشرين، وكذلك الربط ما بين الآداب العربيَّة بنظيراتها في الصين والهند والجنوب العالميّ ما بعد الكولونياليّ. علاوةً على ذلك، تحمل تعليقات خوري مقاييس مختلفةً لعالميَّة الأدب إذ يُميِّزُ ما بين الميادين الإقليميَّة (أي بين شمال أفريقيا وبلاد الشام) والميادين العالميَّة الأوسع. يُبيِّن خوري أيضاً أنَّ كلَّاً من الاختلاف اللغويّ وجماهير القراءة الجديدة إنَّما تسهمُ مساهمةً فعَّالة مع انتقال النصوص من لبنان إلى المغرب- في عمليَّةٍ تداوليَّة يُعزِّزها اليوم انتشار الجوائز الإقليميَّة والوسائط الرقميَّة. فكيف بإمكان دراسات الأدب العالميّ تفسير أنماط التداول المتنوِّعة هذه خارج الحدود الوطنيَّة؟ بالنسبة إلى خوري، على أيِّ حال، ما تتقاطع عنده العديد من الشبكات الأدبيَّة الغنيَّة هو مفهومٌ مهمَّش ضمن الدراسات والتعليم الأدبيَّين في أغلب الأحيان: العلاقة الأساسيَّة بين السرد والمتعة، سواءٌ أفُهِمَت بوصفها التجربة الاجتماعيَّة للإصغاء إلى حكايةٍ ليلاً، أو التفسير الإبداعيَّ الذي يُسقِطه قارئٌ على رواية، أو قدرة المؤلِّف على التحدُّث دونما قيود.
يوطِّئ مفهوم المتعة الأخير هذا للأبعاد السياسيَّة في منظور خوري للأدب العالميّ، الذي يُقرأ من داخل التقليد الأدبيِّ العربيّ المعاصر الذي تتردَّد فيه أصداء أعمالٍ نقديَّةٍ حديثة للأدب العالميّ من قِبل باحثين وباحثات مثل إيميلي أبتر وفينغ تشيا، بل ويتوسَّع فيها. تفتحُ صياغة خوري لأدبٍ عالميٍّ متجذِّرٍ تاريخيَّاً الباب لنقدِ القضايا السياسيَّة الراهنة؛ التي يصفُها بأنَّها غير مُقيَّدةٍ بسياقاتها الأصليَّة، وتُفسَّر كنضالٍ عالميٍّ من أجل التحرُّر. وإنَّ تجريد القضايا السياسيَّة من سياقاتها المحلِّيَّة يفضي إلى تداولها مثلما تتداول السلع، ممَّا يوقعها فريسةً لتهديد الغرائبيَّة. وربَّما الأهمّ من ذلك هو أنَّ هذه المعالجة المجتزأة وغير السياقيَّة للسياسة تُقوِّض الفرص أمام التضامن العالميّ- الذي يصرُّ خوري على ضروريَّته اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. رافضاً إجبار الأدب على لعب أيٍّ دورٍ أداتيٍّ أو تربويّ، يرسم مفهوم خوري عن الأدب العالميِّ سرداً يتَّسم بالدقَّة والتنوُّع لكلٍّ من الإبداع والالتزام: سرداً يظلُّ فيه الأدب الملاذ الضروريَّ للتعبير عن تجارب الحرِّيَّة، فرديَّةً كانت أم جماعيَّة.
فيما يلي نصُّ محادثتنا، بعد تحريره بغاية التوضيح:
سبقَ وأن أشرفتَ على سلسلةٍ من نصوصٍ أدبيَّةٍ عالميَّة تُرجِمت إلى العربيَّة في ثمانينيَّات القرن الفائت. أتساءلُ عمَّا إذا كان بمقدورك البدء بالحديث عن تلك التجربة.
كانت فكرة هذه السلسلة ترجمة آداب العالم الثالث إلى العربيَّة. بدأنا بتقديم مجموعةٍ من (النصوص) الأفريقيَّة، والأسيويَّة، والهنديَّة، واليابانيَّة، ثمَّ الأميركيَّة اللاتينيَّة، إلى الأدب العربيِّ الحديث. أعلنَت هذه السلسلة، التي أطلقنا عليها مسمَّى "ذكريات الشعب"، بداية طفرة ترجمة هذه الآداب إلى العربيَّة. حرَّرت بنفسي قرابة 45 كتاباً، وكتبتُ كلَّ التوطئات. عملنا مع مترجمين قادرين على الترجمة (مباشرةً) من الإسبانيَّة، على سبيل المثال، وليس من الإنكليزيَّة أو الفرنسيَّة. كان عملاً شاقَّاً بالنسبة إليَّ، وفي الوقت نفسه مصدراً لسعادةٍ جمَّة.
كنتُ مهتمَّاً بالأدب المقارن، الذي أصبحتُ (في فترةٍ لاحقا) أستاذاً فيه. في هذا الميدان، عادةً ما نقارنُ الأدب العربيَّ بالأدبين الفرنسيّ والإنكليزيّ، وهو أمرٌ عديم الجدوى - ليس عديم الجدوى تماماً، لكنَّه ليس القضيَّة الحقيقيَّة التي ينبغي لنا في العالم العربيِّ الاهتمام بها. لذا، أردنا الاشتغال على آداب الثقافات -ولنقل الآداب النامية- التي كانت قريبةً جدَّاً من تجاربنا الحديثة في العالم العربيّ. من هذا المنظور، كانت التجربة مثيرةً للاهتمام ومبتكرةً للغاية. قادني ذلك إلى اشتغالٍ دؤوب في مقارنة الأدبين الفلسطينيِّ والجنوب أفريقيّ، وكذلك العربيِّ والتركيّ. حتَّى ذلك الوقت، لم تكن مثل هذه المقارنات قد عُقِدت، للأسف، سواءٌ في الأدب العربيّ أو في آداب العالم الثالث. ما زلت أتذكَّر أوَّل لقاءٍ جمعني بكاتبٍ تركيّ، يقيمُ اليوم في فرنسا، وقد أخبرني حينها أنَّه قرأ عنَّي في "لوموند". أجبتُه بنعم، وأنَّني كنتُ بحاجةٍ إلى القراءة عنه في "الغارديان". وهذا واقعٌ مؤسِف. لذا، كان بناء مثل هذا الجسر مهمَّاً للغاية، وأرى أنَّه بُنيَ بالفعل. وكان ذلك أيضاً إشارة إلى أنَّ آداب العالم الجديدة لم تعد تأتي من أوروبَّا، بل من هذه البلدان الأخرى بصورةٍ رئيسيَّة.
هل ترى في هذه السلسلة استمراريَّةً للنزعة "العالم ثالثيَّة" التي ميَّزت مؤتمر باندونغ وتلك الحقبة المفصليَّة في ستينيَّات القرن المنصرم؟
يمكنك ربطها بباندونغ، لكن في وعينا لم يكن للأمر علاقة به، باعتبار أنَّني كنتُ صغير السنِّ إبَّان انعقاده. بالنسبة إليّ، كان الدافعُ شعوراً بالعودة إلى تراثنا. أوَّلاً وقبل كلِّ شيء، وعلى الرغم من أنَّنا خضعنا في العالم العربيِّ للحكم العثمانيِّ على مدى أربعة قرون، لكنَّنا لا نعرف الأدب التركيّ، وهذا أمر مخجل. وكذلك لا نعرف الأدبين الفارسيِّ والهنديّ. لكن إذا عدنا إلى تراثنا الكلاسيكيّ، فسنجدُ أنَّ "ألف ليلةٍ وليلة" كان كتابَ العالمِ القديم. هذا العالم القديم الذي لم يكن سوى العالم العربيّ، والهند، والصين، واليونان. وعليه، بمقدور المرء أن يجد آثاراً من كلِّ هذه الثقافات كجزءٍ من ثقافتنا العربيَّة. بدأت فكرة (السلسلة) من هنا، ثمَّ تطوَّرت باتِّجاه قراءة الآداب الأفريقيَّة. وعلى الصعيد الشخصيّ، كانت تجربةً عظيمةً بالنسبة إليَّ أن نترجمَ أعمالاً لأتشيبي وسوينكا وآخرين، مثل نغوغي واثيونغو، إلى العربيَّة. بعد ذلك، أشرعَت (السلسلة) أبوابها لآداب أميركا اللاتينيَّة: كورتاثار، وفوينتس، وماركيز، وبورخيس، وغيرهم. يكتشفُ المرء كيف ترتبطُ هذه الآداب ببعضها البعض. وخاصَّةً في آداب أميركا اللاتينيَّة، حيثُ لمسنا إلى أيِّ مدى شكّلت أعمال بورخيس فصاعداً امتداداً لـ "ألف ليلةٍ وليلة". ولا يتعلَّق الأمر فقط بما كان يُسمَّى آنذاك بالواقعيَّة السحريَّة. بل أعتقد أنَّ أولئك المؤلِّفين قد عرفوا "ألف ليلةٍ وليلة" (نعرف أن بورخيس كتبَ عنه بإسهاب)، وخبِروا هذا التقليد جيِّداً، وكانوا بمعنى ما يواصلونه. كان هذا الاكتشافُ في غاية الأهمِّيَّة بالنسبة إلينا.
لا يعني هذا أنَّنا توقَّفنا عن قراءة (الآداب) الإنكليزيَّة، أو الفرنسيَّة، أو الألمانيَّة. بل على العكس من ذلك، فمفهوم الأدب العالميِّ بحدِّ ذاته من ابتكارِ ألمانيّ، كما يعلم الجميع، فضلاً عن أنَّ فهم الأنواع الأدبيَّة الجديدة كان لا مناص سيمرُّ عبر التجارب الفرنسيَّة والإنكليزيَّة. لكنَّ الفكرة تلخَّصت بالوصول إلى نقطةٍ حيثُ بمقدورنا أن نكون أحراراً في قراءة ما نريد أيَّاً كان، ما يروق لنا؛ وليس القراءة وحسب، بل التواصل بعمقٍ أيضاً مع هذه النوعيَّة من الآداب.
في طيَّات تبيينك الأوَّل لهذه السلسلة، يبدو الأمر وكأنَّها مشروعٌ ما بعد استعماريّ، في حين أنَّ مستويات التجربة والقراءة النصِّيَّة التاريخيَّتين اللتين تصفهما توحي بفهمٍ أعمق تاريخيَّاً للأدب العالميّ- وهو فهمٌ ليس قاصراً على لحظة إنهاء الاستعمار وحسب.
أنتِ محقَّة؛ هذه السلسلة، بطريقةٍ ما، مشروعٌ ما بعد استعماريّ، لكنَّها ليسَت كذلك فقط. فهي تتعلَّق أيضاً بالغوص عميقاً في طبقات هذه الثقافات من أجل فهم تراثنا الأدبيّ. وفي الواقع، ليس فقط لغاية فهمه، بل للاستمتاع به. نحنُ نقرأ للاستمتاع! بيد أنَّنا ننسى ذلك. معظم الأساتذة يدرِّسون في المجالات كافَّةً على نحوٍ يجعلُ (القراءة) عبئاً. لكنَّنا في واقع الأمر بحاجةٍ إلى الاستمتاع! الاستمتاع هو الغاية الأساسيَّة من الأدب. وكما تعلمين، لدى الكاتب العربيِّ العبَّاسيّ، أبو حيَّان التوحيديّ، كتابٌ بعنوان "الإمتاع والمؤانسة". وهذا هو الأدب: الاستمتاع والتواصل.
من ثمَّ، أجل، يمكن أن تساعدك قراءة الرواية على فهم المزيد عن مجتمعٍ ما. تتيحُ الروايات تلك الإمكانيَّة في بعض الأحيان. وكما كان ماركس يقول، يتعيَّن على المرء قراءة بلزاك إذا ما أراد فهم المجتمع الفرنسيّ؛ لأنَّه كان أفضل من أيِّ عالِم اجتماع. لكنَّني أرى أنَّ هذا الأمر هو أحد الآثار الجانبيَّة للأدب. وأمَّا تأثيره الرئيسيّ، فهو الغوص في خبايا النفس البشريَّة، في التجربة الإنسانيَّة، ومنحك هذه المعرفة العميقة لحالتنا الإنسانيَّة. أوَليسَت المعرفة متعة؟ بل إنَّ أعظم متعةٍ هي متعة المعرفة.
هل ما تصفهُ هُنا يُحاكي مفهوم المؤانسة التي نجدها في المعنى الكلاسيكيّ للأدب؟
إذا ما عدتِ إلى التراث العربيّ، إلى "المقامات" أو "ألف ليلةٍ وليلة"، أو غيرها من أشكال السرد القصصيّ، ستجدين أنَّ سرد القصص كان يحدُث في حيِّز الليل، ففيه يجدُ المرء كلَّ ظلال الحياة. بالمناسبة، كان مفهوم الليل مختلفاً حينذاك؛ دَمَّرنا الليل بالكهرباء. كان الليل أواناً تتجلَّى فيه الأرواح، وموعداً للحديث إلى الموتى، وظهورِ الجنّ، وانكشافِ أسرار الحياة كلِّها. لذا، أوَّلاً، كانت (القصص) تُروى ليلاً. وثانياً، كان سرد القصص متعة. وثالثاً، كان فخَّاً. حكت شهرزاد حكاياتها من أجل النجاة بحياتها؛ وفي المقامات روت شخصيَّات (على غرار أبي الفتح الإسكندريّ) قصصها تسوُّلاً وإبهاراً لجماهيرها. بناءً على ما تقدَّم، نجد أنَّ هناك مستويات عديدة لمعنى السرد القصصيِّ والتعاطي مع الأدب؛ بيد أنَّها تصبُّ جميعاً في بوتقةٍ واحدة إذا ما تحدَّثنا عن فكرة المتعة.
يقول الناقد عبد الفتَّاح كيليطو، في معرضٍ تعليق له على أشكال الأدب العربيِّ الكلاسيكيِّ وأنواعه التي دخلَت الأدب العالميّ: عمل "ألف ليلةٍ وليلة"، الذي لم يُصنَّف كأدبٍ رفيع في أوساط اللغة العربيَّة، أوفى بولعٍ أوروبيٍّ نحو السردِّ الطويل والعجائبيّ في آن، على عكس ما حدث للمقامات. ونتيجةً لذلك، لم تشغَل الأخيرة مكانة ممثِّلةٍ "عالميَّة" للأدب العربيِّ- بخلاف مآل "ألف ليلةٍ وليلة". هل تتَّفق مع هذا التوصيف؟
بالطبع. وأودُّ أن أضيف أنَّ مشكلة المقامات ليسَت فقط في كونها لم تَرُق للذائقة الأوروبيَّة في القرن الثامن عشر، بعكس "ألف ليلةٍ وليلة"؛ بل إنَّها لم تَرُق لذائقتنا أيضاً! لا يمكننا قراءة المقامات. ويَبرُز ثقل اللغة كواحدٍ من ضمن فروقاتٍ رئيسيَّةٍ عديدة بين المقامات و"ألف ليلةٍ وليلة". لغة العمل الأخير سلسلة، كالماء؛ مزيجٌ من المحكيَّة والكلاسيكيَّة، مزيجٌ مبسَّط جدَّاً من النثر والشعر. بينما المقامة أشبه بمعجم؛ فكانت مكاناً يستعرضُ الكاتب فيه مدى معرفته باللغة. لذا أصبحَت معرفة اللغة هدفاً بحدِّ ذاتها.
لكن ينبغي ألَّا تكون اللغة هدفاً إلَّا بمعنى الكشف والإفصاح؛ فهي ليسَت حجاباً. اللغة في المقامات حجاب. بيد أنَّها، في "ألف ليلةٍ وليلة"، تكشفُ النقاب عن الحياة. هذا فارق كبير. لذا، باعتقادي، وصل "ألف ليلةٍ وليلة" إلى الأدب العالميّ، وليس فقط لأنَّ القصص راقَت للذائقة الأوروبيَّة. وهي بالطبع راقت لهم، ومن الواضح كيف قرأها الأوروبيُّون ووظَّفوها. لقد سبقَ أن تحدَّثنا عن تأثير "ألف ليلةٍ وليلة" في أدب أميركا اللاتينيَّة، لكنَّ تأثيره في الأدب الأوروبيّ عظيمٌ أيضاً.
بصفتك كاتباً، فأنت تجمع في أعمالك الأدبيَّة أيضاً بين الفصحى والمحكيَّة أو العاميَّة. هل تبتغي من هذا تحقيق خفَّةٍ مماثلة على مستوى اللغة؟
أجل. كما أجمعُ أيضاً بين الشعر والنثر في رواياتي. أوَّلاً، فيما يتعلَّق باللغة: فنحنُ قد ورثنا لغةً غنيَّةً جدَّاً. ولا أقصد بهذا الفصحى وحسب؛ فالعربيَّة لغةٌ غنيَّة لأنَّها تنطوي على أربع "عائلات" عاميَّةٍ مُنظَّمة، على الأقلّ: أعني الشاميَّة، والعراقيَّة-الخليجيَّة، والمصريَّة-السودانيَّة، والشمال أفريقيَّة. كما أنَّ كلَّاً من هذه العائلات الأربع الكبرى تضمُّ عائلاتٍ أصغر، ممَّا يمنحنا ككتَّابٍ إمكانيَّةً هائلة للعب بالكلمات، وانتقاء كلمةٍ من موقعٍ وتوظيفها في آخر، وما إلى ذلك. وهذا بدوره يمنحنا طبقاتٍ من المعنى لا يمكن تخيُّلها.
طالما حضرَت العاميَّة في العربيَّة. وأمَّا النموذج الذي يدأب بعض المثقَّفين العرب، والعديد من المستشرقين، على إقحامه، فهو ليس صحيحاً: أتحدَّث عن تلك الفكرة القائلة إنَّ اللغة العربيَّة مُقدَّسة، ومصيرها مشابه لمصير اللاتينيَّة. أوَّلاً، لم يَحدُث أن كانت اللغة العربيَّة مقدَّسةً قطّ. ومنذ بداية "عصر التدوين"، في القرن الثامن، كان النقَّاد العرب واضحين جدَّاً بهذا الصدد. يخبرنا ابنُ جعفر أنَّ "الشعر غير الدين"، لذا نفصلُ بينهما.
أعتقد أنَّ النقَّاد العرب العبَّاسيِّين أظهروا ذكاءً متَّقداً إذ جعلوا من الشعر الجاهليَّ مرجعاً لغويَّاً للقرآن. إذن للقرآن مرجعٌ في اللغة محكيٌّ تماماً؛ مرجع لا ينطوي على أيِّ قداسة. وليس القرآن أصلَ اللغة العربيَّة؛ بل يتعيَّن على المرء العودة إلى الشعر الجاهليّ ولغته لفهم القرآن. لذا تتباين اللغة العربيَّة عن لغةٍ مقدَّسة أخرى، ألا وهي العبريَّة، التي بادَت حتَّى أُعيدَ إحياؤها من خلال الصهيونيَّة الحديثة والنموذج الأوروبيِّ للدولة القوميَّة. بيد أنَّهم ما زالوا إلى اليوم يشتمون بمفرداتٍ عربيَّة! هل بوسعك تخيُّل لغةٍ بلا مفردات شتائم؟ على أيِّ حال، تلك كانت الأسطورة الأولى (عن اللغة العربيَّة)، وهي مجافيةٌ للصواب.
الأسطورة الثانية هي أنَّ العربيَّة تشبهُ اللاتينيَّة. لكن في حالة العربيَّة، ظلَّت الفصحى حاضرةً على الدوام، جنباً إلى جنب مع العربيَّة المحكيَّة، وكذلك (تعايشَت) معاً مستوياتٌ عديدة للغة نفسها منذ أزمنة ما قبل الإسلام. وهكذا، فإنَّ توظيف هذه المستويات في أدبنا المعاصر هو في المقام الأوَّل ثورةٌ في وجه مفهومٍ صيغَ في عصر النهضة (النهضة العربيَّة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين): أعني الدعوة للعودة إلى لغة المتنبِّي "الذهبيَّة" ورفض لغة "ألف ليلةٍ وليلة"، إذ كان يُنظر إلى الأخيرة على أنَّها تغصُّ باللغة المحكيَّة. أعمال الجاحظ مليئةٌ بالعربيَّة المحكيَّة؛ قلائل من يعرفون هذه المعلومة. إنَّ بمقدورنا التعاطي مع اللغة المحكيَّة باعتبارها مستوى من مستويات العربيَّة، ممَّا سيفسح لنا مجالاً للعب على مستوياتٍ مختلفة من اللغة. في رواياتي، لا أقصر استخدامي للعاميَّة على الحوارات وحسب. بل أوظِّف في واقع الأمر صياغات الجمل العاميَّة في بناء لغتي، ممَّا يساعد على تغيير معناها. يفترض بنا، معشر الكتَّاب، فعلُ أشياء عديدة، من بينها الابتكار في اللغة وجعلها أكثر ملاءمةً لحياتنا وأساليب حديثنا.