في محاولة شخصية جداً، لاسترجاع القليل من التوازن في علاقتي مع الأدب، وفهم جدواها المشكوك فيها، أعدتُ قراءة بعض القصص القصيرة التي جعلتني أميل إلى القصة (وليس الرواية أو الشعر أو المسرح) قبل عشرين سنة، لتشخيوف وموباسان وكاواباتا. لطالما أردتُ أن أعيد قراءة الكلاسيكيات، ولكنني دائماً أجد نفسي مشدوداً إلى مواضيع أخرى، جديدة، إلى رغبة بالمعرفة لا تني تتوسع، وتتعاظم؛ وبدلاً من التركيز والتخصص الذي يقتضيه العصر الحديث، أنساح كسطح ماءٍ تتوسع دوائره بعد أن قذف فيه طفل عابث حصاةً صغيرة. مؤخراً، أقرأ القليل عن العمارة العثمانية والصفوية، وفن الحدائق الياباني، وتاريخ بيزنطة. كل هذا، كي أفهم نفسي. فجأةً، شعرتُ بالأسى والعجز الكاملين، أمام نفسي، وأمام شلالات الدم المشرعة لأعين الفضوليين مائة يوم، كأنها مهرجان ترفيه يستعرض فيه العالم نفسه في مرآته. فقررت أن أعود إلى البداية، بداية اكتشافي لفن القصة القصيرة، بداية سقوط الحصى.
بدأتُ بموباسان، وهو الأسبق زمنياً. تشيخوف تأثّر كثيراً بموباسان، بل وتمنى أن يعيد ترجمة كل أعماله إلى الروسية. قد لا يبدو ذلك جلياً، للوهلة الأولى. تشيخوف أكثر محبة وقرباً من شخصياته ومن قرائه، وأقل اهتماماً بالحبكة. كلاهما لا يعتمد على ما يدرّسه أساتذة الأدب عن فن القصة القصيرة، وما تعتمده الجوائز، والمراجعات النقدية، أي تحويل فن القصة إلى مهرجان لإثارة القارئ، عمادها المفارقة، الهزيلة دوماً وأبداً، بالضرورة. كلا، بل يعتمدان على تقاليد واقعية ثقيلة: الأبطال، ليسوا أبطالاً، بل ناس عاديون. في “السيدة صاحبة الكلب”، البطل ممل، ومتعجرف، وزير نساء. والبطلة بريئة، تائهة، غير طموحة، وحزينة بدون أسباب. بمعنى ما، قصة حب رومانسية تقليدية، أو حتى إعادة صياغة عجيبة لرواية آنا كارنينيا. في الحقيقة، أسوأ من رواية تولستوي، لأن الحب قد ينتصر عند تشيخوف. ولكننا لسنا متأكدين. التفاصيل الصغيرة التي لا يتحكم بها البطلان، والحيرة التي تعتريهما طيلة الوقت، والحزن الشجي الذي يغلّف عالم تشيخوف، يجعلنا نصدّق بأن هذه القصة الرومانسية الواقعية قد حصلت فعلاً، وما زالت تتكرر: الإيمان بعالم أفضل، من قبل أولئك الذين لا يملكون إلا هذا العالم القبيح القاسي، ولا يعرفون الالتزام الإيديولوجي الثابت العميق.
وللمرة الأولى، أنتبه إلى أن شهرة موباسان بُنيت على قصصه المبكرة عن الحرب، حرب 1870 التي خسرتها فرنسا. بين “كرة الشحم” و”الآنسة فيفي”، يختار موباسان العاهرات ليرسم صورة كاملة عن الهزيمة، والمجتمع المتفكك، والطيبة. لا شيء آخر يعبّر عن الناس أكثر من العاهرات في زمن الحرب. وموباسان، على العكس من تشيخوف الإنساني الأصيل الطيب، لا يحمل أية إيديولوجيا واضحة. كره الديمقراطية والعامة، واحتقر النخبة والأرستقراطية والبرجوازية، وكان هو نفسه زير نساء، وحيداً، متشائماً، مرحاً، ذكورياً -ولكن قصصه المبكرة تميل إلى نسوية شبه-مباشرة. كلما تقدم في السن، زادت حيرته وابتعاده عن البساطة والطيبة التي طبعت قصصه الأولى.
كاواباتا، أيضاً، يستعيد الحرب، وبالضبط مثل موباسان، من خلال الناس العاديين. وفي قصةٍ من أجمل ما كتب على الإطلاق، “الثلوج الأولى على جبل فوجي”، تتبدّى الحرب كحدث بعيد، حاضر، خيالي. الخسارة الكبرى تترافق مع هزائم صغرى. حسية كاواباتا الاستثنائية، مع الجبل والشجر والجسد- نصف الشهوانية والمشككة بوحدة الوجود، تتواشج مع محاولة فهم الحب. ولكن كل شيء يمضي، ويتغير، ولا يموت تماماً. الثلوج الأولى، التي ينتظرها اليابانيون بشغف، تعود كل سنة، لتذوب في الربيع سريعاً. الحب يذوي، أيضاً، تاركاً أثراً، كعبق البنفسج الزائل.
في أعمال هؤلاء الثلاثة، انحياز ميّز الواقعية منذ بداية نهوضها في القرن التاسع عشر: انحياز إلى الناس، الذين ليسوا أبطالاً، ولا مناضلين؛ وليسوا مجرد ضحايا، أيضاً. الواقعية بهذا المعنى خيارٌ لا يكتفي بأن يكتب الواقع، بل يختار من هذا الواقع ما هو أكثر واقعية، كما في في لوحات ديغا وتولوز-لوتريك، الانطباعيين اللذين رسما البشر، وليس الطبيعة التي بهرت كلود مونيه وبيسارو تماماً، ولكنها لم تستول على قلوب ديغا وتلميذه، اللذين اختارا واقعاً بشرياً يقع على الحد الفاصل: بين الهزء، والبؤس.
لم أكن يوماً ميّالاً إلى أدب الاستثنائيين الشجعان: أدب الحرب، أو أدب السجون، أو أدب النضال، الذي يرافق الثورات المنتصرة، والمهزومة. وقد يكتب المرء عن كل ذلك، ولكن بمرح وبطريقة فنية مقنعة، كما فعل إميل حبيبي، على سبيل المثال، أو إسحق بابل. الخروج من أسر الأدب السائد الدعائي، ممكن وسهل. أعادتني قراءة الكلاسيكيات القصصية إلى نقطة البداية: كما يحصل للمرء عندما يعود إلى سورة الرحمن، أو معلقة زهير بن أبي سلمى، أو براءات وليم بليك، أو طقطوقات صالح عبد الحي. لا يبدو لي أنني أتطور، أو أتجاوز أساتذتي. ولا يبدو أن هذا التجاوز، بالأصل، مرغوب أو معقول أو مطلوب. تتراكب العلاقات مع المعلمين بطريقة أقرب إلى تفرع الكائنات الحية المستمر والدائم حسب داروين، ليحتفظ الأحفاد بأهم خواص الأجداد، مهما تغيّروا وتعدّلوا جينياً؛ وليست كانفصال الأطفال نفسياً عن الأبوين في مراهقتهم، ليعاني الطرفان من آثار تروما لا تزول.
في النهاية، لا تستطيع الكتابة إنقاذنا من العجز والشلل. كلا. على الأقل، ليس في أوقات الذروة، عندما تستسلم حتى الملائكة، تختبئ في السماوات خوفاً وذعراً. كلا. فقط العمل السياسي المباشر والصريح والكامل يستطيع ذلك، “الانخراط” في القضايا، على ما يقول المتفلسفون. ولكنها محاولة شخصية جداً، كي أتأكد من معنى الأدب، ومن المشروع الذي كرّستُ له روحي المتقلقلة، أي القصص القصيرة والمقالات الأدبية. والمعنى يكمن في الخسارة، أو في جوهر الخسارة: في الضعف البشري المقيم فينا. تنتهي القصص كلها بالخسارات، من “كرة الشحم” لموباسان إلى “عاشق الحيوان” لكاواباتا وصولاً إلى “عنبر رقم 6” لتشيخوف.
نجيب محفوظ، سليل تلك الواقعية، في مقابلة تلفزيونية، دافع عن التشاؤم السائد في الواقعية بطريقة مبتكرة: ربما، نكتب عن ذلك لأننا لا نريد له أن يتكرر؛ ولكن هذا، بكل سوداويته، ما عاشه الناس، وما يعيشونه اليوم. تنتهي رواياته المبكرة بكوارث مكتملة: “زقاق المدق” و”بداية ونهاية” و”القاهرة الجديدة”. ولكن هذا ليس التشاؤم الذي امتلأ به أدب الغرب الحديث في القرن العشرين، حيث يغيب المعنى عن الحياة والكتابة، بل يتجلّى في واقعية محفوظ المعنى الأصيل الأصلي للكتابة، الأقرب إلى القرن التاسع عشر الأوروبي الواقعي، الذي يغتني ويُغني الحياة والكتابة، من خلال الواقع.
في القصص القصيرة الكلاسيكية الواقعية، التي سحرتني قبل عشرين سنة، لا يوجد بطولة، ولا أمل كذاب، ولا محاولة لقلب العالم رأساً على عقب؛ لا يوجد أفكار كبرى، ولا تاريخٌ يُستعاد، ولا فلسفة أو تصوف أو علمانية تخنق القارئ بحبالها الغليظة؛ ولا طقوس فولكلورية تُعرض أو عذابات تُوثّق؛ ولا يوجد تفاصيل مملة أو شاعرية ملحقة على النص، ولا يوجد رسائل أو دروس مستفادة، ولا يوجد إدانة للشر أو احتفاء بالحق.
مع ذلك، هناك القليل من دفء المحبة التي يخرج بها المرء ظافراً، مرتبكاً، حائراً، قلقاً، ساخطاً؛ القليل من دفء المحبة الذي يتوهج وهناً، على الرغم من كل شيء، كشمعةٍ في خيمة!