تحكوش لحدا

Wafa Hourani, Qalandia 2047

عبد الرحمن شبانة

كاتب من فلسطين

هنا ارتبك الشيخان، كأن هذا الشرط شرط أوعية التنفس لديهم، فكشف عن مشهد سريالي امتد لما يقارب الساعة، مشهدٌ كاد من غرابته أن يكون مسرحياً مكتمل العناصر اللازمة لإبهار الحاضرين الغافلين عن تفاصيل المشهد التالي.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

23/12/2019

تصوير: اسماء الغول

عبد الرحمن شبانة

كاتب من فلسطين

عبد الرحمن شبانة

وقيم معارض. أصدر ديوانه الشعري الأول «اجتراح المكان» في ٢٠١٥، وافتتح معرضه الأول «قريب لا آراه، بعيدٌ أمامي» عام ٢٠١٧. شارك في إنتاج العديد من المعارض والفعاليات الثقافية والفنية، وعمل كمنسق مشاريع وقيم معارض في الحقل الثقافي الفلسطيني بالإضافة إلى عمله كمخطط مدن. يعمل حاليا كقيم فعاليات ثقافية مستقل.

يوم الخميس الماضي ترقبنا انقضاء تقليد مجتمعي آخر، تقليد ديني دنيوي تكتب فيه أسماؤنا الرباعية على عدة أوراق تُضاف إليها الشروط وعدة مبالغ حسب الطلب، نوقع بعدها أسفل الأوراق بالموافقة والإقرار بما علاها.

لا شيء عن الحب بين تلك الأوراق، بل بعض التفاصيل التي وجد فيها المجتمع أهمية تستحق التوثيق حتى تُستكمل الحياة المشتركة. سألت نفسي حينها كم من القبول المجتمعي تحتاج العلاقات حتى تحفظ خصوصيتها بمسافة آمنة بعيدة عن أنوف المجتمع البينوكية؟

انتظرنا المأذون عن المحكمة الأردنية (لنفترض أن اسمه سالم) والمأذون عن المحكمة الإسرائيلية (لنفترض أن اسمه جميل) في بيت والد ديما (لنفترض أنه في الطيرة).

عقارب الساعة تقترب من موعدنا المحدد، وقبل الساعة الخامسة عصراً بدقيقتين رن جوالي، فصمت الحاضرون في ترقب للمحادثة التي استكملتها وأنا أخرج مسرعاً من البيت صوب الشارع محاولاً دّل سالم وجميل إلى البيت. 

– مرحبا، انت العريس عبد الرحمن؟ سأل جميل

– اه معك عبد الرحمن، “وين صرت؟”

– عند مطعم جازمن. “وين انت بالزبط؟” تابع جميل

– “بعد كازية الهدى امشي شوي وانزل عالشّمال لحد ما تشوفني”.

– “بعد الجامع وِلّا قبل الجامع؟” تابع جميل

– “ضلك ماشي لحد ما تشوفني، انساك من الجامع” قلت له قبل أن تنتهي المكالمة.

عدة سيارات تجاوزتني قبل أن تقترب الفورد فوكس، السيارة التي قادها سالم، مأذون المحكمة الأردنية ذو العمامة البيضاء التقليدية. 

قُلت لهم مرحباً، وصلتم. فلتتفضلوا إلى البيت، تتابعت ابتسامة جميل المريبة منذ رؤيتي له في السيارة حتى ردد مازحاً عند نزوله منها وقبل أن يقول أي شيء آخر:

– أنت العريس؟ 

جاوبته بنعم. فرد علي في جملة لم تضحكني وزادت من تطرف ابتسامته:

– الله يعينك، شو جابرك على هلتعتسه.

قاطع ضحكته سالم الأكثر رزانة وقال له “تخوّفش الولد”. 

كلاهما تدحرج أمامي صوب مدخل البيت، وأنا أفكر في كلمة “ولد” التي ما زالت تلازمني مجتمعياً بطريقة أو بأخرى، كنت أظن أني أصبحت “زلمة” بعد حادثة شركة الاتصالات قبل عام ونصف.

اليوم عمري أقرب إلى الواحد وثلاثين عاماً منه إلى الثلاثين، والموقف الطويل العريض مع شركة الاتصالات الفلسطينية أشعرني أنّني “زلمة” حينها.

سأحاول أن أختصر:

لم تقبل الموظفة يومها طلب خط الهاتف الذي قدمته لربط مسكني الجديد بالإنترنت دون الحصول على موافقة خطية من أبي!

أذكر الموقف جيداً عندما أجبت بلا حين سألتني، “هل أنت متزوج؟”

– ماذا تقصدين موافقة موقعة من أبي للحصول على خط إنترنت إن لم أكن متزوجاً؟

– مجرد إجراءات روتينية لغير المتزوجين!

هنا “كبرت في راسي” ولم أعد أرى هدفاً لحياتي سوى معرفة منطق ذلك الاجراء وسألتها

– هل أنا قاصر لأحتاج موافقة أبي؟

– لا. 

ردت كأنها خاضت هذا النقاش العبثي مئات المرات.

– هل الأوراق الأخرى في الطلب توضح عجزي أو عدم تمكني من دفع ١٠٠ شيكل بشكل شهري؟

– لا 

– هل بحكم كوني “عزّابي” سأحتاج توقيع أبي بغض النظر عن عمري؟

– نعم، هذه هي الإجراءات. 

– على سبيل المثال، لو قدمت نفس الطب وأنا “عزّابي” عمري ٦٥ سنة، هل سيقبل؟

– نعم سيقبل، فحينها ستكون كبيراً في العمر.

– بحياتك وقتيش هو العمر المحدد بين كبير وقاصر عشان اجي وقتها أقدم بدون موافقة أبوي؟

– بعرفش، بتحب تحكي مع المدير؟ 

– “أعطيني المدير”

لم يعد حينها خط الهاتف اولويتي، بل المنطق الذي يحكم “العزّابي” في المجتمع الفلسطيني، وظننت أنه يمكن لي ببعض الاتصالات أن أعرف متى يصبح “العزّابي” “زلمة”، أو على الأقل شخصاً مسؤولاً عن نفسه كما كنت أرجو.

من مدير إلى مدير إلى مدير، أتعبتني بيروقراطية السفهاء ولكني مصر على بعض الإجابات.

قالوا لي جميعا أن هذا الإجراء روتيني، وأنا أود أن أعرف فقط ما هو العمر المحدد بين الكبير والقاصر في نظرهم حتى أعود حينها ك “عزّابي” مسؤول عن نفسه.

بعد عدة أيام من المماطلة والمراجعات والإصرار على حل القضية، عدت محملاً بالكثير عدى موافقة أبي الخطية، مستعداً لنقاش سفسطائي طويل. 

خمسة عشر دقيقة أخرى ولم يجبني أحد عن سؤالي، لم أقتنع بأن الإجراء روتيني. الموظفة “عافت حالها” وقالت لي:

– من شان الله خلص، أنا بمشيلك الموضوع. مش راح حدا يجاوبك هيك ولا راح تمد خط تلفون.

– بس كنت بدي اعرف أديش العمر المحدد عشان أرجع أمد خط وقتها. 

بزناخة قلت لها.

قالت مازحة:

– تقرفنيش اكتر من ما هم قارفيني، هدول متخلفين.

– طيب، معكم يومين لحد ما يركب الخط قبل ما أرجع اسأل نفس السؤال.

ركب الخط في اليوم الثاني وقبل انقضاء المهلة، شعرت حينها أنّني “زلمة” من دون زواج. كيف لذلك المأذون أن يعيدني “ولد” الآن.

ظننت أني تجاوزت “الولدنة” منذ عام ونصف!

وصلنا باب البيت، وقلت بوجه محايد “البيت بيتكم اتفضلو”. فتفضلا إلى داخل البيت، وقبل أن نصل منتصف سلم الدرج كان جميل بأدواته المجتمعية الفعّالة قد تواصل معي بسرعة وعرف بعض أعمامي، وعرف أخي أحمد وحلل العائلة وامتداداتها. 

التزم سالم بسكون ورونق المشيخة. اكتفى بترديد العبارات المهنئة بصوت مرتفع، والأدعية الصامتة التي سمعت منها فقط حرف السين عدة مرات.

والد ديما ينتظر واقفاً باب البيت، فسّلم عليهما ومشينا حتى جلسنا في الصالون. 

تكسرت لحظات الجمود بسرعة وقلت للشيخين، “هاي الورقة تبعت الثلاسيما. معيش ثلاسيميا”.

طلب الرجلان الهويات وصور الهويات بعدها حتى ينقلا البيانات ويتأكدا منها.

– ما هي الحالة؟ هل أنتِ عزباء؟

ـ نعم أنا عزباء

– وأنت

– نعم أنا أعزب.

– سجل عندك.

– اسم أمك؟

– اسم أمي عفاف

– وأمك؟

– اسم أمي مها

– سجل عندك

– طيب 

– شو بتشتغل؟

– اكتب مهندس 

– طيب وأنت يا بنتي بتشتغلي؟

– أه أنا بعلّم في جامعة بيزيت

– يعني مدرّسة

– آه مدرّسة!

– طيب

– اتفقتو على المهر؟

– ليرة ذهب وهادا هو

– بس ليرة ذهب

– آه بس ليرة ذهب

– طيب 

– شو في مقدم؟

– فش مقدم

– ذهب؟

– فش ذهب

– جهاز؟ 

– فش جهاز 

– طيب المأخّر؟

– اكتب ١٠ آلاف دينار

– تمام. 

– طيب، في اشي تاني؟ 

وهنا قالت لهم ديما ما لم يكن متوقعاً، قالت ما هزّ الكيان وقشعر الأبدان.

– آه في. العصمة في إيدي كمان!

– شو قصدك العصمة بإيدك؟ 

سأل جميل، فردّ والد ديما:

– يعني بطلعلها تطلق وتنهي العقد زي ما بطلع للزوج ينهي العقد.

هنا سكت سالم في حيرة، وقال جميل:

– هاد فش منه الحكي، هاد بس تأثر بالمسلسلات المصري. الإسلام كرّم المرأة ومش ضروري هذا الشرط، هالزوج واعي لتبعات الأمر.

– لا شيخنا، إحنا واعين للتّبعات بالزبط لهذا الشرط وما عنا تلفزيون أصلاً عشان نحضر مسلسلات مصري ونتأثر فيها.

– نعم يا ابني ولكن هذا الشرط غير رائج. بالعادة البنت تشترط تكمل تعليمها او أشياء مشابهة وبند الشرط مش موجود لهيك اشي.

– والله يا شيخ. كنا نفكر إنه هذا الشرط عادي. بنفكر المرأة لازم يكون إلها نفس حق الرجل بالعقد.

– يا ابني، الرجل عنده القدرة على ضبط النفس أكثر من المرأة في هذه الأمور.

– اكتب الشرط يا شيخنا لو سمحت. 

ردّد الحاضرون بشفاههم وأعينهم وحركات أيديهم.

هنا ارتبك الشيخان، كأن هذا الشرط شرط أوعية التنفس لديهم، فكشف عن مشهد سريالي امتد لما يقارب الساعة، مشهدٌ كاد من غرابته أن يكون مسرحياً مكتمل العناصر اللازمة لإبهار الحاضرين الغافلين عن تفاصيل المشهد التالي.

استل كلا الشيخين هاتفه النقال، وبدآ الاتصال بعشوائية بجهات متعددة. اتصال تلو اتصال تلو اتصال. كلٌ يسأل شيخاً آخر محاولاً الوصول إلى القاضي نفسه أو سماع نصيحة زميل في المهنة.

ما هو حكم هذا الشرط؟

يجوز أم لا يجوز. حلال أم حرام. مكروه؟ خروج عن الشرع؟

في ذلك الهامش، حاورهم والد ديما المفكر في الدين محاولاً إقناعهم بأن متن القرآن صرّح بذلك. فرد جميل وقال “معك أنا يا حج، بس لازم اتأكد. أنا عبد المأمور”.

كان من المضحك مشاهدتهما يتحدثان في نفس الوقت إلى هواتفهم النقالة، ومحاولتهما شرح الشرط إلى زملائهما، وكيف خفف كلاهما في كلماته وقع حدته عليهم، كأنهم على جبهة حرب يطلبان النصيحة في التعامل مع لغم أرضي وقف جميل خصوصاً عليه.

يجوز ولكن غير مستحب!

جاوب قاضي المحكمة الأردنية سالم أولاً فارتاح وانقشعت غمامة عن عمامته البيضاء. وكتب الشرط بحذافيره كما لقنه القاضي. “يحق للزوجة تطليق نفسها بنفسها، طلقة تلو الطلقة حتى الطلقة البائنة، وقد وافق الزوج على ذلك”.

استكمل سالم كتابة الوثيقة الأردنية بعد أن نظر إليّ لأخذ الموافقة الأخيرة. بينما ارتبك جميل بين اتصال وآخر، بعد أن أصبحت جميع العيون تلاحقه بمن فيها أعين سالم المرتاح.

حتى يصل مبتغاه حاول جميل الوصول إلى القاضي، وبعد عدة دقائق أشفق سالم عليه فالتقط هاتفه للسؤال عن حالة مشابهة بين أقرانه في المحكمة الشرعية الإسرائيلية.

سمعت مقتطفات من حديث جميل في إحدى اتصالاته عندما حاور أحد زملائه القدامى، “ويا ريتني ما سمعت” 

– هل يجوز أن أكتب أن العصمة في يد الزوجة كشرط في العقد؟ 

سأل جميل.

– لا اعلم، ولكن هل يعي الزوج خطورة ذلك؟ أيعي أن بوسع زوجته أن تطلقه متى شاءت!

– نعم نعم، وقد أخبرته أن هذا الشرط ربما يخالف تعاليم الدين الحنيف.

– يا جميل، قل له أن الرجل قادر على إنصاف عقله والتفكير بمنطق قبل الطلاق، أما المرأة فهي عاطفية، وربما تطلقه على أمور تافهة، وأيضا قد تطلقه عند حلول دورتها الشهرية واختلال هرموناتها. أرجوك أخبر العريس بذلك مرة أخرى.

– حسنا سأحاول. وارجو منك محاولة الوصول الى “القاضي الفلاني” حتى يأتينا الخبر اليقين.

نظر جميل إليّ مرة أخرى قبل أن يقول:

– يا عبد الرحمن هذا الشرط ما إله لازمة، إن شاء الله ستكون حياتكم ميسرة وسعيدة بدونه، ومن الممكن لهكذا شرط أن يسبب لكم المشاكل مستقبلاً. 

وجّه جميل بعدها نظره إلى الحاضرين وعلم أن كل من في الجلسة عداه مُصرٌّ على هذا الشرط (اتخذ سالم الحياد موقفاً بعد موافقة قاضي المحكمة الاردنية)، فهذا الشرط فيه خلخلة وقصقصة لما تعنيه الأدوار المجتمعية المعدة مسبقاً “المَرَه” و “الزلمة”، والتي حسب مفهومه يجب الحفاظ عليها.

تناول جميل هاتفه وأجرى بعض الاتصالات مرة أخرى حتى “يبرّي زمته” كما قال. وفي تلك اللحظة بدأ الجو بالاحتقان وبدأت أعصابي بالتلف. خفت أن تفقد ديما أعصابها وتبدأ “ببهدلة” المأذون ولكنها خالفت توقعاتي وتوقعات المأذون ومن تحدث معهم على هاتفه النقال، فكظمت غيظها ولم تكن عاطفية في ردة فعلها. أنا من كان عاطفياً ومتسرعاً عندما قاطعت جميل وقلت “يا أخي إنت بتكتب عقد زواج وِلّا عقد طلاق؟ خلص اكتب الشرط زي الأردني”.

هنا حاول سالم تلطيف الجو وقال إن الأمر مجرد بحث عن صيغة مناسبة لكتابة الشرط وليس أكثر.

هربت بنظري حينها أنظر من النافذة عن يميني محاولاً تهدئة نفسي وإشغالها بمشهد آخر، تابعت جمال سماء الغروب الخريفية تارة، وتارة أخرى تبادلنا الضحكات المبطنة جمعياً؛ مها (أم ديما)، ويارا أختها، وفارس زوج يارا وأحمد أخوها ووالدها الدكتور محمد.

تحدثت بأعيني مع ديما التي قالت لي بصمت ” شو هلوقعة”

فجاوبتها “قرّبت”

مرت عدة دقائق أخرى قبل أن تتلاشى ريبة الموضوع، وقبل أن يأتي الفرج ويرد “القاضي الفلاني” المنتظر.

– مرحبا شيخنا

– مرحبا جميل

– أيجوز؟ 

سأل جميل

– يجوز ولكن غير مستحب. 

رد الشيخ ولتكتب نصاً مشابهاً للنص المكتوب في العقد الأردني

– شكراً جزيلاً. رد جميل قبل أن يعود لحالته الطبيعية ويتحدث بصوت عال عن محاسن الزواج وإلخ إلخ إلخ…

كُتبت الوثيقة المعروفة بـ”كتب الكتاب” وخَفّت حدة الجلسة، فشربنا القهوة وابتسمنا قليلاً حتى تحتم رحيل سالم وجميل بعد حضورهما المقلق. 

تدرجت معهما نزولاً حتى نصل الفورد فوكس. 

وكان آخر ما قاله لي جميل 

– صحيح انه بحقلكم تكتبو هيك شرط بس عشان تعيشو مرتاحين لازم تنسو انكم كتبتوه، مش ضروري تحكو لحدا عن هذا الشرط. تحكوش لحدا. وألف مبروك.

– الله يبارك فيك. 

*صوت اغلاق باب الفورد فوكس*

*رحيل*

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع