بيوت المسك

Earthquake in the Crimea, Kuzma Petrov-Vodkin. Original Title: Землетрясение в Крыму. Date: 1927 - 1928. Style: Symbolism

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

عقب الزلزال، التكافلُ الأهليّ صنع المعنى. حتى لو كان المعنى مؤقتاً، هشاً، لَدِناً. التكافل من السويداء وحوران إلى جبلة واللاذقية وقراهما، ومن دير الزور والرقة والقامشلي إلى جنديرس، ومن دمشق إلى حلب، ومن المَهاجِر التي لا عدّ لها إلى ما بقي من البلد المنكوب. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

28/02/2023

تصوير: اسماء الغول

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

عدي الزعبي

(1)

لا يمكن وضع الأحزان والأهوال والفظائع في كلمات.

(2)

مع ذلك، يجب أن نكتب، ونحكي، ونقصّ، ونحلّل، ونقرض الشعر، ونترجم؛ كي نفهم القليل مما يمكن فهمه عن أنفسنا. 

هذا، على الرغم من كل شيء، قد يكتسب معنىً ما في نهاية الأمر. 

(3)

حتى الأنبياء يتعبون في لحظات الشدة. 

النبي محمد، بعد أن آذاه المشركون في الطائف، ولاحقوه، وسخروا منه، توجّه إلى الله بدعاء من القلب يفيض بالحزن، وربما، بمسحةٍ ضئيلةٍ من العتب:

“اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ علي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلا بك.”

(4)

كل الحدود مصطنعة. 

لا يوجد حدود بين سوريا وتركيا. زلزال واحد، من إدرنة إلى حوران. لم يميّز الزلزال بين مناطق النظام وتركيا وشمال-غرب سوريا، ولا بين السكان العرب والأكراد والأتراك، ولا بين العلويين والسنّة.

كل الحدود مصطنعة، لا تعرفها الطبيعة: لا الزلازل ولا الرياح ولا العواصف ولا النسيم ولا الغيوم ولا الجبال ولا السهول ولا الأنهار ولا النحل ولا الدببة ولا الجراد ولا القطط ولا الروائح ولا السموم ولا الثلوج، ولا حتى البدو الرحّل!

(5)

ضرب الزلزال الأول منطقة غازي عنتاب في الرابعة والثلث صباحاً واستمر 45 ثانيةً. 

وضرب الزلزال الثاني غرب مرعش في الواحدة والنصف ظهراً واستمر 50 ثانيةً. 

مدة الزلزالين معاً لم تتجاوز الدقيقتين. 

يتكثّف الزمن، بل لحظاته تتناهى، لتتداخل مع المكان والمعنى والروحانيات، كما تتكثّف في ذكريات خاصة جسدية، وفي المواقف والمخاطبات مع الله بحسب الصوفية، وفي هجمات الأسلحة الحربية الحديثة، وفي السرعات العظمى بحسب آينشتاين. 

(6)

أسس السلوقيون، ورثة الإسكندر المقدوني، فاتح العالم، مدناً عديدة في سوريا، أشهرها اللاذقية وأنطاكية وأفاميا. ثم ورث الرومان فالبيزنطيون هذه المدن، وبعدهم العرب. استعاد البيزنطيون أنطاكية، عاصمة الشمال السوري والتجارة والدين المسيحي. في ذروة التوغل السلجوقي في آسيا الصغرى، غزوا أنطاكية وغيرها من المدن، فطلب البيزنطيون مساعدة الغرب الكاثوليكي، الذي غزا المنطقة بدوره بعنف طمّاعٍ أعمى، لتصبح أنطاكية عاصمةً لأول إمارة صليبية في المشرق. استردها السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، ولم تستعد ألقها القديم بعد ذلك. وعند سقوط المماليك، ربطها العثمانيون بمدينتهم المفضّلة في الشمال السوري، حلب، تجارياً وتنظيمياً، وخلفهما غازي عنتاب شمالاً والموصل شرقاً، في وحدةٍ سمحتْ لهذه المدن بالانتعاش الاقتصادي والحضاري المتنوّع والمميّز.

بقيت أنطاكية مركزاً للثقافة اليونانية-المسيحية، ورمزاً لها. الجمهورية التركية الناشئة ستطالب الفرنسيين بالمركز اليوناني الذي كان رسمياً جزءاً من أراضي الانتداب على سوريا، ويسكنه أغلبية بسيطة ناطقة بالعربية، وستتحول بعد تسليم الفرنسيين لها تدريجياً إلى مدينة بأغلبية تركية، مع هجرة معظم الأرمن والعلويين العرب منها.

سيعود السوريون العرب إلى أنطاكية، لاجئين، بأعداد كبيرة، هاربين من سوريا بعد ثورة فاشلة، ليشاركوا الأتراك النهايات الحزينة معاً، في زلزال السادس من شباط. 

(7)

المسكُ داخل الظبي

ولكنه لا يبحث عنه، 

بل يبحث عن العشب. 

الشاعر الهندي كبير. 

(8)

“أودّ أن أبدي اعتذاري وأسفي الشديد لكل من لم نستطع الوصول إلى أهله وذويه على قيد الحياة في كل أنحاء سوريا. إن الألم يعتصر قلوبنا لمجرد التفكير في ذلك. كنا نقاتل العجز ونحارب الزمن للوصول إليهم أحياء. لقد كان نقص المعدات ذات الفعالية سبباً كبيراً في هذا العجز، ولكننا نقسم لكم أننا عملنا وبذلنا قصارى جهدنا.”

رائد الصالح. الخوذ البيضاء. ثالث أيام الكارثة. 

(9)

فولتير، عقب زلزال لشبونة، كتب ناقماً على أولئك الذين يعتقدون أن الله يريد الخير للناس: لماذا لم يوقف اللهُ الزلزال؟ 

قد لا نعرف الحكمة، ولا المقصد، ولا جذر كل هذا البؤس. هذا ما يقوله التنويري الفرنسي. ولكنه، على عكس الجيل الأصغر من التنويريين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، بقي مؤمناً بالله. ويقترح علينا، بمحبّة الشكّاك الصادقة، حلّاً مباشراً وواضحاً: بكل الأحوال، وبدون تفسيرات عقلانية، سواء كنا مؤمنين بالله أم كافرين أم حيارى، يجب أن نحب، ونعمل، ونزرع الحدائق. 

(10)

يا لهُ من حزنٍ، لكلّ فردٍ بيتهُ

كأنني أنزل القبر

عندما أعود إليه للنوم. 

تاكوبوكو، شاعر ياباني. 

في “بيت الدمية”، لهنريك إبسن، يستخدم المسرحي النرويجي في العنوان الكلمة الأدق hem (أو home بالإنكليزية)، وليس مجرّد منزل أو بيت. تبدو الكلمة الإسكندنافية أقرب إلى معنى الوطن، تقريباً. نعيش في بيوت، ونرتحل عنها، ولكنها تصبح كالقبور، عندما لا تشبهنا ولا نشبهها. هذا، ربما، أحد معاني المنفى، ومعاني المسرحية الآسِرة التي حققت نجاحاً هائلاً في الصين واليابان بعد نشرها بفترة قصيرة. 

أو، ربما، يفكر الشاعر في البيت كسجن منعزل، حتى لو كان يشبهنا. فالإنسان، أولاً وأخيراً، حيوان اجتماعي؛ والعودة إلى البيت، بعد التجوال وحيداً في الليالي الدافئة (وهو السياق الذي ترد فيه قصيدة التانكا أعلاه)، يعني الاستسلام أمام العزلة.

أو، ربما، فكرة البيت لا تناسبنا: بعد أن انفصلنا وتطورنا عن أسلافنا أشباه-البشر، عشنا حياة التجوال في إفريقيا -ثم خارجها- مئات آلاف السنين، حتى اكتشاف الزراعة. قد يكون التجوال هو الأصل، والبيوت خطأ فرضته علينا الحضارة والمدنية. 

والبيت لا يصمد أمام الزلازل، التي تُغير على ذلك المكان الحميميّ الشخصي الفريد حيث يشعر المرء بالرضا والقناعة والطمأنينة وسموّ الكرى الرهيب، فتغدو البيوت قبوراً.

على المرء، إذن، أن يحذر حتى من البيوت التي يسكنها، أو تسكنه!

(11)

الحضارة تتضعضع أمام الطبيعة. 

المدن أضعف من القرى. 

كلما علا البناء، وهنت القوى.

(12)

لم يعلن النظام السوري الحداد العام على شهداء أكبر كارثة تصيب البلد منذ أكثر من ألف سنة.

(13)

اعتمدت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وأشباهها تسمية شمال-غرب سوريا، لوصف المنطقة التي أصابها الزلزال ولم تصلها أية مساعدات، لأنها ليستْ دولة، وليست أمة، بل ما جفّ من أرض وبشرٍ سنين طويلةً تحت أعين الأمم الملولة الناعسة: مكان يراوغ الخرائط، عصيّ على التصنيف كقطة شرودنجر، شبحيٌّ كالفردوس والجحيم، يفيض بالدم والغدر والأمل والرفض واللوعة، كفلسطين، أو كردستان. 

شمال-غرب سوريا: توصيف جغرافي بحت، مقصودٌ كي يخفي الخيبة الكبرى، وفشل الأمم التي لا تثورُ. 

(14)

عقب الزلزال، التكافلُ الأهليّ صنع المعنى. حتى لو كان المعنى مؤقتاً، هشاً، لَدِناً. التكافل من السويداء وحوران إلى جبلة واللاذقية وقراهما، ومن دير الزور والرقة والقامشلي إلى جنديرس، ومن دمشق إلى حلب، ومن المَهاجِر التي لا عدّ لها إلى ما بقي من البلد المنكوب. 

المعاني ليست ملقاة على الطريق، بل يصنعها الناس. 

(15)

“عمّو، طلّعني بصير خدّامة عندك”.

تقول فتاة من تحت الأنقاض.

وفي إنجيل يوحنا، الأصحاح الثالث عشر:

“قَالَ بُطرُسُ لِيَسُوعَ: هَلْ سَتَغْسِلُ أنْتَ يَا رَبُّ قَدَمَيَّ؟

فَأجَابَهُ يَسُوعُ: أنْتَ لَا تَفْهَمُ الآنَ مَا أفْعَلُ، لَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْد.”

(16)

لا يمكن وضع الأحزان في كلمات. 

الكاتب: عدي الزعبي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع