تأملات على هامش الحرب

عن المسافة بين دمشق وغزة، أو في بكائية الدكتاتور

Sinan Hussein, Isolation of the universe, Mixed media on canvas 130 x 130 cm

عبدالله البياري

كاتب وباحث من فلسطين

فالمقاومة أصبحت ضمن بلاغة هذا الخطاب وبمنطقه أولوية على حرية الإنسان، والديمقراطية، وبناء دولة حقوق، بل أصبح سجن صيدنايا وتدمر وعدرا، وفرع فلسطين وتقارير التجسس على المواطنين وغيرها، ضرورات لحماية المقاومة والممانعة وتبريرها.

للكاتب/ة

إن هذا الخطاب يتعامى عن اليومي المعيش لشعوب المنطقة وتواجهاتها وتاريخها في ما يتعلق بفكرة المقاومة والتكوين الاجتماعي لها، ويقضي بمأسسة حصرية لها لتكون فاعلة،

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

10/12/2024

تصوير: اسماء الغول

عبدالله البياري

كاتب وباحث من فلسطين

عبدالله البياري

ما معنى أن يُقال أمام طفل ذي ثلاثة أعوام، وهو يهم أن يخرج من الأسر الذي وُلد فيه ولم يرَ غيره، في سجون الأسد الجزار، فلا هو يعرف ما هي الشجرة ولا العصفور؛ إذ لم يرَ شمسًا يومًا: بئسًا لحريتك التي أتت برسن أمريكي، وحراك خليجي "إخواني"، وترتيبات عثمانية، وتخطيط صهيوني؛ فلتعد إلى محبسك أنت وأمك، فنحن لم نصحح أوضاع اليسار الماركسي العربي بعد، وفي خروجك الآن هزيمتنا! (مقتبس بتهذيب عن طرح أكاديمي مصري في شأن التطورات في سوريا!)

فلنتفق قبل كل شيء أن توقيت الحدث ومساره وبنيته هي أجزاء لا تتجزأ من الجبهة الاستعمارية والغربية لحظة الإبادة الجارية الآن في غزة. يكفي تدليلًا على ذلك نسبة حضور الحرب على شاشاتنا الإخبارية العربية. وأن هذا الحدث هو جزء أساسي من هجمة عنيفة تهدف لمحو أي حاضنة اجتماعية للمقاومة، لا تقل وطأة في أثرها عن احتلال العراق بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، أو الخطاب الرسمي العربي المطبّع منذ اتفاق السادات – بيغن، وميل عرفات المكتوم لشبيه له. 

لكن هل يكفي هذا الأمر وهذه الدينامية لفهم المشهد؟ وبالذات مشهد الطفل بما هو استعارة شارحة لمدى تغلغل القمع والاستبداد النظامي السوري على مدى عقود في الحياة اليومية، وفي أجساد السوريين والسوريات، بما لا يقل فداحة وجرائمية عن الإبادة الإسرائيلية في غزة، مما كشفته مشاهد ما بعد هروب الدكتاتور.

تقوم هذه النظرة على موضوعية مدّعاة بشأن المواجهة في الحرب مع الاحتلال، وبالذات إذا نظرنا إلى الدور الإسنادي اللوجستي لكل من لبنان والعراق واليمن في هذه الحرب، باعتبار سوريا هي حلقة الوصل الجيو-استراتيجية الأساسية، وهو ما كان يلعب عليه النظام للمناورة إقليميًا (لا يعني هذا أي إشارة لدور مقاوم للنظام السوري!).

ولفهم دينامية الأمور نحيل إلى مفهوم السيادة بما هو المفهوم الأساسي المستهدف منذ عقود، فتآكل الطبقة الوسطى في بلادنا، وطمس مساحات التفاوض والفاعلية السياسية والثقافية لها، مع تآكل الفضاء العام في مدننا العربية، ومن ثم  التحكّم في خياراتها المتاحة ضمن أشكال استهلاكية حصرًا، عن طريق تمويلات مشبوهة باسم الثقافة والفنون (ما يحدث في العربية السعودية، وامتصاصها للكثير من الفنانين والمثقفين والعاملين في القطاع الثقافي العربي هو فقط نموذج حديث). يحدث ذلك في الوقت نفسه الذي تخطّت فيه الشعوب العربية أزمة وجود قواعد أمريكية في المنطقة إلى اعتيادية طرح بعض الملوك والأمراء والرؤساء لاتفاقيات "دفاع مشترك" مع إسرائيل والغرب! تأتي هذه الحرب فتفجر مشكلة الثنائيات الحداثية الغربية التي تعايشت فيها كل هذه الأضداد: بين استطلاعات للرأي العربية بشأن العلاقة مع دولة الاحتلال تكشف رفضًا شعبيًا عربيًا، وحكومات وأنظمة تصدح بموالاة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، بكل أشكال الموالاة الاستفزازية، والتزلف الرخيص للإسرائيلي! (في لبنان مثلًا يكون الخيار بأن يعيش اللبنانيون واللبنانيات رهينة الدعم الخليجي في مقابل تنازلهم عن احتضان المقاومة، وإلّا فإسرائيل هي الحل المطروح من خلال بعض الفصائل والأحزاب والتيارات اللبنانية التي هي من الجدب أنها لم تتعلم منذ الحرب الأهلية على الأقل أي شيء في تماهيها مع المحتل ومباركتها للحرب على بلادها!).

تمتد هذه الثنائيات الجدباء على مستوى المخيال لتصل إلى تقسيمات الإقليم جيو–استراتيجيًا، بشكل متطرف. فعلى طرف نجد دول الطوق حول إسرائيل مأزومة، بين دكتاتوريات وحكم جنرالات، وتبعية اقتصادية لمنح الخليج والغرب، المالية والبترولية، دول تنهار فيها مؤسساتها بين الإفلاس ومحاصصة مدمرة، عششت في العقول، ودولة دكتاتورها يبني سجونًا هي مسالخ تحت الأرض، وغرف استجواب أسماها فلسطين، ليقصف شعبه بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية قبل أن يبدأ خطابه عن المقاومة والممانعة. وعلى الطرف الآخر، دول خليجية تحتكر ثروات لا حدود لها، لا بالمعنى الكمي فقط، إنما بالمعنى القيمي أيضًا، تذروها في الرياح ابتغاء متع لا معنى لها، في طقوس مهيبة من السفه والابتذال!

بالنظر إلى هذه الثنائية الحادة، فإن المشكلة الأساسية في الخطاب الذي ينظر إلى ما يحدث في الإقليم على أنه مواجهة محاور، أنه يتقاطع مع الخطاب الإسرائيلي الذي يقوم على طمس شعوب المنطقة وإرادتها وتاريخها المقاوم وفعلها اليومي؛ فتصبح المقاومة الفلسطينية هي إيران، وكذلك اليمنية -قفزًا فوق عروبتهم وتاريخهم العسكري ومواجهتهم للسعوديين والأمريكان والغرب في الحرب لأجل اليمن-، والعراق لا عراقيون فيه، إنما هم إيرانيون فقط، وبالضرورة يكون حزب الله هو الحرس الثوري الإيراني في المنطقة. إن هذا الخطاب، الذي يستدعي بلاغية نتنياهو حرفيًا، لا يمكنه النظر إلى ذاك الطفل السوري إلا بأن يراه عميلًا للأمريكان والصهاينة والبترودولار والأتراك وغيرهم، سواء أكان ذلك بعلمه أم لم يكن! (هكذا تكلم الأكاديمي المصري!). 

إن هذا الخطاب يتعامى عن اليومي المعيش لشعوب المنطقة وتواجهاتها وتاريخها في ما يتعلق بفكرة المقاومة والتكوين الاجتماعي لها، ويقضي بمأسسة حصرية لها لتكون فاعلة، وكأن المأسسة هي الأصل في المقاومة وليس الحاضنة الاجتماعية اليومية لشعوب المنطقة. يميل هذا المنطق ميلًا حداثيًا لفهم الأمور والمجريات من خلال الاستعارة الأساسية للحداثة، وهي العلوم السياسية ونظرية العلاقات الدولية، وتلك أزمة أصابت التاريخ والتأريخ في هذا الجزء من العالم (بما هو جزء من الجغرافيا الاستعمارية)، دون أن يعي أن تلك العلوم هي أولى أدوات الاستعمار لطمس الشعوب وأصواتها.

المشكلة ليست فقط في استبطان المنطق الحداثي لفهم كل -وأي- فاعلية اجتماعية أرضية لتكوين المجال الاجتماعي الخارج أو المستقل عن الدولة (لصالح المقاومة أو غيرها)، لفهم أحداث وحراكات تحدث بالضرورة وبمنطق عملها كمقاومة ضد الحداثة وآلياتها الاستعمارية والرأسمالية، إذ مرر النظام السوري هذا كله من خلال أمرين اثنين: الأول هو مقولات المقاومة والممانعة، فأصبح حصار مخيم اليرموك جزءًا لدى أصحاب هذا الخطاب من ضرورات المقاومة والممانعة، وله في ذلك مبرراته؛ والثاني، تمرير تحالفات مع اليمين -وحتى البترودولار- لضمان علاقات براغماتية مع القوى الجيو-استراتيجية في الإقليم، منها بعض الدول الخليجية.

فالمقاومة أصبحت ضمن بلاغة هذا الخطاب وبمنطقه أولوية على حرية الإنسان، والديمقراطية، وبناء دولة حقوق، بل أصبح سجن صيدنايا وتدمر وعدرا، وفرع فلسطين وتقارير التجسس على المواطنين وغيرها، ضرورات لحماية المقاومة والممانعة وتبريرها. وعليه، فإن خروج هذا الطفل ذي الأعوام الثلاثة من السجن هو تهديد لكل المقاومة والممانعة. إن الفرح بسقوط نظام الأسد، هو بذاته فعل مقاوم، يقوم على رفض ثنائياته التي مررها لنا في العقود الماضية، وبنى نفسه في المخيال والخطاب عليها. إن سقوط الأقنعة -حتى الأكاديمية منها- عن تلك الوجوه القبيحة، إنما هو جزء من تنقية المشهد الذي عطبه نظام الأسد لعقود، سمحت له بتنفيذ جرائمه باسم المقاومة والممانعة، والأهم أنها حولت البعض إلى وحوش ومسوخ لا مانع لديهم لحبس طفل لا ذنب له سوى أنه وُلد على بعد كيلومترات فقط من فلسطين المحتلة، مرتين!

هوامش

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع