وديع سعادة شريد أقداره. تنقّل بين المنافي، من بيروت إلى أوروبا، حتى صارت الأرض كلها منفى. هاجرت قصيدته معه، من التشردّ في المدن، حيث المشاهد الرقيقة والقاسية للحياة اليومية، إلى التشرّد داخل جسده، حيث يتأمّل نفسه ليتأمّل العالم كوهمين متقابلين لا شفاء منهما. ربما الشعر هو هذا السفر المستمرّ بين الحواسّ والذكريات، لكنه كأسفار الحالمين بلا طريق. كمعظم الشعراء الجوّالين الذين تنتظرهم طفولتهم في المستقبل، بنى وديع سعادة من طفولته بيتاً وأسكنه روحَه، تاركاً العقل على العتبة كالحارس في الحكايات الخرافية. قصيدته بيتٌ مفتوح، يستضيف فيه حيوانات جبل لبنان وزهوره وحشراته، المجانين والمشرّدين والغجر، وأهله الراحلين، وأصدقاءه الشعراء الموتى والأحياء، والأرض بأكملها. سكن الشاعر هذا البيت الوهمي حتى اختفى فيه، متوارياً يُعيد اللغة إلى سذاجة الأسئلة الأولى، غير أنّ نظرته نظرةُ مَن يعي أنّ كلَّ ما يراه لن يراه مرة أخرى أبداً. العودة وهم آخر، وكلُّ ما يُكتب هدية جميلة إلى غياب الذين أحبّهم. إنه يستعيد، في ذلك الخفاء الواسع، بعضاً مما كان ثم اختفى. لحظة خسرانه مركّبة، ففيها تتلاقى الخفّة والغبطة والأسى- الأسى لأن النهاية وشيكة دوماً والوداع لا ينتهي، الغبطة لأن النهاية حلّت أخيراً وأراحته من أحمال الماضي ومخاوفه وغضبه ولذّاته، الخفّة لأن الشاعر لا يملك شيئاً حتى الكلمة التي يكتبها. كلمته حقّ الموتى عليه، وأحدهم أبوه:
“كان أبي في الحرب يبحث في البراري عن عظمة، ليطحنها بحجر ويسدّ جوعه. من نسل تلك العظام المطحونة خرج أطفالٌ كنتُ واحداً منهم. كنتُ ابن عظمةٍ مطحونة”.
نشر هذا النص باللغة الإنكليزية ضمن كتاب المختارات الشعرية للشاعر اللبناني وديع سعادة، الصادر حديثاً في لندن.