هكذا تنتعش الرؤى
في ذاكرتي الضبابية
بالقوة السحرية للأغاني
مرة عن الأيام الجميلة، ومرة عن الحزينة
في البلاد التي طويلاً طويلاً
لم يصمت بها دوي المعارك الرهيب.
لكن السعادة مقودة حتى بينكم
يا أبناء الطبيعة التعساء
فتحت الخيام الممزقة
تعيش أحلامكم المعذبة
وظلالكم المرتحلة في البراري
لم تسنتفد من المصائب
ففي كل مكان أهوال محتومة
وليس من دافع للقدر.
يكاد يخلو ديوان القصائد الشرقية، ألكسندر بوشكين، من أي ذكر لموضوعة الموسيقى أو الغناء، باستثناء هذه الخاتمة. رغم أن هذا الديوان ألهم أحد أبرز المشاريع التواصل الثقافي والإبداعي في منطقة الشرق الأوسط، على يد المفكر إدوارد سعيد وقائد الأوركسترا دانييل بارنبيوم، ليؤسسا معهد سعيد وبارنبويم للتعليم الموسيقي. كان لقاؤهما في التسعينيات، وتحديدًا 1994، لكن المشروع لم يرى النور حتى عام 2004. إن اكتشاف ألبوم الموسيقية والمدمجة ( Noise Diva) الذي يحمل عنوان (To Be Is Palestine -) والذي يصنف من نوع ال DOWN TEMPO الإلكتروني، الخالص الموسيقية، قادني إلى التساؤل عن تجارب موسيقية خالصة، حتى قبل الموسيقى الإلكترونية في التعبير عن القضية الفلسطينية. هل هناك مؤلفات كلاسيكية أو مقطوعات موسيقى عربية ترسخ في الذاكرة باعتبارها موسيقى قضية سياسية أو اجتماعية؟ كان لا بد من البحث عن إنتاجات إبداعية لمشروع سعيد-بارنبويم مثلاً. وعلى أي حال، لم يتولد عنها مقطوعات أو مؤلفات موسيقية، بل عزفت الأوركسترا أعمال موسيقية عالمية، وما زالت تقدم عروضها بموسيقيين من الشرق الأوسط في أماكن متفرقة من العالم، دون أن تؤلف مقطوعاتها الخاصة. في المشهد الأخير من الفيلم الملحمي نظرة يوليسيس (1995)، للمخرج اليوناني تيو أنجوبوليس، والذي يروي على طول ساعاته الأربع تجربة شخصية معاصرة شبيهة بأولسيسي، تنتقل في أوروبا الشرقية خلال فترة الحروب الألبانية، بين بلغاريا وصربيا وألبانيا، بحثاً عن شريط سينمائي تاريخي يوثق اللقطات الأولى المصورة بالكاميرا في أوروبا الشرقية. تنتهي رحلة البحث عن الشريط السينمائي في سراييفو، حيث العنف السائد والبرد الذي يهطل ثلجاً، والذي ينهي الفيلم مع مشهد لفرقة موسيقية تعزف للسكان من أجل السلام، بينما القصف والعنف يسود في المدينة. إنها الفرقة التي أسسها سعيد وبارنبويم، نقلت قدرات الموسيقى التواصلية التي آمنا بها إلى منطقة صراع حضاري أخرى، وعبر الوسيط السينمائي.
هكذا تسهم مقطوعات مثل التي تقدمها NOISE DIVA في فتح الأفق التعبيري الجديد بتوظيف تقنيات الموسيقى الإلكترونية، وهذا ما يعتبره المترجم والناقد فواز طرابلسي جوهر الكتاب الأخير الذي تركه إدوارد سعيد عن الموسيقى، بعنوان: عن الأسلوب المتأخر، موسيقى وأدب عكس التيار، وترجمه فواز طرابلسي. وقد كتب عنه بعد عامين في مقالة تحليلية: "من الأوبرا إلى العزف، مع عازف البيانو الأميركي اللامع غلين غولد، «العازف المثقف»، على حد تعبير سعيد، الذي يشكل عزفه النقيض من العزف الموسيقي الاستهلاكي، ليس يؤدي القطعة الموسيقية تأدية، يحلل النص الموسيقي تحليلاً. ويذكّر أسلوب غلين غولد المعاصر سعيد بالفيلسوف والمؤرخ الإيطالي جيانباتيستا فيكو (وفاته 1744) في مفهومه عن «الابتكار». والابتكار هنا هو «العثور على تِيمة وتطويرها على نحو طِباقي بحيث يمكن إحياء كل ما تنطوي عليه من إمكانات ضامرة والتعبير عنها وتطويرها". تظهر الموسيقى الداون تمبو Downtempo طباقية بشكل مثالي، بحيث تُركّب البنية اللحنية الأولية التي تستمر في تكويناتها المتتالية. يتابع طرابلسي مؤكداً على فكرة البناء المعرفي الإبداعي التي تسمح بتوظيف الوسائط الجديدة: "الفكرة القائلة إن إثبات حقيقة لا بد أن يكون بواسطة الإبداع والابتكار، لا من خلال مجرد المعاينة. الحقيقي هو ما يُصنَع تصنيعاً. هكذا تنفتح العملية المعرفية على الاحتمال والظرفي والاكتشافي. أي على البناء المعرفي، أي «القدرة على النظر إلى التاريخ البشري على أنه من صنع القدرة المتفتحة لعقل الإنسان العامل". هذا ما يمكن التأكد منه عن متابعة حضور قضية فلسطين في موسيقى التكنو المطلقة القائمة على التركيب البنيوي اللانهائي1 فواز طرابلسي، "إدوارد سعيد في الأسلوب المتأخر، الوقاحة بما هي منهج فكري"، مجلة بدايات، العدد 7 (شتاء 2014).".
To Be Is Palestine - Noise Diva ft Krampfhaft
بنقرات إلكترونية متتالية مع أرضية لحنية تبدأ الثواني الأولى من المقطوعة، ثم ما يلبث أن يصعد إلى الأذن صوت حديث إنساني، ثم يتكشف على أنه حوار ثنائي.
يقول الصوت الأول: ألم تبرهن الحروب الأهلية على عبثيتها؟
يجيب الصوت الثاني بنبرة منفعلة: إنها ليست حرب أهلية، بل ناس تدافع عن نفسها أمام حكومة فاشية. إنها ليست حرب أهلية.
صوت الأول: أقصد صراع.
الصوت الثاني: لا بل حركة تحرر لأجل العدالة.
الصوت الأول: مهما يكن، هنا تماماً محور القصة، إن الناس تدافع عن حقوقها.
يعاد هنا الاهتمام إلى الجانب الموسيقي، تنطلق بقوة ونوع من الغضب موسيقى الداون تمبو الإيقاعية. يثبت اللحن في مستويات ثلاثة، لينطلق صوت المحاور من جديد: ليس حواراً لأجل السلام، بل حوار السيف والعنق.
الصوت الأول: لماذا ببساطة لا نوقف القتال، إن من المعروف أن الصراع لا يسبب إلا اليأس والألم.
يفتح اللحن الموسيقي هنا مستوى جديد من الرنين، تتكثف زخرفات اللحن الإيقاعي. وعندما يتكرر الحديث عن ضرورة توقف الصراع، يظهر اللحن الموسيقي هنا لأول مرة كجواب على الحوار، يعلو على الرأي المكرور.
الصوت الثاني: لابد أن الناس حين تقاتل، يدفعها سبب ما.
اللحن هنا يقف ليفتح أصوات هادئة متلألئة.
إن الحوار الذي تمزجه الموسيقية مع مقطوعتها يعود إلى الكاتب غسان كنفاني وأحد أشهر المذيعين البريطانيين في تلك الفترة، ريتشارد كارلتون. هذه الوثيقة الصوتية التي تعود إلى عام 1970، حققت انطلاقة جديدة في التاريخ السماعي بمزجها مع مقطوعة DOWNTEMPO، من إنتاج العام 2024.
الحوار:
التراك الثاني بعنوان Rubble - Noise Diva ft Krampfhaft
أنقاض تراك أقل لحنية، عبارة عن أصوات إلكترونية متواترة بانتظام، تذكر بالموسيقى Music Concrete في بداية الموسيقى المسجلة من الآلات، يظهر على هذه الأرضية صوت رجل يوجه رسالة/ خطاب، يمكن اعتباره خطاب المنطق الثوري، يخاطب عدواً ليبرهن له أن الاعتقاد بإمكانية إلغاء شعب أمر وهم. التواتر السمعي للإشارات التي تشبه إرسالات الراديو، ولكنها بدأت تصبح غاضبة، أكثر كثافة، وأكثر سيطرة على أذن المتلقي. مجدداً يظهر صوت الخطيب: إن النظر إلى الماضي والتاريخ والحاضر يؤكد على ذلك. وهنا يصبح تواتر الأصوات الموسيقية موحياً بالإزعاج، بالخطر، أو يعبر عما لم يتمكن المستمع من اكتشافه بعد. مع الدقيقة الأخيرة، يتصاعد مستوى الموسيقى إلى حدوده الأخيرة، بينما يظهر من بعيد صوت إنساني تحت كل هذه الإلكترونيات، إنها صوت الفجيعة المتصاعدة يا غزة. لينتهي التراك مع تبين مقدار الألم المخفي تحت الكتلة الموسيقية.
النوع الغنائي والنوع الموسيقي في التعبير السياسي
إن النوع الغنائي هو الأكثر حضوراً من نظيره، المقطوعات الموسيقية، في مجال التعبير عن القضايا والنضالات الإنسانية أو السياسية، فنادراً ما يمكن أن ترتبط مقطوعة موسيقية صامتة بحدث تاريخي، كما أن ضرورة التعبير عن القمع أو الظلم أو أي أنواع المطالبة تتطلب حضور الكملة - التعبير – القضية. رغم أن المؤلفات الموسيقية من الموسيقى الخالصة تمكنت في بعض الحالات من ابتكار التقنيات أو الأساليب التي تسمح لها بالارتباط بقضايا، كما في موسيقى كنان العظمة، ونيسم جلال، ومالك جندلي، في ارتباطها بالأحداث السياسية والثورية السورية، وذلك عبر وسائل محددة هي: العنوان، ربط الموسيقى بكليب مصور، عزف اللحن الموسيقي المجرد لأغنية أو هتاف ثوري. ودون أن نعود إلى الموسيقى الكلاسيكية، فإن نوع التأليف الغنائي هو الذي ارتبط بالنضال الفلسطيني، دون نسيان العمل الغاية في الأهمية في الحفاظ على المقطوعات الموسيقية التراثية الفلكلورية، وهو المشروع الأكبر موسيقياً في انهماك المبدعين/ات الفلسطينيين.
لذلك، فإن الموسيقى الإلكترونية، تخلق احتمالات جديدة في التعبير عن القضية وموضوعاتها، وبطريقة جديدة لم تكن موجودة سابقاً، فالمزج (Mix) بين الأصوات المسجلة والموسيقى المؤلفة، تجربة لم تعرفها الابتكارات الموسيقية سابقاً في التاريخ، وأصبحت تسمح بها الآلات والأنواع الموسيقية المعاصرة، كما في مقطوعة تراك To Be Is Palestine - Noise Diva ft Krampfhaft. فإنها كما كتب إدوارد سعيد، تفتح الاحتمالات على تعبير جديد مبني على التركيب الأساسي، لكن المتوالد، باستمرار.
تشكل المؤلفات الموسيقية لمارسيل خليفة (16 استديو ألبوم) من وعود في العاصفة (1976) وحتى كونشرتو الأندلس (2016)، إضافة إلى ألبومين أساسيين من الحفلات الحية: ألبوم رقص (1955)وبساط الريح (1998) مادة نموذجية لاكتشاف المهمة الإبداعية، النضالية، والقومية التي واجهها الفن الموسيقي الفلسطيني منذ السبعينيات من القرن العشرين وحتى اليوم. إن ألبومات مارسيل خليفة تنقسم إلى تلك الغنائية، كما في البدايات مع فرقة الميادين (وعود من العاصفة، الجسر، مع الجمهور، 1976-1983) وكذلك غنائية أحمد العربي (1984)، ,وركوة عرب، وعالحدود، تصبحون على وطن. وهناك الألبومات التي تتضمن أغاني، لكن أيضاً مقطوعات موسيقية (ألبوم سقوط القمر، 2012) يتضمن خمسة مقطوعات موسيقية (سرير الغريبة، جاهرا، قيثارتان، فالس لشتاء ريتا). وهناك الألبومات من الموسيقى الخالصة، لكنها ألحان أغان يوزعها مجدداً.
وألبومات موسيقية خالصة لموسيقى فلكلورية مثل (ألبوم رقص، 1995)، حيث عناوين المقطوعات توثق الطقوس الاجتماعية: رقصة العروس، قصيدة إلى الأرض، إلهام، سلام إلى العمال، الخريف، رقصة الغجر. يماثله الألبوم التالي في عام 1998، بساط الريح: من عناوين مقطوعاته: رقصة المحارم، رقصة الكاهنات، وغيرها. وهناك الألبومات الموسيقية الخالصة والتي تحمل عناوينها مصطلحات تقنية خاصة في الموسيقى، مثل ألبوم جدل: الحركة 1 + 2، وألبوم مداعبة: بيات. بالتالي، فإن الموسيقى الخالصة تأتي في إطار المقطوعات الفلكلورية، الطقوس الاجتماعية، أو ألحان لأغانٍ، أو ذات طابع تقني موسيقي.
تعيد المؤلفات الموسيقية أو الغنائية اليوم التصنيف النوعي والوظيفي. يمكن تلمس تجربة أغاني مارسيل خليفة معاصرة، من حيث المضمون الوطني والقومي، وكذلك على مستوى الشكل الموسيقي في تجربة الفنان (محمد عساف)، وهو الفنان الأكثر شعبية في الفترة المعاصرة في فلسطين. وتمثل الأغاني التي أُلّفت خصيصاً للفيلم المتعلق بمسيرته الفنية (يا طير الطاير، إخراج هاني أبو أسعد، 2015)، نذكر منها:
شدي حيلك يا بلد، غناء خليل أبو نقولا.
يا وطني، غناء محمد عساف، حبيب شحادة.
مهما صار، محمد العساف حبيب شحادة.
يا طير الطاير، محمد العساف،
يا بلد، محمد العساف، حبيب شحادة.
من لما طار العصفور.
أما تجربة التعبير الموسيقي الخالص فتعيد ابتكار وظيفتها التعبيرية في ألبوم دار، للموسيقية نويز ديفا (2024)، وهو يتألف من أربع مقطوعات:
أمل، 4 د
بحر غزة، 4د
اتجاه، 6 د
الدار، 5د
وهي كلها على إيقاع تصويري حالم، يرسم عالم من الحنين والحلم في الآن عينه، ويعبر عن علاقة الذات بالدار، أو يقترح على المستمع حالة شعورية وحسية عند التفكير بالدار. وتتميز المقطوعة الثانية بعنوان (بحر غزة)، وهي التراك الوحيد الذي يحمل إشارة أو اسم مكان، يخرج الألبوم من الطفو الهائم إلى المدينة المحملة اليوم بالشحنة التاريخية والإنسانية، المأساوية والفنية في الآن عينه.
هوامش
- 1فواز طرابلسي، "إدوارد سعيد في الأسلوب المتأخر، الوقاحة بما هي منهج فكري"، مجلة بدايات، العدد 7 (شتاء 2014).