بعد مرور أكثر من عام على الحرب الإسرائيلية على غزة، ربما لاحظ كثيرون تحولاً عميقاً في الطريقة التي نتحدث ونعبر بها عن الحرب، حيث أصبحت مصطلحات مثل إبادة، تهجير، صمود، جزءاً لا يتجزأ من مفرداتنا اليومية. اللغة لا تنقل أخبار الحرب فقط، بل تتشابك مع عواطف وتصورات الضحايا، وتؤطر فهمنا لها وللسردية التي نختار تبنيها. تخلق مصطلحات الحرب معركة لغوية، حيث تقلل مصطلحات كل جانب إنسانية الطرف الآخر، ما يجعل حجم التعاطف والتضامن مع هذا الطرف أو ذاك ضحية لاختيار كلماتهم. بشكل عام، تؤدي لغة الحرب دوراً مزدوجاً؛ فهي تصبح سلاحاً عندما تستخدم لتطهير العنف وإخفاء أهوال الحرب والوحشية بمصطلحات تحجب تأثيرها الكامل، أو تُجهل الطرف المسؤول عنها، ومن ناحية أخرى، تصبح اللغة ضحية نفسها عندما تستخدم لتبرير المعاناة والخسارة من خلال تأطيرها على أنها بطولية أو مصيرية. في سياق الحرب على غزة، يصبح هذا الاستخدام للغة مهمًا بشكل خاص، لأن اللغة تستطيع الكشف عن التداعيات طويلة المدى للحرب على غزة أو ببساطة إخفاءها.
أمن: حرية؟
قد تكون أكثر الجوانب إثارة للرعب في لغة الحرب هو قدرتها على تطهير/ تعقيم العنف Sanitization of violence وإخفاء حجم الخسارة أو تقليصها لمجرد إحصائيات وأضرار جانبية، ونزع الصفة الشخصية عن الخسائر البشرية من خلال استخدام Passive voice، بغرض تجهيل مسؤولية طرف معين. في غزة، حيث تمحى أسر بأكملها في قصف واحد، فإن مثل هذه اللغة “المعقمة” تقلل من الألم والمعاناة التي يعيشها الناجون، وتجعل المأساة والعنف مبررين، أو نتيجة ثانوية للصراع. وكما يشير جون دونيلي، رئيس جمعية المراسلين والمحررين العسكريين في الولايات المتحدة في مقابلة مع موقع Mother Jones، فإن مصطلحات مثل “أضرار جانبية” صيغت بعناية “لتوفير طريقة معقمة لوصف الجثث المشوهة والميتة”. مثال آخر على كيفية استخدام اللغة لتطهير العنف، هو استخدام مصطلح “المدنيين الأبرياء” التي تحدد حماية المدنيين بشرط “براءتهم”. هذه الصياغة قد تعمل على تبرير الأذى للمدنيين الذين لا يستوفون عتبة “البراءة”، ما يحجب المبدأ الأساسي القائل بأن المدنيين، بحكم وضعهم وحده كأشخاص غير مقاتلين، لديهم الحق في الحماية من جميع أشكال العنف، بما في ذلك التعذيب والقتل. وعليه، يعمل هذا التمييز على تبرير العنف بشكل انتقائي، وتقسيم المدنيين ضمناً إلى أولئك الذين يستحقون الحماية، وأولئك الذين يمكن اعتبارهم ضمن الأهداف العسكرية.
بجانب دورها في تشكيل من يستحق التعاطف والحماية، تلعب اللغة في الحرب دوراً مهماً في خلق روايات وقيمٍ متناقضة للواقع نفسه. توضح مصطلحات مثل “الحرية” والأمن” هذه الثنائية، حيث يُستخدم كل مصطلح لبناء سردية تضع قيمة أساسية ضد أخرى. بالنسبة للفلسطينيين، تشكّل “الحرية” الحق بتقرير المصير السياسي ونهاية الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم، واستعادة القدرة على التحكم بتفاصيل حياتهم، وبناء مؤسساتهم وإدارة مواردهم، والتعبير عن هويتهم التاريخية والثقافية، وملاحقة الفرض والأحلام التي تتجاوز مجرد البقاء والتمتع بحقوق مواطنة كاملة غير منقوصة. تشكّل “الحرية” هدفاً متشابكاً مع النضالات اليومية للبقاء والنضال في ظلّ الحصار والاحتلال والعنف والتهجير والقمع. في المقابل، يشكل مفهوم “الأمن” الهاجس الأكبر بالنسبة للإسرائيليين، ويستخدم لتبرير الأعمال العسكرية وتطبيق العديد من السياسات والتدابير والأعمال العسكرية العنيفة و”غير المتناسبة” ضد الفلسطينيين. عندما توضع هذه المصطلحات ضدّ بعضها البعض، فإن كل منها يوحي بشرعية أخلاقية وسياسية. هذا التقسيم اللغوي يبرر العنف من خلال جعل حرية أحد الجانبين تبدو غير متوافقة مع أمن الطرف الآخر. فمصطلحات مثل “مقاومة” و”إرهاب”، تعمل ضمن السياق ذاته، وكل منهما يحمل في طياته مضامين أخلاقية مختلفة. بالنسبة للفلسطينيين، ينظر إلى “المقاومة” باعتبارها استجابة مشروعة، بل وضرورية، ضد الاحتلال العسكري وسياسات الفصل والقمع. وهذا لا يشكّل النضال المسلّح فقط، بل أعمال الصمود المجتمعي والمقاطعة والتضامن. أما في الخطاب الإسرائيلي، فتؤطر “المقاومة” كمرادفة للإرهاب، وهي تسمية تحمل دلالات كبيرة وتتطلب بالعادة رداً عنيفاً، سواء خوفاً من اتساع التطرف والفوضى، أو لأنها تشكل تهديداً وجودياً لا بد من تحييده. لا يصف إطار اللغة هذا أهدافاً وقيماً منفصلة، بل يضعها في تناقض واضح، باعتبار أن حقوق كل طرف لا يمكن الدفاع عنها إلا على حساب الطرف الآخر، وهي صياغة لغوية تعزز منظور سياسي محصلته صفر، فالحل الوسط يبدو غير قابل للتحقيق، لأن السعي وراء هدف واحد (الأمن/ الإرهاب) سيعمل بالضرورة على تقويض الآخر بشكل مباشر (المقاومة/ الحرية).
حرب: إبادة؟
تعيد الحرب إذاً صياغة اللغة المحيطة بها ومصطلحاتها من خلال تشويه الواقع وتجريده. حتى أن مصطلح الحرب نفسه يمكن أن يصبح مضللاً. عادة ما يشير مصطلح “الحرب” إلى صراع بين مجموعات سياسية ينطوي على أعمال عدائية طويلة الأمد وذات حجم كبير، وغالباً ما يقتصر استخدام هذا المصطلح للأعمال العدائية التي تكون فيها المجموعات المتنافسة متساوية في القوة. نظراً إلى عدم التكافؤ الكبير بين طرفي الصراع في الحالة غزة –دولة عسكرية قوية أمام سكان محاصرين ومقيدين ضمن وسائل دفاع أو مقاومة محدودة – والتكلفة البشرية الهائلة ومستويات الدمار غير المسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، والاستهداف واسع النطاق للبنية التحتية المدنية، فوصف ما يجري بـ “حرب” قد لا ينقل الحقيقة كلها. فالإشارة إلى ما يجري باعتباره “حرباً” بين إسرائيل وحماس Israel-Hamas war أو بين إسرائيل وغزة Israel-Gaza war، يقلل من فرق القوة والدعم بين الطرفين، ويُشرعن العنف باعتباره نتيجة متوقعة لمثل هذا الصراع. ولكن عندما يتحول الحديث إلى مصطلح مثل “إبادة جماعية”، تظهر رواية مختلفة، ويمكن أن تقدم صورة أوضح لأنماط العنف الهائل التي سُجّلت في غزة، حيث مُحيَ شكل حياة كاملة، فـ “غزة كما نعرفها لم تعد موجودة”، كما يقول أموس جولدبرج، المؤرخ المتخصص في الهولوكوست، في مقابلة مع صحيفة لوموند.
“الإبادة الجماعية” واحد من أكثر المصطلحات المشحونة في قاموس الحروب، فهو يستحضر الفظائع التاريخية والرعب المرافق للقتل الجماعي والتدمير المتعمد لشعب ما، ويحمل ثقِلًا أخلاقياً، لأنه يطالب العالم بالنظر إلى الصراع ليس باعتباره عنفاً معزولاً، بل كمحاولة محو استعماري ممنهج. وهو مصطلح يفرض التزاماً أخلاقياً بالمساءلة والإدانة الدولية والمطالبات بالتدخل. بالنسبة لكثيرين، فإن استخدام مصطلح “إبادة جماعية” (حتى قبل الاعتراف الرسمي بهذا التوصيف من قبل محكمة العدل الدولية) هو محاولة متعمدة لمقاومة اللغة المُعقمة التي تقوم بحجب النطاق الكامل للعنف أو تقليله، واستبدالها بلغة تكشف الواقع: محو شعب أو أمة و”اقتلاع لماضيها وتقليص لمستقبلها”، كما تصفه نسرين مالك في صحيفة الغارديان.
ولكن لأن مصطلح الإبادة الجماعية “يحمل ثقلاً هائلاً في الوعي والخطاب العام، ويشكل إدانة قوية لوحشية سياسة الدولة الإسرائيلية”، كما يقول أرنستو فيرديجا، أستاذ العلوم السياسية ودراسات السلام في جامعة نوتردام لـ موقع VOX، تتجنب الهيئات الدولية والعديد من وسائل الإعلام استخدامه. على سبيل المثال، عادة ما تصف الأمم المتحدة السياسات العسكرية الإسرائيلية بأنها “انتهاكات خطيرة” للقانون الدولي، أو لقوانين الحرب، أو لحقوق الإنسان. في مايو/ أيار 2024، وصف تقرير صادر عن لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة سياسة إسرائيل في غزة بأنها تمثل أعمالاً “ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية”، حيث أوضح التقرير أن إسرائيل ارتكبت أعمالاً شملت القتل والأذى الجسيم، وفرض ظروف معيشية متعمدة للتسبب في التدمير المادي للفلسطينيين في غزة.
من خلال استخدام “أعمال إبادة جماعية” أو “الإشارة إلى وجود أسباب معقولة لوصفها على هذا النحو”، تؤكد الأمم المتحدة على خطورة الجرائم الإسرائيلية، ولكن دون الثقل الكامل للاتهام والتداعيات القانونية والسياسية لتسميتها بالإبادة الجماعية. ولكن اختيار اللغة في الحرب له تكاليفه كذلك. يمكن للثقل اللغوي الذي تحمله “الإبادة” أن يضخم الأصوات المطالبة بالعدالة ويحشد دعماً عالمياً لإنهاء العنف، ولكن الإفراط في استخدامه قد يخفف من تأثيره وليس العكس. عندما تُستدعى “الإبادة الجماعية” بشكل متكرر، فقد يصبح رعبها طبيعياً، وتفقد تدريجياً قدرتها على إثارة الصدمة واستحضار التعاطف. وفي حين أن مصطلح “الإبادة” قد يقدم شعوراً بالعدالة والشرعية للضحايا، إلّا أن هذا المصطلح يمكن أيضاً أن يخلق إطاراً أخلاقيًا وسياسياً بحيث لا يعد التحرك إلى الأمام كافياً أو ممكناً سياسياً، فثقل المصطلح يديم المرارة ويعمق مشاعر الضحية والعداء والرغبة بالانتقام، وهو ما قد يؤخر عملية التعافي.
شهيد: ضحية؟
لا تنقل اللغة أخبار الحرب فقط، بل تتشابك مع عواطف الضحايا وتصوراتهم، ليس فقط على الأرض، ولكن في عقول الناس وقلوبهم. وكما قد تستخدم اللغة كسلاح في الحروب، قد يحدث أن تصبح اللغة نفسها ضحية عندما تستخدم لتبرير الخسارة والمعاناة، أو إضفاء طابع رومانسي عليها Romanticizing sufferingأو تحويلها إلى فضيلة جماعية. على سبيل المثال، تحمل مصطلحات مثل الشهادة والصمود والصبر ثقلاً ثقافياً وعاطفياً عميقاً في المجتمع الفلسطيني، وهي جزء من المفردات الثقافية للتعامل مع الخسارة. توصيف “شهيد” يؤدي دوراً مهماً في تأطير الخسارة البشرية أيديولوجياً. فعندما يُشار إلى الضحايا في غزة (من المدنيين) على أنهم “شهداء”، تتحول المأساة الشخصية إلى مكسب جماعي لخسارة يمكن ابتلاعها بفخر، وكوسيلة للإبقاء على شعور المرارة “طازجاً” وضرورياً لمقاومة الاحتلال والاستمرار بالصمود. ولكن في حين توفر هذه المصطلحات الراحة ونوع من التضامن الجماعي، إلّا أنها تخاطر كذلك بتطبيع المعاناة من غير قصد.
ففي سياق الحرب الدائرة في غزة، حيث يؤثر العنف المنهجي على كل جانب من جوانب الحياة، ويتعرض المدنيين للقصف المستمر، وتُدمّر أحياء بأكملها، يمكن أن تطمس هذه المصطلحات الخط الفاصل بين التضحية الطوعية والمعاناة القسرية، ويُمحى الفرق بين الذين يختارون التضحية بأنفسهم في سبيل الوطن، وأولئك الذين هم ضحايا عنف ممنهج. عندما يعتبر كل شخص يقتل في الحرب شهيداً –سواء في قصف أو في طوابير للحصول على الطعام أو في أي ظرف مأساوي آخر– تتحول الشهادة من خيار إلى حتمية مأساوية، ويصبح كل من يموت شهيداً، حتى عندما لا يملك الأفراد أي سلطة أو سيطرة على ظروف وفاتهم. بالنسبة للناجين، قد يعطي توصيف الشهادة تكريماً لكل الأرواح المفقودة، ويعكس ثقافة لا تسمح بأن يصبح شعبها مجرد ضحايا سلبيين في صراع تحرر. ولكن هذا التأطير الأيدلوجي قد يخفي الظلم الواضح لخساراتهم من خلال “الإيحاء” بأن لهذا الوفيات جانب بطولي وهادف بدلاً من كونها مآسيَ وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان. وفي السياق المتطرق لـالإبادة الجماعية، تطرح هذه الثنائية أسئلة صعبة: هل يمكن وصف أولئك الذين تعرضوا للقتل والدمار المنهجي والمستهدف شهداء؟ هل الاعتراف بكونهم ضحايا إبادة يقلل من قيمة كونهم شهداء؟ وهل يمكن الجمع بين كونهم شهداء حرية وضحايا عنف؟
هناك عدد من المصطلحات الأخرى التي يستشهد بها كفضيلة ووسيلة لمعالجة الخسارة، ولكنها تخفي أحياناً ظلماً أكبر، مثل: الصمود والصبر والبطولة. بالنسبة للفلسطينيين، فإن الصمود هو مصدر للفخر ووسيلة للحفاظ على الهوية. ولكن مثل مصطلحات المقاومة الأخرى، فإن الصمود يحمل جانباً مظلماً آخر، ويمكن أن يصبح تجميلاً لواقع قاس ومذل، واقع لا ينبغي إجبار أي إنسان على تحمله. لذا فإن تثمين القدرة على التحمل في ظروف قاسية ومستحيلة يمكن أن يخلق ثقافة تنظر إلى المعاناة نفسها على أنها فضيلة، وقد يتحول الصمود وتحمّل الصعوبات وكأنه هو الهدف بحد ذاته، وليس حالة مؤقتة على طريق الحرية.
لغة الحرب غالباً ما تكون مشبعة بمصطلحات “الصبر” والتضحية، التي على الرغم من كونها مريحة في ألفتها، فإنها تحمل ثنائية يمكن أن تعمل أيضاً على صرف الانتباه عن المسؤولية البشرية تجاه هذه المعاناة. من خلال تأطير التكلفة البشرية “كتضحية ضرورية في سبيل التحرر”، أو اعتبار الخسارة والفقد جزءاً من خطة أكبر من أجل الحرية، يمكن أن تنزلق هذه السردية إلى شكل من أشكال القمع، من خلال منع الناس من التشكيك في الظروف والأسباب التي جعلت الصبر والصمود ضروريان في المقام الأول، وطمس الحدود بين ما هو حقاً خارج عن السيطرة وما يقع ضمن الاختيار والوكالة الشخصية. هذا “التشويش” يعمل أحياناً حيلةً لغوية لصرف الانتباه عن مسؤولية الجهات الفاعلة الداخلية وتحويل التركيز بشكل غير مباشر عن الخيارات والأفعال التي ساهمت في إدامة المعاناة.
يمكن للغة أن تُمكّن وأن تضطهد في الوقت نفسه، حتى عندما تهدف إلى التكريم والدعم، فهي قادرة كذلك على تطبيع المعاناة وإدامتها. في غزة، قد يبدأ تفكيك هذه الأطر اللغوية بالاعتراف بأن هذه ليست مجرد حرب، بل محاولة محو، وأن المعاناة ليست قدراً محتومًا ولا قيمة نبيلة، بل هي نتيجة أفعال يمكن منعها أو إدارتها أو التشكيك بقيمتها.