واحدة من أكثر القضايا المثيرة للجدل عبر التاريخ هي مسألة موقف النظرية الماركسية من الدين، ولذلك ربما يكون من المفيد تتبع تطوّر الموقف نظريّاً عبر المؤلفات التي شكّلت بمجملها الأساس الصلب للنظرية الماركسية على يد كارل ماركس وشريك رحلته فريديريك إنجلز.
في البداية، لا بُدّ من القول إن موقف كارل ماركس من الدّين في انطلاقته الأولى جاء امتداداً لموقف فلاسفة عصر التنوير والتيارات الفلسفية المدافعة عن الإنسان، والتي عمرت أوروبا خلال القرنين الثامن والتاسع عشر بما أنتجته من مفاهيم أطاحت من خلالها كلّ القصور الميتافيزيقية واللاهوتية حول المجتمع والإنسان، وذلك رغم مثاليتها وعدم قدرتها على قراءة وتحليل التاريخ والمجتمع بشكل موضوعي.
اعتمد ماركس الشاب في بداياته فلسفة عصر التنوير في فهمه للإنسان والدين، وكانت تلك الفلسفة هي المسيطرة في عصره، وبموازاة ذلك استند إلى الفلسفة الكلاسيكية الألمانية كحقل فلسفي مباشر في تحليل تناقضات الإنسان والحياة الاجتماعية.
ولهذا كان من الطبيعي أن تكون مشكلة الدين «أساسية» لدى ماركس الشاب في بدايات رحلته البحثية والمعرفية، وذلك لكونها كانت المعزوفة اليتيمة والصاخبة لليسار الهيغلي، الذي اختزل كل مشاكل الفلسفة وهموم العالم في مشكلة الدين. وكان الاعتقاد السائد لدى اليسار الهيغلي أن تحرير الوعي من الأوهام كافٍ لتحرير الفرد والمجتمع.
في أطروحته «الفرق في فلسفة الطبيعة عند ديمقريط وأبيقور» انتقد ماركس الدين، وعالجه من منطلق وعي الذات، وقيمة العقل الإنساني، وممّا جاء في هذه الأطروحة: «في بلاد العقل يتوقف وجود الإله» و «الله كائن لأن الفكر ليس إلهاً». بمعنى آخر؛ فقد أشرع ماركس الشاب سيف العقل في وجه الدين على أساس حرية الوعي وحرية العقل وباسم الإنسان الذي يجب أن يحكم نفسه وعالمه دون تدخل خارجي.
وكذلك كان لأسس لودفيغ فيورباخ النظرية، وخصوصاً بعد نشر كتابه الشهير «جوهر المسيحية» تأثيراتها على ماركس. يقول ماركس في مخطوطات 1844: «منذ فينومينولوجيا ومنطق هيجل، فإن كتابات فيورباخ هي الوحيدة التي تضمنت ثورة نظرية حقيقية» وجاء كلامه هذا بعد صدور «جوهر المسيحية» بثلاث سنوات.
كان اهتمام فيورباخ يقتصر إلى حد كبير على مسألة الاغتراب الديني، وكون الأمر كذلك، شيئاً فشيئاً خرج ماركس من عباءة فيورباخ وأخذ منه مقولة الاغتراب، وحاول رصدها في جميع مجالات المجتمع المدني والسياسي. وربما يمكن القول إن كتابات فيورباخ شكّلت النهاية الفعلية للفلسفة الهيجلية لدى ماركس، وكانت بمثابة جسر انتقل من خلاله ماركس من الفلسفة الكلاسيكية الألمانية إلى الفلسفة التي بدأ هو ببنائها والتي دُعيت فيما بعد بالفلسفة الماركسية.
في خطواته اللاحقة وتحديداً منذ العام 1845 ركّز ماركس في نقده للدين على الشروط الاجتماعية والتاريخية، وفي كتابه «نقد فلسفة الحق عند هيجل» - باستثناء المقدمة، لم ينشر الكتاب أثناء حياة ماركس- يقول ماركس في هذا الكتاب عبارته الشهيرة التي كثيراً ما استخدمت بشكل مجتزئ وضمن سياقات غير دقيقة: «الدين هو زفرة المخلوق المعذّب، وروح عالم بلا قلب، إنه فكر عالم يفتقر إلى الفكر، إنّه أفيون الشعوب».. وما قصده ماركس في عبارته هذه ليس الهجوم على الدين من حيث هو دين، بل على الشروط الاجتماعية البائسة التي تنتج الأيديولوجيا الدينية التي تبرر الواقع الموجود، وتدجّن الإنسان في قدرية مهلكة.
النقلة النوعية عند ماركس، تجلّت في كتابه «الأيديولوجية الألمانية». بالعودة إلى الكتاب، نجد أن ماركس قد افتتح صفحاته الأولى بنقد فيورباخ ومفهومه المثالي حول الدين؛ المفهوم الذي بني على أساس أن الدين يجعل الإنسان غريباً عن نفسه. وقدّم ماركس خلال هذا الكتاب مفاهيمه الأكثر نضجاً حول الدّين، والتي أوضحت بأن الدّين انعكاس للواقع الأرضي بتناقضاته الاجتماعية، وأن الإنسان كائن اجتماعي وليس «جوهراً أبدياً»، وأنه ليس هناك جوهر ديني لدى الإنسان، أي بمعنى آخر: ليس هناك «شعور ديني» ملازم للإنسان منذ ولادته.
في كتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» يقول ماركس: «في الإنتاج الاجتماعي لوجودهم، يدخل البشر في علاقات محددة، ضرورية، ومستقلة عن إرادتهم، علاقات إنتاج تتطابق مع درجة تطور محددة لقواهم المنتجة المادية. وتشكل مجموع علاقات الإنتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي الأساس المشخّص الذي يقوم عليه البنيان الفوقي الحقوقي والسياسي الذي توافقه أشكال وعي اجتماعي محددة».
مع هذا الكتاب، بدأ يكتسب مفهوم الدين عند ماركس -بالإضافة للمفاهيم الأخرى- أساسه النظري المادي والعلمي، واتضح من خلاله أن المفهوم المادي للتاريخ لا يرى في الدين كياناً مستقلاً، بل انعكاساً بدرجات متفاوتة للبنيان الاقتصادي للمجتمع، وأن الدين والفكر هما إنتاج اجتماعي يختلف شكله مع تطور الصراع الطبقي ونمط الإنتاج السائد، ولذلك نجد أن نقد الدين الذي أخذ مساحة كبيرة في كتابات ماركس الأولى أخذ بالتراجع مع بداية بزوغ نظرية ماركس العلمية.
في الحقيقة؛ لم يترك مؤسسو النظرية الماركسية نظرية كاملة ومتكاملة حول الدين، بل جملة مقالات وإشارات، وبعد مرحلة الشباب لم يعطِ ماركس إلّا جُملاً عَرضية حول الدين.
إلى هنا يمكن القول إن الأطروحة الرئيسية للماركسية في مجال الدين هي أن الدين ليس تعبيراً عن جوهر الإنسان، بل إفراز اجتماعي لشروط تاريخية؛ يأتي من التاريخ والمجتمع، ينمو ويتطور ويتغير، ويتلاشى في مسار العملية التاريخية.