هرطقات

أغنية العنزة

Monogram, 1955-59, Robert Rauschenberg

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

الأكراد المحذوفون من دستور الجمهورية العربية السورية، الذين سقطوا عمداً من الإحصاء العام سنة 1962، وخافوا مراراً أن يُسمَّد بجثثهم "الهلالُ الخصيب"، كانوا "الأجانب" المحرومين من بطاقات الهوية في أرض أجدادهم، وباتوا الخونة المتواطئين مع الأمريكان، بعدما ظلُّوا الجاحدين وقتاً طويلاً لأنهم تنكّروا لمكرمة حافظ الأسد الذي جعل عيدهم القومي، النوروز في 21 آذار، عطلة وطنية، حتى لو كان قد سمّاها "عيد الأم".

للكاتب/ة

متى ستكفّ هذه الحيوية عن تعنيف الحزانى على كسلهم؟ أين الانتصار ما دامت الرحلة العالمية، العابرة للقارات، مستمرّة من الخراب إلى الخراب، بهذه المواكب الطويلة من الفقراء المُعدَمين والمعاقين والجرحى والمجانين والمفقودين الذين ندخل معهم بوابة المستقبل؟ 

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

25/01/2025

تصوير: اسماء الغول

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

جولان حاجي

مقيم في فرنسا

("أغنية العنزة": المعنى الحرفيّ والغامض لكلمة "تراجيديا" باليونانية القديمة).

 

الكرديّ تحت مظلّة الكليشيه

في كتاب رحلات عنوانه الأصلي "المليون"، دوّنها سجينٌ فرنسي في سجن جنوة، نقلاً عن قصص رواها في القرن الثالث عشر سجينٌ آخر اسمه ماركو بولو، يتحدث الرحالة الإيطالي عن تجارة الموسلين في الموصل. تسمّى هذا النسيج باسم المدينة المشرقية، وعُرِف تجّاره باسم "موسيلليني"، ولكن أحداً آنذاك لم يتنبأ بالطبع أنّ زعيم الفاشية سيكنّى باللفظ نفسه. في الفصل نفسه من الكتاب، نقرأ عن قوم يسكنون الجبال القريبة من الموصل، ويُسمَّون "الكرد". بعضهم نصارى نساطرة ويعاقبة، وبعضهم "محمديون"؛ تقع بلادهم، كردستان، شمال بلاد آشور وشرق نهر دجلة، ويتحدثون لهجة منحولة عن الفارسية، ويشبهون في عاداتهم وطباعهم البدوَ العرب، فالفريقان كلاهما قطّاع طرق يسطون على قوافل التجار. يردف ماركو بولو إنّ معظم الرحّالة متّفقون على أنّ الكرد لصوص، وأرضهم الوعرة ليست إلا ممراً جبلياً فحسب يربط دولة ثرية بأخرى. ثم يُتوَّج هذا التوصيف بخرافة تقول إنهم أبناء الجن، خرافة لا يزال الكرد أنفسهم يتداولونها حتى هذا اليوم. 

الأكراد المحذوفون من دستور الجمهورية العربية السورية، الذين سقطوا عمداً من الإحصاء العام سنة 1962، وخافوا مراراً أن يُسمَّد بجثثهم "الهلالُ الخصيب"، كانوا "الأجانب" المحرومين من بطاقات الهوية في أرض أجدادهم، وباتوا الخونة المتواطئين مع الأمريكان، بعدما ظلُّوا الجاحدين وقتاً طويلاً لأنهم تنكّروا لمكرمة حافظ الأسد الذي جعل عيدهم القومي، النوروز في 21 آذار، عطلة وطنية، حتى لو كان قد سمّاها "عيد الأم". وُصِموا بعمالة النظام السوري، قبل انتفاضة آذار 2011 وبعدها. أحد ضباط الأسد، بعد انتفاضة ومقتلة أخْرَيين سنة 2004 في القامشلي، وصفهم بـ "شعبٍ من ماسحي الأحذية ونُدُلِ المطاعم"، ويُلحَق بهذا الشعب القوّادون والعاهرات والحمقى والبوّابون والمخبِرون من عفرين وكوباني إلى الدرباسية وديريك. 

أورد خير الدين الأسدي في "موسوعة حلب المقارنة" هذا المثل: "أربعة خلقوا للفساد: الفأر والجراد والبدو والأكراد". رواة "ألف ليلة وليلة" بدورهم رسموا الأكراد رعاعاً وكذَبة، محتالين ولصوصاً يسطون على ملك غيرهم، رُحّلاً بيوتهم على ظهورهم، وما "جراب الكردي" إلا مثال. استلهمت هذه الكناية عدة صحف عربية ساخرة تسمّت بـ "جراب الكردي" من مهجر نيويورك إلى مدن عديدة في بلاد الشام مطلع القرن العشرين. سوى هذه الفكاهة، ثمة صور وأوصاف جاهزة أخرى اكتنفت الكرد عبر الأحقاب والمراحل:

إنهم عنيدون، صناديد، كثُر منهم يلْحنون إذا تكلموا العربية أو الفارسية أو التركية، لكنهم فقهاء لغة، وأئمّة إسلام، ومُفتُو ديار الشام حيث أسّس مجمع اللغة العربية في دمشق كرديٌّ قادم من السليمانية هو محمد كردعلي؛ إنهم مُعتدُّون بأنفسهم كأقرباء الملا مصطفى برزاني، وآباء الديانات الإبراهيمية، وأحفاد صلاح الدين الأيوبي الذي حرّر القدس وافترست أسُوده المؤمنة أسودَ الصليبيين؛ إنهم أيضاً أبناء الملك الطاووس، وعبَدة شيطان، وأحفاد إبليس، إيزيديون بين الأرمن، نَوَر وقرباط، حالمون بالأمكنة التي يعيشون فيها، متهوّرون تفضحهم أنوفهم الكبيرة قبل أسمائهم، صيّادو حجل في شنغال، لصوص دجاج في الشام، حدّادون في الأساطير، فلّاحون ورعاة في الواقع، حمّالون في الموانئ وأُجراء لدى التجّار، قبليّون متعصّبون متخلّفون، مجوس عبَدة شمس وعبَدة نار يتعبّدونها بالرقص حولها، عشاق غناء وعشّاق رقص ومولعون بالألوان، سذّج وطيّبو القلوب وأمناء، "ميديّون" لا أصدقاء لهم سوى الجبال، انفصاليون، عملاء إسرائيل، قتَلة أرمن وقتَلةُ عرب، مساكين ومحرومون، ضحايا التاريخ ويتامى مذابحه. أكراد آخرون التصقت بهم تسمية "الجحوش" لأنهم تواطأوا مع نظام صدام حسين، يتلاعب الجيران بعقولهم، وتنطلي عليهم أزيف الوعود، ولا يتعلّمون من تكرار مصائبهم شيئاً؛ شُبّه آخرون منهم بثعالب لا تُستأمن تجدع أنوف الخصوم، وتصلم الآذان، وتنكّل بأشقائها من دون سبب، أو يبالغون كالقنافذ في الدفاع عن النفس، غاضبين وكأن لا مُصاب أعظم من مصابهم.

الواضحون

("الحرب هي التنظيف الوحيد للعالم"، 

ف.ت. مارينتّي، بيان الحركة المستقبلية، 1909)    

في وليمة الصور، الجميع متخمون.

كانت المناهج التربوية للأطفال في المدارس النازية حافلة بالصور الواضحة- الألمانيّ شابٌّ أشقر رياضيّ حليق الوجه، واليهوديّ قميء الخلقة معقوف الأنف نتن الرائحة. هذا مثال بسيط أمام سحابة الفاشية التي بدأت تغطّي العالم مرة أخرى. الفاشيون، قوميين ودينيين، يتسيّدون عصرنا الجديد الذي دخل نفقاً لا نهاية له، مضاءً بالدعايات. عصر جديد يقوده مجرمون فَرِحون، يصعدون أدراج الطائرات ويعتلون المنصّات كالرياضيين، بكل تلك الطاقة التي يستمدّونها من الضغائن والغطرسة، ويسخّرونها جيداً لسحق خصومهم. 

أحد الكبار في المدرسة الجديدة للفاشية هو إيلون ماسك الذي نبّه ابنه المتحوّل جنسياً إلى أنّ "العربية لغة العدوّ". منعَّمةٌ وجوهُ هؤلاء الكبار، نضّاحة بشغف العيش، مشرقة بابتسامات الشباب. كل ابتسامة كالشفرة بين السفالة والإقبال على غزو الكوكب كلّه. رياح الفاشية تزوبع، من خراب غزة تعلوه ابتسامة نتنياهو التي لا تفقد بريق صلافتها حتى أمام القتلى الإسرائيليين، إلى حفلة هارد روك في بوينس آيرس نجمها رئيسُ الأرجنتين، إلى حفلة مصارعة حرّة نجمها في البيت الأبيض "الوحش الأشقر" ملك الصُّرحاء... 

نسائم من عاصفة هذه الحيوية الكونية تتهادى نحو دمشق، حيث فتيان وفتيات، في واحدة من حملات التنظيف، انتزعوا صور المفقودين عن نصب الشهداء في ساحة المرجة، دون اكتراث بأنّهم قد مزّقوا معها قطعاً من قلوب الناس، ودهنوا عتمات زنازين في سجون الأسد ليغطّوا ذكريات الظلم بأزهى الألوان، لأنهم أيضاً مؤمنون بالجمال والتقدّم، أو ربما لأنهم لا يطيقون صبراً على روح الهزيمة، ويستغربون الصمت الطويل للخاسرين؛ لربما الآن وصل هؤلاء الفتيان إلى المستقبل المشرق، الموعود في الأغاني الدينية للأطفال على قناة "طيور الجنة".

متى ستكفّ هذه الحيوية عن تعنيف الحزانى على كسلهم؟ أين الانتصار ما دامت الرحلة العالمية، العابرة للقارات، مستمرّة من الخراب إلى الخراب، بهذه المواكب الطويلة من الفقراء المُعدَمين والمعاقين والجرحى والمجانين والمفقودين الذين ندخل معهم بوابة المستقبل؟ 

الكاتب: جولان حاجي

هوامش

موضوعات

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع