رسالة برلين السينمائي: "كونتيننتال ٢٥"

modified

سليم البيك

محرر المجلة. روائي وناقد سينمائي فلسطيني

تهدأ ضحكة لتستعد أخرى للاندلاع، وذلك في سياق حواراتيّ حول الكارثة، تلك التي تمر كالماء المتسرب من تحت أرجلنا، وتلك المحدقة، محدّقين فيها ونضحك، فقط لأنّ فيلماً عظيماً كهذا استطاع إحداث هذه في سياق تلك.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

20/02/2025

تصوير: اسماء الغول

سليم البيك

محرر المجلة. روائي وناقد سينمائي فلسطيني

سليم البيك

روائي وناقد فلسطيني، باريس. مؤسس ومحرر «رمان الثقافية». يكتب أسبوعياً في «القدس العربي». له ٧ كتب منها الروايات: «عين الديك» و«سيناريو» و«تذكرتان إلى صفورية». له «تأملات في الفيلم الفلسطيني»، و«سيرة لسينما الفلسطينيين: محدودية المساحات والشخصيات» الصادر أخيراً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

ليس تشابهاً في الملصق، ولا بروز الملصق القديم في مشهد طويل من الفيلم الجديد، ليس هذا ولا ذاك ما يحيل فيلم الروماني رادو جود إلى فيلم الإيطالي روبيرتو روسيليني، "Europa '51" (١٩٥٢)، بل أولاً المأساة، بفرق أنها كانت أوروبية، وصارت اليوم مأساةً قارّاتية.

الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي، "كونتيننتال ٢٥" (Kontinental '25)، والأقوى في نواح كافة مما سبقه و-من يدري- من القليل مما سيلحقه وقد وصلت هذه الدورة الـ٧٥ من المهرجان إلى نهاياتها، هو استعادة عصرية لفيلم روسيليني، اللاحق للحرب العالمية الثانية وخرابها، والمحاول لاستعادة إنسانية مفقودة، ليكون الفيلم الروماني استعادة لخراب نعيش على تخومه، وليست الإشارات المتكررة لغزة وأوكرانيا، والفاشية، والشوفينية بين الرومانيين والهنغاريين (المجريين)، سوى تفاصيل تمر في الحوارات عرَضاً، كأنها واقع ألفناه ويسير بنا إلى خراب أشمل. تواجه ذلك كله الشخصيةُ الرئيسية المفعمة بإنسانية تحملها على الشعور بذنب محاولةً على طول الفيلم لا التخلص منه بل "الاستغفار".

بلقطات ثابتة، نظرات موضوعية، بصور أقرب للوثائقية، شديدة الواقعية، ينقل الفيلم محاولةَ عاملةٍ اجتماعية معايشة ذنب التسبب بموت أحد المشردين الذي خنق نفسه حتى الموت بعدما حاولت، ضمن وظيفتها، إقناعه بالتخلي عن محل إقامته لنقله إلى مكان أفضل. يرافقها رجال شرطة يسألون متحفّزين إن كان في المكان قنبلة.

تتواعد مع شاب كان طالباً عندها وتمضي الليل معه، تلتقي برجل دين لغاية الاعتراف، تزور والدتها التي تزيد بسبب شوفينيّتها الهنغارية، من همّ ابنتها، تجتمع بصديقتها، بزوجها، بآخرين. حوارات في أمكنة ثابتة تدور بينها وبينهم حول تفصيل صغير هو ما حصل وشعورها بالذنب تجاهه. وعلى هامش هذا التفصيل، تدور مواضيع إقليمية ودولية، كارثية، تجعل من الشعور بالذنب في مسألة كهذه تافهة. ما يسائل هذا الشعور أساساً. ما الذي يعنيه أن يكون أحدنا إنسانياً، شاعراً بالذنب وبدرجة قصوى، مقابل كوارث جمعية جميعنا يعرفها؟ لا يحاول الفيلم تسفيه مشاعر المرأة، الصادقة، بل من خلال صدقها، من خلال عفوية المرأة وحقيقية شعورها، يمرّر، افتراضاً، ما تقوله المرأة وتشعر به إلى آفاق أوسع، لنسأل: أي ذنب يستحق أن ينال من أحدنا أمام هول الحاصل في العالم، من الفاشيات المتفشية إلى حروبها، من غزة التي تكرر ذكرها، إلى أوكرانيا، إلى الإشارة مراراً لحروب تاريخية غابرة بين الرومانيين والهنغاريين.

"كونتيننتال ٢٥" فن سينمائي راقٍ، شديد الذكاء في إحالاته، سينمائية وشعرية وتاريخية، انتقادي واعٍ لذاته، بمستوى عالٍ من الحساسية التي تستلزمها أعمالٌ صفتها الأولى أنها فنّية. لكنه ليس فيلماً ثقيلاً على القلب ومثقلاً على العقل. هو، إضافة لكل ما ذُكر، شديد السخرية والدهاء، كما هي حال سينما رادو جود.

تهدأ ضحكة لتستعد أخرى للاندلاع، وذلك في سياق حواراتيّ حول الكارثة، تلك التي تمر كالماء المتسرب من تحت أرجلنا، وتلك المحدقة، محدّقين فيها ونضحك، فقط لأنّ فيلماً عظيماً كهذا استطاع إحداث هذه في سياق تلك.

الكاتب: سليم البيك

هوامش

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع