زمنٌ قضى ثم انقضى فكأنّه حلمٌ قرأتُ الموت في تفسيره
ابن شهيد الأندلسي
حممٌ بطيئة سالتْ سيلانَ العسل، هنا على هذه السفوح الخفيضة.
"انظروا ما أخفَّها!" هتف بضعة أطفال، بأكفّ ممدودة قابضة على الحجارة، المثقّبة كخدود أجدادهم الذين نجوا من الجدريّ.
بطيئاً كان صعودنا وسط ذلك الاخضرار الواسع. توقّفنا قبل الوصول إلى برج التلفزيون. تردّدنا قليلاً قبل الدخول إلى كهف الينبوع. حفّزتنا برودته. أطبقت ظلاله على عيوننا التي أعماها النهار. ضياء كالممحاة، ونحن صاعدون لنغتسل من غبار الاحتفالات بعيد العمّال.
أقلّتنا إلى "عيد الشيوعيين" في "جبل الكوكب" سيارةٌ صنوبرية الخضرة، لامعة برغم قدمها. أربعة انتفاخات، وادعة وبرّاقة كالدلافين، تعلو دواليبها. تحقّق السائق من إقفال البابين الخلفيين، كابساً بإبهامه زرَّ القفل. كان زرّاً أبيض جميلاً كدولاب في دمية سيارة.
كان لخيمةِ رحلتنا عمودان: جذعان من جذوع الحور، نحيلان، أملسان، ناصعان كعوارض السقوف في بيوت الطين. طوال الطريق إلى الكوكب، حملتْهما أربعُ أيدٍ، ممدودة من النوافذ الأربع، إحداها من وراء ظهر السائق، ذي الشارب الرفيع كالخيط. كانت ساعة سايكو زرقاء، في المعصم الأيمن لأبي، تعكس شمس أيّار، فتتراقص فوقنا دائرةٌ من الضوء، صغيرة كالليرة. (سقطةٌ عن الدرج المظلم لغرفة الضيوف هشّمتْ معصمه الأيسر. عظامه المفتَّتة جُبِرتْ في المجر، يؤلمها البرد، وما عادت تحتمل أيّ ثقل).
رفرفت ستائر النوافذ الخضراء. لاحتْ في ثناياها ابتسامة أبي. ربما، في صمته، كان يتذكّر أباه:
"على هذه الدروب، قدتُ "البسكليت" وأبي جالس ورائي ممسك بخاصرتي".
طوتْ سيارتنا المسافاتِ على مهل، سكةَ قطار كبكا، المنعطفات المميتة للطريق الدولي... حتى حقول الشعير في السهوب السوداء. هناك، عند قدم "الكوكب"، انتهى ترحال جدّي، "السيد" ذا العمامة الخضراء. كالربيع لوناه الأخضر والأسود. قال: "هذه هي أرضي". تقاسم أولاده تركته من التراب، في تلك البقاع القاحلة، الكالحة.
في الحصاد الوشيك، كانت السنابل مشرئبة حولنا، برؤوسها الشائكة كرؤوسنا، ونحن في جوقة الأطفال، صدورنا مزيّنة بميداليات حمراء، على شكل نجوم في قلوبها بورتريه لينين. كنّا، مصحوبين بالأكوروديون، نغنّي "نشيدنا الأممي":
"قسَمَاً بالورد بالسنابل بالعيون السود بالربيع"
فيمازحنا الضاحكون:
"يا كفَرَة! القَسَم بغير الله حرام!"
*

تحت شجرة الكمّثرى، عند هذه الجملة: "كثيراً ما ينتهي الإنسان بحبّ مَن يرغب في قتله"، أغلقتُ الكتاب. حطّتْ بقربي بطّتان. صوتٌ، في المساء الرحب، على إحدى شرفات الطابق الثاني من الفندق، قال:
"ما أجمل انسكاب النيازك فوق البراكين. السماء هنا أقرب. تعالوا معنا. النبيذ في جبال غيريلاس ليلكيّ".
هزّت المعلّمة مونسِرات رأسها، معتصرة عينيها، لتؤكّد ما سمعتُه.
ستكون وجهتي، صباح غد، مدرسةً باحتُها فوّهة بركان:
"التلاميذ هناك يمتطون المكانس أثناء الفرص، ويقلّدون الأمير الصغير على كوكبه. ينطّف كل تلميذ مدخنة بركانه، ثم يزرع عصا المكنسة ليتسلّقها الثعبان، والهدية في فمه: وردة حمراء".
قالت مونسِرات، سَمِيّةَ "الجبل المنشار" المقدّس، موجوعة البطن، كمن أكلت الكثير من بصل الكالسوت المشويّ.
فكرتُ بمَن سيقول ساخراً:
"الأمير الصغير مرة أخرى؟ ما قصتكم معه، أنتم السوريين؟ ألم تسأموا إنجيلكم هذا؟ ارحمنا وقُلْ: "ورد! ورد! البركان رشيد عساف!"
قال فرانسيسك، الآتي من إقليم أندوره في البيرينيه، المستقيل توّاً من منصبٍ ما في معهد رامون لول:
-خمسة عشر عالم رياضيات أقاموا قبلكم، هنا، في فندق ريو فلوفيا.
شرب العلماء دوارق من القهوة المركّزة. كلُّ عالم يطحن بضع حبّات بنّ بآلة صغيرة كالمبراة، ويعدّ قهوته بيديه. قال أحدهم، مستخرجاً من جيبه إصبع طباشير:
"يابانيّ، لا يترك أيّ غبار".
ذات عشاء، على هذه المائدة نفسها، ناقشوا مطولاً تفاصيل السبّورة والطباشير اللذين لا بد من وضعهما في كلّ ركن: سبُّورات على السلالم، وفي الممرّات، وغرف النوم وحتى دورات المياه، إذْ مَن يدري متى يأتي الحلّ، وأين ستُغِير الفكرة الصائبة على العقل؟
العلماء صيّادون يقدّرون الصبر والصمت. ستوجعهم الحسرة إذا فوّتوا فكرة من الأفكار التي تلمع كالبروق. تراني أحببتهم لأنّ البراءة مادّتهم الخام؟ العلم ظلام، والشعراء منقّبوه المتواضعون. حائرون في المسافة بين الاسم والمسمَّى، ولا يُبالون بالمسمّي.
في الوقت الراهن، كما في كلّ الأوقات الراهنة التي مضت، سيبقى الوضع على حاله، ولن يتغيّر شيء. سنرى غداً. على الأقل، سيمسح ضباب الربيع الغبارَ عن هذه النوافذ.

*
ضبابيُّون، والضبابُ مرثاتنا الكبرى.
لا أحد يقبل أحداً. لا يحدث قبولنا للآخرين إلا بالصدفة.
تنتظر طويلاً، ثم تغادر وتختفي.
*
غامتْ فانتظرتُ أنْ تظهر على التراب، في الغابة الصغيرة، بركةُ الضوء. ثم أمطرتْ فاستعجلتْ قدماي الذهاب إلى بقعة الظلّ الأدكن بين الأشجار. في نهاية الرذاذ، أصختُ السمع:
جناحٌ يخفق بين الأوراق بندقيةٌ تلقَّم، قطراتٌ كبيرة تتساقط ورائي خطواتٌ تفضحها الأوراقُ الميتة.
ما أضيق الفارق بين الملائكة والقتلة.
*
مستعجلاً في غابة الزان، غير البعيدة عن الفندق، جاوزتُ صليباً ضخماً من الحجر الكلسيّ، غرسه تائبون في مرعى البازلت، وغطّى العشبَ بظلّهِ الواسع، الطويل. إليه يتكئ الدرّاجون في مستراحهم- الخوذ على الرُكب، وقمصانهم اللمّاعة لصيقةٌ بمتانةِ عضلاتهم. لن تنطبع على أكتافهم أيّ علامة بيضاء، كالصلبان التي تخيّل بريشت مخبراً يرسمها بقطعة طباشير على راحته، ثم يربّت كالمتضامن أكتافَ المشبوهين في المقاهي والمظاهرات، ليدلّ الصليبُ قواتِ العاصفة إلى المطلوبين. طبطبة المواساة وشايةُ موت. بغتةً، توقفتُ. لمحتُ بطرف عيني قصاصةً فاقعة الصفرة. موشاة بلطختين برتقاليتين، حافّتها مسنّنة كقلامة قلم خشبيّ. حسبتها قمامة للوهلة الأولى. توهّمت كالمعتاد مَن سيتّهمني برميها، حتى هنا، في خلاء هذه المرتفعات. مَن، إنْ لم يكن أنا؟
مَن الشاهد رأى الوسخ ثم رآني
أين يتخفّى الواشي
مَن، في أيّ نافذة، لمحني
أين القضاة
ما القانون
أين الله
مَن الشاهد على الخطيئة إذا كانت الدودةُ خالقةَ التفاحة؟
كنتُ مخطئاً. اعتدتُ خداع نفسي. أتفه نتفة من نفايات الإنسان تفسد جنّة برمّتها. مَن أوكل إليّ قماماتِ الآخرين؟ أعلى عاتقيّ تنظيفُ الطبيعة؟ فلأكنْ هذه المرة راهباً، تظلّله غيمة من الحزن والخجل، ينظّف حديقة ديره، لا خوفاً من قانون ولا بطلب من أحد.
*
احتجبتِ الشمس وراء السحاب الآتيّ من جيرونا، فتوهّجتْ زهورُ هندباء، صفراء مهدَّدة على جنبات الطريق.
كأنّ شيئاً لم يكُنْ. دوماً، كأنّ شيئاً لم يحدثْ. وراء صومعة سان سيباستيان، الوحل بعد المطر. كانت هنا جدارية اختفتْ. تبقّى في مكانها قليلٌ من العار يكفي ليملأ الهواء، فإذا اعتصرتهُ بيدي، تحشرج كالمختنقين:
"أنا العار، الأقرب إليك من حبل الوريد. سلبتُك كلَّ شيء، ولن أعطيك شيئاً. حتى لو قتلوك، سأعيش على حسابك بضع سنوات أخرى".
أكان لي مصيرٌ آخر أخذه الشيطان إلى رأس ذلك البركان؟ هل لي مستقبل آخر في ذلك المستقبل، لن أعرف فيه أحداً، ولا أحد يُريب أحداً؟
قفز العراة من الأيقونات، وكانوا بذيئين.
بين الأعمدة المورقة للكنيسة القوطية، تحت وحوش التماثيل، رأيتُ وجهاً يقطر لؤماً.
مَن طوّبه قديساً؟
نظرته قطرةُ سمّ على مسرح الأنياب والمناقير.

*
طيّرتْ خطواتي السريعة بضعَ بتلات تساقطتْ من غصون اللوز. أتراجع عن قولي إنّ البتلاتِ المتساقطة من زهور الشجر أجنحةُ فراشات. أشطب في خيالي:
"لا تقلّمْ شجرةَ الخير والشرّ. لا يُطْفأ البركانُ بقطرة ندى. الأنقى من الندى عيونُ القطط بين القبور. الشباب قصير. على نضارة العشب كوندوم ذابل كجورب دمية. الخلود للبلاستيك. كلُّ الناس خالدون قبل أنْ يُولَدوا".
أكلُّ منديل مرميّ على العشب، بجانب الطريق، من بقايا الرغبات؟ أهنا صاحتْ أجساد وسفكَتْ شهواتها في هواء الليل؟ في هذه المنعزلات، لا أريد أنْ تقلق حرّيتي حرّيةَ أحد، ولا أنْ ترتطم جرأتي على العزلة بجرأتهم على المجاهرة فتنتهك خلوتي خلواتهم. شبّانٌ كالرياح، فتياتٌ كالمصابيح. لا أعترضهم بتسكُّعي، ولا يعترضونني بالجنس الحرّ في الهواء الطلق. سينعش رذاذ الربيع بشراتهم حين تتورّد، في هدوء الصمت، بعد الحبّ.
*
وسط أكواب الرماد، المسمّاة براكين خامدة، ثمة أرواح تفوحُ بروائح الكلاب المبتلّة بالمطر والوحل.
يوم سمعنا عن مجزرة كرايست تشرش في نيوزيلندا، فتحتْ معلّمة دانمركية شابّة حديثاً عن الدموع لم يشاركْ فيه أحد.
قال فرانسيسك إنه لا يبكي أبداً، ولا يتذكّر متى بكى. غيّر قناة التلفزيون حين بكت حماته الروسية في عيد الميلاد أمام دعاية لليونيسيف.
سألتُه: "كيف جرى استفتاء الاستقلال عن مملكة إسبانيا؟" كأني أسأل نفسي عن استفتاء الاستقلال في كردستان العراق وما تلاه.
قال إنهم أخفوا بعض صناديق الاقتراع على استقلال كتالونيا في غابة أولوت.
"هذه المدينة تصنّع الأحزمة الجلدية ولحوم الخنازير. سكّة القطار القديمة اختفت. صارت الآن درباً للدرّاجات الهوائية". ثم استدرك:
" كلّ عام، يُذبَح مليار خنزير على وجه الأرض".
كلّ تلك الشرائح الوردية اللذيذة كأشفار العذارى في قصائد الشعراء البروفنساليين الإباحيين.
كلّ هذه الحظائر والسهول والهضاب التي عبرتْها المآسي.
أتذكّر أنّ المسلخ بالفارسية "بسملكاه" لأنه المكان الذي يُتلى فيه "بسم الله" قبل نحر الذبيحة.
لا خداع في الذبح. القتل مستمرّ لأن لذّته عظيمة. يمرّ داخل رأسي قطار تتناوب عرباته البضائع والناس والحيوانات. القتل قبل ركوب القطار أو بعده. وإذا تعطّل، أفلن يضجر القتلة قبل الوصول إلى المحطّة التالية؟
منذ مئة عام، أتلف الفاشيّون بالمحاريث هذه الدروب ليصطادوا الهاربين من الموت. أطلقوا النار على ساعات الأبراج. ربّما حطّموا الزمن، لكنهم لم يوقفوه. كم كاهناً قتلوا في الساحات أمام الكنائس؟ شهودُ الصمت أشجار البلّوط المعمّرة، والتماثيل، والسحب البطيئة فوق الكاتدرائيات…
أأنا شاهد زور؟
أتساءل: أيُّ صدى تردّد في هذه الوديان حين رنّتِ الطلقات على نحاس النواقيس؟
مَن ذاق الحرب سيفهم الشاعرَ الذي رأى "الدخان المتصاعد من فكرة محطَّمة/الورقة التي تسقط أعلى من الشجرة/السماء المقمّلة تحكّ جلدها فتتساقط النجوم".
كان أولاد الفلاحين، منذ مائة وخمسين عاماً هنا، يرون الغيوم جيوب الله، والثلج ريش إوزات تنتفها الملائكة، ويمسحون وجوه العميان بالطحين في عيد الفصح، أما الشعراء المنسيّون فيشعلون ثلاثَ شموع لمذراةِ الشيطان، ثم ينصبون كمائنهم لأرقّ الكلمات فلا يصطادون إلا الفراشات الميتة.

*
لماذا سأغطّي بالكلمات العريَ المشعّ للموجودات؟
لا يزال التصوير يربكني، فأختلسه مستعجلاً في أغلب الأحيان. لا أكاد أحظى بصورة واحدة واضحة لما قد أرغب في استرجاعه لاحقاً. هذه شجرة درّاق على الأرجح. أبتعد قليلاً، وأختلس صورة لها. هي ذي حفلة حبّ أخرى. أضع رأسي بين الفروع المزهرة، وأغمض عينيّ لأنصت إلى طنين النحل. هذه "الأكوان الطائرة" التي حاول أبي أنْ يعلّمني كيف أداعب وبرَ ظهورها دون أنْ يخوّف أيٌّ منا الآخر.
أين سينام النحل هذا المساء؟ أين القفير؟
لو سكتَ الطنين تيتّمتُ. سيرعبني الصمت.
*
مَن يدري ماذا في قبضتي؟
احزري، أنتِ يا مَن تحسبين أيَّ قرعٍ على الباب ذئباً متنكّراً، أيتها الطفلة على درّاجتك الصغيرة، على شفا النصف الجميل من جرح العالم، تخافين الظلام الخاطف للغابة، وأتهيّب ظلماتِ السنين التي مضت، يا بنتاً صغيرة انعطفتْ قبلي، وحيّتني بابتسامة تسع بركان مونتساكوبا كلَّه، فبدّدتْ للحظاتٍ يأسي، هذا اليأس الغامض الذي أداويه بالمشي. لن ألعب معك لعبة: "من أين أنت؟" عليّ أنْ أسبق هذا الليلَ السريع.
أستعجلُ الهبوط. يقلقني أنْ أخيف بظهوري، أو أخيف باستعجالي، المتنزّهاتِ الوحيدات، وهنّ يفلتن كلابهنّ لتطارد الأرانب البنّية بين الصخور، هاتفات لسرعة الحيوان ورشاقته، مع أصدق ابتسامة لا يُعطى مثلها إلا لطفل:
"برافو! برافو!"
تنقصنا جميعاً هذه الحيوية، هذه الغريزة الأعلى، والعدّاؤون يبذلون قصارى استطاعتهم للحاق بالحيوانات. لكنّ الخوف مُعدٍ. إنّه يقرع القلوب بنظراتٍ أشدَّ من المطارق. كلما ضاقت الدروب قوي احتمالُ أنْ نتبادل التحية ونطمئنّ، فلا يرتبك أحدٌ منّا بالذين يمشون خلفه كيف ينظرون إليه دون أنْ يراهم. يقلقهنّ أنْ يمشي غريبٌ وراءهن، فيغذّ خطاه مضطراً ليبرهن لهنّ أنه لا يلاحقهنّ. ابتُلين بالخوف من ظهور رجل في مثل هذه الأماكن، وأنا ابتُليت بالتفكير في خوفهنّ من ظهور أسمر مثلي، يتجاوز الذين يتقدّمونه ليتجاوزوا خوفَهم منه.

*
عشية عيد النوروز، مرتدياً قميصاً أخضر قصيرَ الكمين، أشعلتُ عود ثقاب في فوهة بركان، لا لأقول من أين أتيت، بل للوصول إلى حيث أتيت. آنستني نار صغيرة وجيزة العمر، أوقدتها ببضع عيدان من شجرة ليمون، مريضة مقطوعة. ألقيتُ فوقها كوز صنوبر، آملاً سماعَه يتفتّح بين الجمر.
*
هبطتُ إلى الوادي بفراشة صفراء ميتة. كوّرتُ يدي وباعدتُ الأصابع قليلاً، لكيلا يذيب غبارَها عرقٌ طفيف في باطن كفّي، ولكيلا يتهمني أحدٌ من العابرين بقتل فراشة في هذه المحميّة على سفوح بويغ ساكالم. ماذا سأصنع بأسيرةٍ ذهبية لا أعرف كيف سأدفنها؟ أين سأختار مرقدها؟ ربما في تلك السفوح السفلى المزروعة بالملفوف. أجهل التحنيط وأخشاه. الجمال هشّ يفسده الدفء. فتحتُ يدي أكثر لتبرد راحتي: قرنَا استشعار متقصّفان كأسديةٍ جافّة بين تويجات شبّ الليل. كنتُ قاسياً، رغم حرصي الشديد على العكس طوال الرحلة. مَن قال إنّ الرأفة ينبوع والحرص قيد؟ حقاً، "كلُّ موت ضرب من القتل". كان قتلاً ثانياً ما ظننتُه رِفقاً بالمخلوقة الرقيقة التي لا أعلم كيف قضَتْ أوّل مرة. لاحتْ نملة محنَّاة، بلون اللحاء النحاسيّ للسنديان، بالغة الضآلة فلم يشعرْ بها جلدي. حملتُها دون أنْ أنتبه حتى نفختُ عليها لتطير، وتتوارى في وسادة ضخمة من أوراق الزان اليابسة. حرمتُها من تفتيت تلك الفريسة المجنّحة الهامدة بين الحصى.
لم أصطد الفراشة الليمونية وهي حيّة لتفرحني بدغدغة يدي، ثم أفرح ثانية بإطلاق سراحها.
قد تتوقّف بغتةً سيارة عابرة أفسح لها الطريق الضيّق، فيترجّل مَن يقول لي:
-مَن أنت؟
-كنتُ أتمنّى لو سألتُموني هذا السؤال وأنا نائم. قابلتُ اليوم عالم أنثروبولوجيا روى لي في المقهى مَن أنا. اسألوه.
-افتحْ قبضتك! أرِنا ما سرقتَ من كنوز الغابات!
فأريهم جناحين صغيرين كتويجات قرنفلة صفراء.
لا قيامة للموتى، حتى لو سمعتُ الجناحين يخشخشان في يدي التي انقلبت تابوتاً للنجاة، خشخشة وانية كورق يصنع منه التلاميذ زهوراً في دروس الأشغال.
أيّنا العائدُ أيّنا الذاهبُ إلى عالم آخر؟
*
ما تلقّيتُ من إهاناتٍ عجزتُ عن ردّها- أتجاهلتُها حقاً، أمْ تقبّلتُها؟
أحاول أنْ أقنع نفسي: "لا شيء يحدث"، لأني تعبتُ من الانتباه.
أكان لا بدّ من هذه العزلة الطويلة لأعرف أشياء أخرى عن الصمت، وأستطيع أنْ أكلّم سواي؟
أيُّ عالم تنبع فيه سعادتي من خوفي؟ ماذا لقّنتني هذه العزلة، وإلى متى ستبقى بجانبي؟ أيُّ غائب سينضمّ إليّ؟
أنام على حاجة مريعة إلى سواي، وأستيقظ على هجر كلّ الرغبات، غريباً داخل الجسدِ الأخير الذي رأيتُ ولمست.
أكانت عزلتي احتجاجي على نفسي؟ خرجتُ وحدي في مظاهرة ضدّ نفسي. لم أحقّقْ حتى الآن شيئاً مما ظننتُ أنّ باستطاعتي تحقيقه.
الواقع يخفي كلّ شيء إلا الأوهام. لن أرفع هذا الحجر عن طريقي. سأرفع نظرتي.
*
عُوقبت الحياة هنا، بين هذه البراكين، منذ مئة سنة، فمَن يستطيع معاقبة الموت؟ أسمع تصفيراً وراء شجرة اللوز المزهرة. أهذا العصفور الذي لا أراه سجين جناحيه أيضاً؟ ألأنني ظننتُ أنّ الجسد سجنٌ يخنقني، حاجزٌ يعترضُ طريقي، آمنتُ بالروح؟ أنا الذي لا طريق واضحاً له، روحي قلق قديم يعبر هذا الربيع.
كان خوفي شكلاً آخر من هروب الأسرى، غطّيتُ فيه خفقَ الأجنحة بضجّةِ الكلمات.
الآن، لم تبقَ أيُّ كلمة تغطّي على الرسالة الواضحة: المخرج مسدود.
ليس لي أكثر من جسدي. لا أشتهي إلا ما أراه.
هذه النسمة الدافئة كالدم رسالةٌ من القمر، الشاحب كالنازفين في حربٍ ما، في مكانٍ ما، على هذه الأرض.
من المنتصر هذه المرّة؟ العشب، مرة أخرى؟
الأرض سوداء. القمر أبيض.
الأمل الصغير أصلب من الصوّان.
أيتها السماء الواسعة ارحمي أسفي الصغير.
ارحمي حياتي الخفيفة عديمة المعنى في جنون الحياة المليئة بالمعاني.
*
المنحدرات معبَّدة. تشقّق إسفلتها مما يشجر بين الجذور. المطبوع على سواده، ببخّاخات صفراء، شعارٌ لا أزال أحسبه لمكافحة الإيدز، كأنه ذراعا آدم تخفيان عورته. أعلم أنه للمطالبة بالإفراج عن السجناء الكتلانيين المطالبين بالاستقلال، يشبه "لا" عربية مقلوبة كُتبتْ بخطّ أندلسي. "لا" محتّمة وفادحة الثمن، علامة حداد على ربيع أسود.
أسمع أسناناً تقطف الحشائش وتجترّها. روث قديمٌ عاد تبناً خافتَ البريق. روث خيول بدينة عارمة الشهية، تدفن رؤوسها طويلاً في المعالف بين بكرات القشّ. طِوالٌ خِفافٌ مُسرَّحةٌ أعرافُها وذيولُها. قوائمها ثخينة قِصار كالمدكّات. فرسٌ تداعب بخدّها خدَّ صغيرها- مهرٌ مستلقٍ في برودة الوحل، شعرٌ كمّوني يكسو جلده، بياضُ قوائمه من الأسفل كالضمادات، عصافير زرقاء تمشي حوله، تنقر ما لا أراه ولا أعرفه. عيناه مغمضتان. نسمات ترفع عرفه الرماديّ الناعم. سترتجف ركبتاي كقوائمه المهزوزة حين يركض. إذا حلمتُ مثله فسينتهي كلُّ منفى، وستتفتّح في قلبي حديقةٌ لا يبكي بين ورودها غير السعداء.
فليشهدْ عليّ هذا العشبُ القويّ: إنّ قلقي لا يخجلني، لامعاً وعارياً كخواصر الخيل.
خبّأتُ دمعةً ظلّتْ تكلّم نفسها حتى تبخّرتْ.
*
إلى أيّ غبارٍ سيترجمني الزمن؟
غبار البراكين يغطّي حذائي. ليست فقيرةً هذه المقاطعة. ترابها غنيٌّ بالمعادن. حقولها تسمَّد بمخلَّفات الحيوانات. صخورها الخفّان خفيفة مثقَّبة كوجوه جدّاتٍ تعافينَ من الجدريّ. تحفُّ الطرقات، وتسوّر الدروب الصغيرة. ترجعني إلى استحمام دافئ مديد يواري ضبابهُ وجهي في المرآة، أفرك أثناءه، بحجرٍ من أحجار طفولتي، الجلدَ الميت لكعبيَّ السميكين، وكوعيَّ الخشنين كرُكب الأفيال.
لم يقل لي أحد: "تلك هي السعادة". ألا طائل حقّاً ممّا يُستعاد؟ ذات يوم، لفرط ما تذكّرت، سأنسى ما رأيت، وتنزل عليّ الرحمة. كان أبي سيستعيد ما قاله أجداده، رافعاً كفّه في الريح الهيّنة، يديرها كالديك على برج كنيسة سانت إيستيف، ليعلم من أيّ جهة هبوبُ النسيم:
"انظرْ. الأفق غطّاه الغيم. المطر نازلٌ غداً. الشمس الغاربة مبلولة المؤخّرة".
وأنا الآن، أمام شجرِ التفاح والنوافذِ المعتمة وخفوتِ الكلمات، وحيداً وبعيداً عن أمواتي، أضيف إلى ما قالوه:
"شمس مبلولة كمؤخّرة القرد، كالعائد من الصيد صِفرَ اليدين".
شمال كتالونيا، آذار 2019
بضع ملاحظات صغيرة:
-"جبل الكوكب" بركان صغير خامد في منطقة الجزيرة السورية.
-سنة 2631 بالتقويم الكرديّ هي سنة 2019 بالتقويم الغريغوري.
-في المقطع الأخير عبارتان منقولتان حرفياً عن اللغة الكردية (الكرمانجية): الأولى هي "شمس مبلولة المؤخّرة" كناية عن الشمس التي تغيب وراء الغيم، أما الثانية والأخيرة فمحوّرة عن المثل الكردي: "من يذهب إلى الصيد تبتلّ مؤخّرته".
اللوحات للكتلانيين الثلاثة:
-سالفادور دالي: فواكه مقطّعة وبركان ( 1951)، بورتريه أخي الميت ( 1963)
-أنطونيو تابييس: أجنحة بيضاء (1997)
-جوان ميرو: امرأة وبركان (1938)