للإسبانية الكتالونية كارلا سيمون، موضوع واحد يمر على أكثر من فيلم لها، أهمها "الكرّاس" الذي نال الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي في ٢٠٢٢، وآخرها فيلمها المشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان الفرنسي، "روميريا"، وهو تطوير لفيلمها القصير، "صيف ١٩٩٢". تحوم سيمون حول العائلة، تحديداً حول احتمالات تراجيدية طالت أو ستطال العائلة.
في فيلمها الأخير، وهو سيرة ذاتية بقدر كبير، كان الاحتمال مستبَقاً، كان قد وقع. لا ترتقب مارينا ما سيحصل بل تعود لتنبش ما كان قد حصل، في رحلة اكتشافية يمكن لترجمة عنوان الفيلم تفسيرها، "الحج" (Romería).
فتاة كتالونية، تسافر إلى عائلة أبيها وقد مات، وكذلك أمها، منذ كانت طفلة. عادت لتحاول الحصول على أوراق ثبوتية لتستطيع التقدّم لمنحة جامعية كي تدرس السينما. جدّها يقدم لها ظرفاً ممتلئاً بالكاش، قائلاً لن تحتاجي للمنحة الآن. تعيده. تكتشف أن كل ما عرفته عن أبيها من بعد موته ومن خلال العائلة، كان كذباً، بما في ذلك تاريخ موته.
كأن حياة جديدة تكتشفها لوالديها، من المهنة إلى الإقامة إلى اليوميات، كل ما كان يُقال لها، واخت اختلف تماماً عمّا يُقال لها اليوم، كان تمويهاً من العائلة، لسبب واحد هو إخفاء سبب موته، وكان الإيدز من خلال الحقن. فبعد الإصابة بالمرض، أوائل التسعينيات، أخفت العائلة أبيها، وأبعدت أمّها، واعتُبرت مارينا، الطفلة آنذاك، منبوذة، وأزيل اسمها من شهادة وفاته.
تعود مارينا إلى العائلتين، في الريف، وتمضي أياماً للتعرف أكثر إليهما، ومن خلال بحثها، وإلحاحها، للتعرف كذلك إلى أبويها، مع إدراك متدرّج للحياة التي كانت لديهما، بوهيمية، حياة برّية في الشواطئ الصخرية، وحب جارف لا ينتهي يجمعهما. تغوص ابنتهما أكثر فيهما، تتقرّب أكثر إليهما، مبتعدة عن الرياء العائلي، الريفي والمحافظ وشديد الثراء، الذي أخفى الأب والمرض والسبب.
قدّمت سيمون القصة بأسلوب أدبي، موزّعةً السرد على تقنيات تتكامل فيما بينها، المَشاهد كما نراها، قراءة مارينا من دفتر اليوميات، وخيال مارينا عن أبويها متحوّلاً إلى مَشاهد نراها. تتتابع هذه التقنيات لتمنح القصة أصواتاً متعددة لكنها دائماً من وجهة نظر الفتاة، المتحررة، المتمردة على نفاق العائلة، غير العابئة بالملاحظات حول احتمال ميولها المثلية. أصوات متكاملة للشخصية ذاتها، تتماهى فيها اليوميات التي لأمها، والخيالات التي لها عن أمها وأبيها، ويومياتها هي عند العائلة في الريف.
جنوح عاطفي يحدثه الفيلم بمشاهده تجاه مارينا، وعفويتها الطفولية، بتماهي يومياتها هي مع يوميات أمها التي سردت فيها بعضاً من حياة البوهيمية مع زوجها. فنقلَ الفيلم يوميات الفتاة في الريف كأنها من دفترة، بتواريخ وعناوين، كأن تسأل إن كان الدم يكفي للانتماء العائلي، وإن كانت العائلة عائلة إن لم تكبر فيها الفتاة، وإن كانت العلاقة البيولوجية انتماء عائلي.
الفيلم رقيق، حساسيته تجاه مارينا انتقلت بسلاسة إلينا. هو من أكثر أفلام المسابقة الرسمية رهافة واكتراثاً بشخصيته الرئيسية. وإن لم يكن فيلماً عظيماً، تبقى السمة الأفضل له، والمنافس عليها بشدة، هي الجمال. جميل في قصته وأسلوب سردها، وفي تصويرها، جميل في شخصيته وروحها.