لعلّ أحد أبرز الطروحات التي تعالج مسألة تجليات البنية الذهنية أو الخيال تكمن فيما ذهب إليه ماركس من أن الفرق بين أسوأ معماري وأفضل نحلة، هو أن المعماري يقيم بنيته في الخيال قبل أن يشيدها على أرض الواقع. ذلك أننا في ختام كل عملية "عمل"، نحصل على نتيجة كانت موجودة "سابقاً" في مخيلة العامل المنفذ عند بدء العملية، فهو خلال عملية الإنتاج لا يحدث تغييرا في شكل المادة فحسب بل يحقق غايته الواعية ومشيئته المسبقة، وهذا ليس محض فعل منفرد بقدر ما هو إشارة إلى تطابق إرادة العامل مع غايته. ويمكن القول بانطباق هذه الفكرة على المشاريع الاستعمارية التي سبقت تدخلاتها المادية بإنتاج صورة ذهنية دقيقة للفضاء الذي تسعى إلى إعادة تشكيله. هذه الصورة لا تُبنى فقط في عقل المهندس أو المخطط، بل في مؤسسات الدولة الاستعمارية، وخرائطها، وخطابها الرسمي.
في كتابه "استعمار مصر"، يقدم تيموثي ميتشل قراءة فريدة للكيفية التي مارست بها القوى الاستعمارية الهيمنة على الفضاءات من خلال أدوات التنظيم العمراني والتقني مثل تخطيط المدن، وشق الطرق، ورسم الخرائط. يتجاوز ميتشل التحليل الكلاسيكي الذي يربط الاستعمار بالقوة العسكرية والسياسية، ليكشف عن البنية المعرفية والإدارية التي مكّنت هذا الاستعمار من إعادة إنتاج الهيمنة عبر تحويل الفضاء إلى نظام يمكن التحكم فيه ومراقبته. من خلال ذلك، يُظهر ميتشل أن الاستعمار لم يكن مجرد احتلال للأرض، بل كان مشروعًا لإعادة تنظيم الحياة ذاتها، باستخدام أدوات ظاهرها تقني وباطنها سياسي-سلطوي. وفي الحالة الإسرائيلية، تتجلى هذه الرؤية بشكل واضح من خلال الخرائط المكانية التي تنشرها السلطات العسكرية لتحديد المنازل والمناطق التي يُطلب من سكانها الإخلاء، أو التي يُخطَر بهدمها. الأمر الذي يترافق مع إقامة شبكة معقدة من الطرق والحواجز العسكرية والبوابات الحديدية التي تفرض نوعا "خاصاً" من النظام وتقطّع أوصال الضفة الغربية، وتحول دون تشكل أي استمرارية عمرانية أو اجتماعية فلسطينية.
في هذا الإطار، يشير ميتشل إلى أن إعادة تشكيل الفضاء المديني في مصر الاستعمارية كانت تهدف إلى خلق تمايز واضح بين النظام والفوضى، بين ما هو حديث وما هو تقليدي. فقد اعتُبرت الأزقة الضيقة والأسواق العشوائية رموزًا للفوضى والتخلف، بينما جرى تمجيد الطرق الواسعة والمستقيمة بوصفها علامات للنظام والعقلانية والحداثة. هذه الرؤية المجزأة للفضاء انعكست أيضًا في الخرائط التي لم تكن مجرد أدوات تقنية، بل كانت تمثيلات أيديولوجية تعيد إنتاج رؤية السلطة للعالم، وتختزل التعدد الاجتماعي والثقافي إلى خطوط وألوان وحدود. وقد جرى استخدام هذه الخرائط لاحقًا كأدوات إدارية لتقنين السيطرة على السكان وتبرير التدخل في تنظيم شؤونهم الحياتية.
من هنا، يمكن القول إن الخطط والخرائط، في هذا السياق، لا تُنتج فقط تمثيلًا للواقع، بل تساهم في تشكيله أيضًا. فهي تخلق صورة ذهنية للفضاء تفرض نفسها على السكان المحليين، وتُستخدم لاحقًا لتبرير تدخلات الدولة أو القوى الاستعمارية. من خلال رسم الحدود، وتسمية الأماكن، وتحديد نقاط العبور، تتحول الخريطة إلى أداة لإعادة ترميز المكان، وتصبح وسيلة لفرض النظام السياسي والاجتماعي، بل وحتى الثقافي. فالخريطة لا تقول فقط "أين يقع الشيء"، بل تقول أيضًا من يملكه، ومن له الحق في استخدامه، ومن ينبغي أن يُستثنى منه.
عند إسقاط هذه الرؤية على الحالة الفلسطينية، خصوصًا في مخيمات شمال الضفة الغربية مثل جنين ونور شمس وطولكرم، يمكن ملاحظة استمرار استخدام أدوات شبيهة بتلك التي وصفها ميتشل. فمنذ عام 2023، كثفت إسرائيل من عملياتها العسكرية في هذه المخيمات، وترافقت هذه العمليات مع تدمير واسع للبنية التحتية والمباني، وشق طرق عريضة في قلب أزقة المخيمات الضيقة. تُبرر هذه العمليات بأنها ضرورية لـ"الاعتبارات الأمنية"، لكن النتيجة الفعلية هي إعادة تشكيل المكان بما يخدم أهداف الاحتلال في المراقبة والسيطرة والاختراق الدائم للنسيج المجتمعي.
في مخيم جنين على سبيل المثال، تم توزيع خرائط تخطر بهدم أعداد كبيرة من المنازل، حيث تم تدمير مئات الوحدات السكنية بشكل كامل، وتجريف مساحات واسعة، وتحويل الأزقة الضيقة إلى شوارع واسعة تسهِّل دخول المركبات العسكرية وتتيح للمراقبة الجوية أن تؤدي دورها دون عوائق. إن ما يحدث هنا لا يختلف كثيرًا عن مشاريع "التحديث العمراني" التي تحدث عنها ميتشل، سوى أن الأداة هي العنف المباشر بدلًا من التخطيط المدني البيروقراطي. غير أن النتيجة تبقى واحدة: إعادة إنتاج الفضاء بشكل يُقصي البُنى الاجتماعية والسياسية المحلية، ويُعيد تنظيم العلاقات وفقًا لأولويات السلطة المحتلة التي تسعى لتحييد المخيمات بوصفها معاقل للمقاومة.
كما أن عمليات التدمير في مخيم نور شمس في طولكرم تتبع المنطق نفسه والاستراتيجية ذاتها، حيث اقتحمت القوات الإسرائيلية المخيم بجرافات عسكرية، مما أدى إلى تدمير الشوارع والمنازل، وشق طرق جديدة داخل النسيج العمراني. هذا النمط من التدخل لا يمكن قراءته فقط كإجراء أمني ظرفي، بل هو فعل استعماري بامتياز، يعيد ترسيم الفضاء ليتلاءم مع احتياجات السيطرة والمراقبة، ويطمس في الوقت نفسه الهوية الحضرية الفلسطينية التي بُنيت تاريخيًا على أسس جماعية من التضامن الشعبي والذاكرة الجمعية، ويعيد تشكيل إدراك السكان لذواتهم ولأماكنهم. وهنا تبرز أهمية القراءة التي يقدمها ميتشل، فهي تُسلط الضوء على البُعد الرمزي والمعرفي لهذه العمليات، وتُظهر كيف أن الخرائط والطرق ليست محايدة، بل أدوات لإنتاج نظام معين من السلطة. ذلك أن ما يحدث ليس فقط تعديلًا في الشكل، بل انقلاباً في معنى المكان ذاته، حيث تتحول الأزقة التي كانت شاهدة على النضال الجماعي والتكافل الاجتماعي إلى مسارات مفتوحة تسهِّل الاقتحام والقمع، وتُفرغ المكان من رمزيته التاريخية والثقافية.
وبالتالي، فإن إعادة إنتاج الفضاء في المخيمات الفلسطينية ليست مجرد نتيجة جانبية للعمل العسكري، بل هي مشروع متكامل يهدف إلى كسر الفضاء الرمزي والسياسي للمخيم كحيز للمقاومة ومجتمع له ثقافته الخاصة. وكما تُظهر مقاربة ميتشل، فإن الهيمنة تبدأ حين يُعاد تنظيم الحياة اليومية على نحو يتم فيه إخضاع السكان لسلطة جديدة من خلال الفضاء نفسه، إذ يصبح ساحة للصراع، يُعاد من خلالها تشكيل العلاقة بين السكان والسلطة، وبين الأفراد والمجتمع، وبين الماضي والمستقبل. ولعل الأخطر في هذا السياق هو الصورة الذهنية التي تخلقها هذه التغييرات، سواء عبر الإعلام أو عبر الخرائط المحدثة التي تُنتجها سلطات الاحتلال. فحين تُقدَّم هذه المناطق في الخرائط كشبكات منظمة من الطرق والمباني، تُمحى الرواية الأصلية للمخيم كساحة لجوء وصمود، ويُعاد تقديمه كموقع للفوضى تم تنظيمه من أجل "السلامة والأمن". هذه الصورة الذهنية تُستخدم لاحقًا في الخطاب الدولي لتبرير استمرار التدخلات، بحجة إدخال "النظام" إلى مناطق الفوضى، بما يعكس نجاح الاستعمار في إعادة تشكيل الفضاء وتمثيله بطريقة تخدم مصالحه. من هنا، يمكن القول إن طرح ميتشل يُقدِّم أدوات مهمة لفهم ما يجري في المخيمات الفلسطينية من منظور يتجاوز الحدث العسكري إلى تحليل بنيوي أشمل، يُبرز كيف تُستخدم أدوات مثل الطرق والخرائط لإعادة إنتاج النظام الاستعماري بأدوات معاصرة. إن ما تفعله إسرائيل في شمال الضفة الغربية ليس فقط تدميرًا ماديًا، بل هو محاولة لإعادة هندسة الوعي الجمعي والذاكرة المكانية للسكان وتفكيك المخيم كفضاء مقاومة وتحويله إلى فضاء يمكن "إدارته" من قبل السلطة الاستعمارية، تمامًا كما فعل الاستعمار البريطاني في مصر، ويصبح من الأهمية بمكان أن نتعامل مع هذه الممارسات بوصفها استراتيجية مدروسة، لا مجرد نتيجة عشوائية للصراع.
ختامًا، تُظهر قراءة ميتشل لأدوات السيطرة العمرانية أنها ليست مجرد تفاصيل فنية، بل أدوات سياسية بامتياز، تُستخدم لتفكيك المجتمعات وإعادة تركيبها وفق نمط سلطوي. وهي أدوات لا تزال حاضرة وفعّالة في المشهد الفلسطيني، حيث يستمر الاحتلال في استخدام شق الطرق، ورسم الخرائط، ووضع الحواجز والبوابات كوسائل للهيمنة على الأرض والناس. وما يقدمه هذا المقال يمثل معالجة تحليلية عميقة وثرية تربط بين التحليل النظري والممارسة العملية في السياق الفلسطيني المعاصر، وتحديدًا ما يجري في مخيمات شمال الضفة الغربية كأمثلة على استعمار مادي ومكاني مستمر. فقد تحوّلت المخيمات بفعل السياسات الإسرائيلية إلى مساحات معسكرة، تتقلّص فيها إمكانيات الحياة المدنية، وتُدفع فيها المجتمعات إلى النزوح الجماعي أو إعادة التموضع القسري لآلاف العائلات، ولم تعد الطرق وسيلة لربط السكان وتسهيل حياتهم، بل أضحت أدوات تسهّل السيطرة والمراقبة والقمع. وتكشف المقارنة بين استعمار مصر وبين الممارسات الإسرائيلية عن استمرارية استعمارية تتجاوز الزمن والجغرافيا، وهذا الربط بين الماضي والحاضر الاستعماري يُظهر كيف تتكرر الأنماط وإن تغيّرت الأدوات، ويؤكد الحاجة إلى قراءة نقدية للمكان باعتباره عنصرًا فاعلًا في الصراع، وليس مجرد إطار مادي له. ذلك أن مقاومة هذه الأنماط الاستعمارية -وإن تباينت- تتطلب منا ليس فقط المواجهة المباشرة، بل أيضًا إعادة إنتاج سردياتنا وخرائطنا، وتثبيت حقنا في المكان والذاكرة والهوية.