استشهاد الأهل

Taysir batniji. Fading Roses, 2022

عاطف الشاعر

كاتب من فلسطين

 شبَّ الكدُّ على وجوه الناس وبلغَ مبلغه، فقدوا أوزانهم من الجوع والهمّ، وازدادوا سنيناً على سنينهم وأصبح صغارهم كباراً، وشبابهم وشاباتهم كباراً، يصارعون من أجل البقاء، والبقاءُ في غزة مرّارةً لا تشبهها مرّارة. ما أقساها، وما أوحشها من مرارة. 

للكاتب/ة

ذهب ابن أخي الآخر لكي يحصل على معونةٍ لكي يُطعمَ أسرته لكنه قوبلَ بالرصاص عند مركز التوزيع الصهيوأمريكي الجديد في تل السلطان. قُتلَ من قُتل، وطغى الرعب واستأصلَ في قلوب الناس. 

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

18/06/2025

تصوير: اسماء الغول

عاطف الشاعر

كاتب من فلسطين

عاطف الشاعر

ومحاضر متقدم في مجال الدراسات العربية والثقافية في جامعة ويستمينستر في لندن. آخر كتبه هو "أنطولوجيا كتابات النكبة الفلسطينية: خريطة غياب"، والذي صدر عن دار الساقي عام ٢٠١٩.

ذو القربى هم دمٌ يسري في عروقنا، وأرواحهم مرايا نرى فيها مزايا أرواحنا. في الثامن عشر من مايو 2025 باغتت طائرة إسرائيلية من طراز اِف ستة عشر منطقة محيطة بما يسمى "بفيش فريش" بين مواصي رفح ومواصي خانيونس، وكان هناك جزء من عائلتي، وقضى من قضى في هذا الاستهداف اللعين: زوجة أخي المرحوم وليد الشاعر عواطف الشاعر، وابنها خالد الشاعر، وزوجته إسراء الشاعر، وبنته تالا الشاعر، وأصيبت إحدى بنات خالد بشظية أفقدتها إحدى عينيها، وأصيبت الأخرى في يدها مما أدى لكسرها، واستشهد أبناء عمومة آخرين: سعدي الشاعر (أبو محمد) ومهند صبحي الشاعر، ومازن  صبحي الشاعر، واستشهد ما لا يقل عن أربعة وثلاثون شخصاً في هذه الضربة التي أحرقت خيامهم وقضتْ عليهم وهم نيام جوعى مقهورين بالحسرة والتعب والرعب. التحقوا هؤلاء بالمئات من عائلتنا والآلاف من أبناء وبنات شعبنا المظلوم ظلمَ أشرس وأقسى الأعداء. 

هذه الوجوه التي أعرف بعضها جيداً لم تغب عن بالي، فخالد ابن أخي، هذا الرجل المسكين الذي كابد الدنيا شقاءً وهماً لكي يحيا فيها ويساعد أسرته الصغيرة، ذهبَ وعائلته هكذا، وكأن الدنيا آثرت أن لا يكونَ للأبرياء الأنقياء البسطاء فيها مكان. كم كان يخشى هذا المآل المؤلم، وقد عشعشَ في صوته الرعب والخوف وأصبحَ لهذا الرعب نبرة ثقيلة تتحشرجُ في أعماق الروح، لا يُخطئها من سمعها وعرفَ هؤلاء الناس من قبل: نبرة من يودع ويود لو لم يكن كذلك، هي نبرة لكثيرين من أهل غزة والتي ما زلت أسمعها حتى الآن وتدبُّ بيَّ رهبة ورعشة عليهم من خوف الصوت ورهبته أمام الفناء وصمت العالم المُوحش. 

إعلان

وذهبت أمه أم خالد صاحبة الضحكة والحياة سابقاً، ذهبتْ هكذا ولم نعد نسمعُ الصوت والطمأنينة القادمة من وسط الرعب، "بعين الله يا ابن عم"، تقولها وهي تعرف أن الآفاق كلها موصدة. ذهبت هذه المرأة الطيبة، والصبورة، والتي دأبت على التفاني حدَّ نسيان الذات من أجل أبنائها وبناتها وأحبابها. 

لن تعرف إسرائيل هذه التفاصيل عن هؤلاء الناس أهلنا الرائعين، البشر الذين لحيواتهم كلّ وزنٍ وكل قيمة وكلّ معنى. 

إعلان

 شبَّ الكدُّ على وجوه الناس وبلغَ مبلغه، فقدوا أوزانهم من الجوع والهمّ، وازدادوا سنيناً على سنينهم وأصبح صغارهم كباراً، وشبابهم وشاباتهم كباراً، يصارعون من أجل البقاء، والبقاءُ في غزة مرّارةً لا تشبهها مرّارة. ما أقساها، وما أوحشها من مرارة. 

ذهب ابن أخي الآخر لكي يحصل على معونةٍ لكي يُطعمَ أسرته لكنه قوبلَ بالرصاص عند مركز التوزيع الصهيوأمريكي الجديد في تل السلطان. قُتلَ من قُتل، وطغى الرعب واستأصلَ في قلوب الناس. 

 الأهوالُ تتعاظم، والنكبة طالت كلّ قلبٍ وفتقت في كلِّ روحٍ في غزة. علا الشرُّ على كلِّ شيء.

من الواضح وضوحاً مفجعاً أنَّ لا أفق لوقفِ هذا الدم البرئ المراق بلا هوادة في غزة، وأن إسرائيل، أو لنسمها جهنم، تريد وبكلِّ قوة أوتيت أن تبيد المجتمع الفلسطيني في غزة، وأن تأتي على كلِّ أركانه وتقضي عليها، تريدُ جهنم أن تقضي على أسّس المجتمع القيمية، وتحولُ كلّ إنسان فيه إلى مجرمٍ وذليل يناطح الأرض والسماء لكي يحصلَ على لقمة له ولعياله، هذا وإن حصلَ عليها. تريدُ أن تبيدَ كرامته وكرامة المتفرجين على الدمِ المسفوك فيزادُ الجبنُ ويتعمقُ الذل وقلة الحيلة. 

لن تصلح نظرية أكامبين عن الحياة المهترئة الباليّة التي تفضي إليها وحشيّة النظم الرأسمالية. لا بدَّ من نظرية وكلام جديد يضئُ ليل هؤلاء المسحوقين الذين تتفنن جهنم إسرائيل في تعذيبهم والقضاء على كلِّ معنى حولهم وفيهم. وحتى فرانتز فانون الذي تطفحُ كتاباته بآثار العنف على المسحقوين من الإستعمار كان سيقفُ حائراً ومكسوراً أمام هول وعظم المأساة التي تفرضها جهنم إسرائيل على أهل غزة. 

***

حبيبي خالد وحبيبي سعدي أبو محمد، وكل الأحبة، كل الشهداء، كل الأطفال والنساء والشباب، الأقارب وغيرهم، أبناء وبنات الدكتورة آلاء النجار وزوجها الشهيد الدكتور حمدي النجار: أنتم ضحايا عالم بلا أخلاق، ضحايا جهنم إسرائيل، ضحايا هذه الهوية الشريرة المغمسة بالدم والحقد والكراهية والتضليل والقسوه التي ترعاها قوى عالميّة بلا ضمير، ومسكونة بهوس السيطرة وإخضاع الآخرين إلا ما لا نهاية. 

حبيبي خالد وجميع الشهداء: كثيرٌ من عائلاتكم ذهبت وقضت، وَمُحِيتْ بيوتكم، وأخذ منكم كلّ شيء أعزها أرواحكم وأرواح أحبابكم. لكنكم ستبقون في قلوبنا، ولن نريدَ أن نشفى من حبنا لكم وقربنا منا ومنكم. أنتم المعنى الأسمى، ذكراكم وتذكركم بات المعنى الأصفى لكل من قصدَ معنى في هذه الدنيا التي تتقاطرُ عليها الأحزان، وسيرسمُ خرائط عقولنا وأرواحنا لأجيال قادمة. لعلَّ حبّ الوفاء لكم آيتها الأرواح المعذبة هو من سيهونُ علينا مصاب الفراق ووحشة المآل.

الكاتب: عاطف الشاعر

هوامش

موضوعات

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع