أصدرت منشورات أثر للنشر والتوزيع الترجمة العربية لمجموعة مقالات بعنوان "القراءة في زمن الاضطراب: مقالات في الكتابة والمعنى"، للكاتب والروائي الأرجنتيني الكندي ألبيرتو مانغويل، بترجمة أدبية أعدّتها الكاتبة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم، وتحرير ومراجعة رامي سليم.
يطرح الكتاب الذي يُعدّ شهادة فكرية وأخلاقية حارة، سؤال الكتابة في عالم "يزداد تشويشًا وتضليلًا"، ويستعيد عبر نصوصه دور المثقف بوصفه شاهدًا على القمع، ومشاركًا في مواجهة تآكل المعنى، لا سيّما حين تصبح القراءة "ضرورة مدنية، ودعوة ملحّة لئلا نصمت".
ينتقل مانغويل في هذه المقالات بين جغرافيات فكرية وإنسانية واسعة: من الأرجنتين إلى باريس، ومن الكهوف الأولى إلى المكتبات الرقمية، مستحضرًا شخصيات رمزية من مثل سقراط وداروين، هوميروس وفيرجيل، دون أن يغفل الحكايات البسيطة، مثل فصل "كيف تعلّم بينوكيو القراءة"، ليضيء من خلالها الأسئلة الكبيرة حول الذات، واللغة، والنجاة.
"القراءة في زمن الاضطراب" هو كتاب مكوّن من أربع مقالات طويلة (كيف تعلّم بينوكيو القراءة- عزاءٌ محتمل- دموع إسحاق- التلويح أو الغرق) ومقدمة لمانغويل بعنوان "أن نكتب أو لا نكتب: لماذا هذه المقالات؟"، وتصبّ في محاولة الإنسان أن يقول "أنا" في عالم لا يُنصت. كتاب عن الإيمان بالكلمة في وجه الخراب.
مقاطع من الكتاب:
"القرن الحادي والعشرون هو عصر انعدام الإيمان بالكلمة. ولعلها المرة الأولى في التاريخ حيثُ لا يُنظر فيها إلى اللغة، عمومًا، بوصفها أداةً للعقل تمكّننا من تقييم الخبرة ونقلها بأدقّ شكل ممكن. صحيح أن الغموض، واللايقين، والتقريب كانت دائمًا من سمات لغتنا، لكن، رغم هذه الهشاشة (التي يحوّلها الشعراء إلى مصادر قوة)، تمكّنَّا من ابتكار وسائل داعمة تحفظ المعنى والدلالة، كالنبرة، والنحو، ووسائل بلاغية لا تُحصى، وقد أدّت هذه الأدوات وظيفتها بدرجات متفاوتة من النجاح حتى اليوم.
أما اليوم، فيبدو أن الخطاب العام يعتمد على نحو شبه كليّ على نقل المشاعر، ويُنظر إلى التناقض أو عدم الاتساق لا بوصفهما علامةً على ضعف الفكر، بل دليلًا على الأصالة: على ما لا يصدر عن برودة الذهن العقلاني، بل يتدفّق بإخلاص "من الأحشاء".
تغريدة أو شعار إعلاني يحملان اليوم من التأثير ما يفوق مقالًا مدروسًا بعناية.
في هذا المناخ اللاعقلاني، يفقد الفعل الفكري مكانته التقليدية، وكما نعلم جميعًا، يُسمح للأخبار الكاذبة والأكاذيب العامة بأن تسود. ويُصوَّر المثقفون، من قِبل أهل السلطة، بوصفهم "أعداء الشعب"، في مواجهة المواطن العادي الذي يُتَّهَمون بازدرائه. لذا، فإن الحاجة اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى إلى أصواتٍ عاقلة ثابتة، تستمر في أداء الشهادة كما فعل رودولفو والش من قبل، رغم الاتهامات بالإهمال والتعالي.
لا أعذار لتردّد المثقفين. (من مقدّمة الكتاب: أن نكتب أو لا نكتب: لماذا هذه المقالات؟)
**
"الكتب، كما يعرف بينوكيو حق المعرفة، لا تُشبع المعدة الجائعة. وعندما يرمي رفاقه الأشقياء كتبه عليه، لكنها تسقط في البحر بدلًا من أن تصيبه، تسارع مجموعة من الأسماك إلى السطح لتقضم الصفحات المبلّلة، ثم تبصقها سريعًا قائلة: "هذا لا يناسبنا؛ نحن معتادون على طعام أفضل بكثير".
"في مجتمع لا تُلبّى فيه الحاجات الأساسية للمواطنين، تكون الكتب غذاءً هزيلًا؛ وإذا أُسيء استخدامها، فقد تصبح قاتلة. فعندما يرمي أحد الأولاد كتابًا ضخمًا في الحساب على بينوكيو، لا يُصيب الدمية، بل يصيب ولدًا آخر في رأسه ويقتله.
كتاب لم تلمسه يد، كتاب غير مقروء، من شأنه أن يكون سلاحًا فتّاكً"..
" لأن بينوكيو لم يتعلّم القراءة بعمق - لم يتعلّم كيف يدخل كتابًا ويستكشفه حتى حدوده البعيدة، التي يصعب بلوغها أحيانًا - فإنه سيظلّ دائمًا يجهل أن مغامراته الشخصية متجذّرة في تاريخ أدبي طويل.
حياته (وهو لا يدرك ذلك) هي في جوهرها حياة أدبية، مركّبة من حكايات قديمة، قد يتعرّف فيها - ذات يوم حين يتعلّم القراءة حقًا - على سيرته الذاتية. وهذا لا ينطبق عليه وحده، بل على كل قارئ ناضج.
مغامرات بينوكيو تُردّد أصداء أصوات أدبية كثيرة. إنه كتاب عن بحث الأب عن ابنه، والابن عن أبيه -حبكة فرعية من الأوديسة، سيعيد اكتشافها جيمس جويس لاحقًا، وهو كتابٌ عن البحث عن الذات، كما في التحوّل الجسدي لبطل أبوليوس في الحمار الذهبي، والتحوّل النفسي للأمير هال في هنري الرابع؛ عن التضحية والفداء، كما في قصص مريم العذراء وملحمات أريوستو؛ عن طقوس العبور النموذجية، كما في حكايات بيرو الخرافية (التي ترجمها كولودي)، وفي الكوميديا الشعبية ديللارتي؛ وعن الرحلات عبر المجهول، كما في سجلات مستكشفي القرن السادس عشر، وفي كوميديا دانتي. وبما أن بينوكيو لا يرى الكتب كمصادر للوحي والاكتشاف، فإنها لا تعكس له تجربته الخاصة.
أشار فلاديمير نابوكوف، وهو يعلّم طلابه كيف يقرأون كافكا، إلى أن الحشرة التي تحوّل إليها غريغور سامسا ليست سوى خنفساء مجنّحة: حشرة تحمل أجنحة تحت درعها الصلب، ولو أنه اكتشف ذلك، لكان استطاع الهرب.
ثم قال نابوكوف: "كثير من الأولاد والبنات يكبرون مثل غريغور، من دون أن يعرفوا أن لديهم هم أيضًا أجنحة... وأنهم يستطيعون الطيران".
سيظلّ بينوكيو غافلًا عن كلّ ذلك، حتى لو صادف التحوّل لكافكا. فكلّ ما يستطيع فعله، بعد أن يتعلّم القراءة، هو تكرار خطاب الكتب المدرسية. يستوعب الكلمات على الصفحة، لكنه لا يهضمها؛ لا تصبح الكتب جزءًا منه بحق، لأنه، في نهاية مغامراته، لا يزال عاجزًا عن تطبيق ما قرأه على تجربته الخاصة، على ذاته، وعلى العالم من حوله. تعلُّمه الأبجدية يقوده في الفصل الأخير إلى أن يُولَد بهويّة بشرية، وينظر إلى الدمية التي كانها بشيء من الرضا الساخر.
لكن، في كتابٍ لم يكتبه كولودي أبدًا، لا يزال على بينوكيو أن يواجه المجتمع بلغة تخييلية: لغة كان يمكن للكتب أن تعلّمه إيّاها من خلال الذاكرة، والربط، والحدس، والمحاكاة.
ما بعد الصفحة الأخيرة، يصبح بينوكيو أخيرًا مستعدًّا لتعلّم القراءة.
تجربة بينوكيو السطحية في القراءة تقف على النقيض تمامًا من تجربة بطلة تائهة أخرى: أليس. في عالم أليس، تُستعاد اللغة إلى غموضها الغنيّ الجوهري، ويمكن لأيّ كلمة (بحسب همبتي دمبتي) أن تعني ما يشاء المتكلّم أن تعنيه.
ورغم أن أليس ترفض مثل هذه الافتراضات الاعتباطية، إلا أن هذه المعرفة اللغوية المفتوحة للجميع هي القاعدة في بلاد العجائب. أما في عالم بينوكيو، فمعنى القصص المطبوعة واضح، لا لبس فيه؛ بينما في عالم أليس، فحتى معنى قصيدة مثل Jabberwocky يتوقّف على إرادة القارئ. (وقد يكون من المفيد التذكير هنا بأن كولودي كان يكتب في زمن كانت تُعتمَد فيه اللغة الإيطالية رسميًا لأول مرة، بعد اختيارها من بين لهجات عديدة؛ في حين أن الإنجليزية التي كتب بها لويس كارول كانت قد "ثُبّتت" منذ زمن، ما أتاح فتحها للتساؤل وإعادة التأويل ضمن هامش آمن نسبيًا).
حين أتحدث عن "تعلّم القراءة" بالمعنى الكامل الذي أشرت إليه سابقًا: فإنني أعني شيئًا يقع في المسافة بين هذين الأسلوبين أو الفلسفتين)." من فصل "كيف تعلّم بينوكيو القراءة")
