رسائل من يوميات "دم نازح في الممر"

صورة حديثة لبيت أهل الشاعرة مهدماً في غزة، معدلة.

فاتنة الغرة

شاعرة وكاتبة من فلسطين

لكنه ليس من الشائع في مدينة محافظة كغزة تتكتم على عريها الداخلي بملابس فضفاضة ان يجلس الشباب جنبًا إلى جنب جوار البنات، فما بالك بالحديث معهم والنوم متجاورين لا يفصل بينهم وبين الشباب لا ساتر ولا ستارة.

للكاتب/ة

الضحكات الرائقة تسمعها مختلطة برائحة الخبز التي تدخل أنفي الآن، مختلطة برائحة الدم الذي أغرق الممر بعدما أصابت شظية شابا كان يغور من وجه أمه، ممزوجة بصوت القذائف المدفعية التي تنطلق فجأة دون أن ينهق الحمار فينخز شابا صديقه من خاصرته كان قد انتفض قليلا من أثر الضربة بقوله: اوعى، ويعلو الضحك من جديد.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

04/11/2025

تصوير: اسماء الغول

فاتنة الغرة

شاعرة وكاتبة من فلسطين

فاتنة الغرة

الرسالة الرابعة: رائحة خبز طازج فصيلة دم O+

رائحة الخبز الطازج يا لمار تفرك أنفي كلما هبت نسمة هواء أوصلتها إلي، يمكنني المسير وراءها وتتبعها حتى أصل إحدى غرف الطابق، غير أن المقارنة -إن حدثت- مجحفة بين رائحة رغيف الخبز الذي تنضجه الطنجرة الكهربائية ورائحة خبز فرن الطين الذي صنعته جدتك خلف المنزل في المساحة الضيقة بيديها المعروقتين اللتين تتطابق معها يديّ حيث كنت أحضر صغار حبات البطاطس وأضعها في جمر الفرن مع حبات البيض الملفوف في ورق أكياس الأسمنت المغسول بالماء لحفظ البيض حتى استوائه من الاحتراق، وبالطبع لن أحدثك عن الطعم حينما يدخل الفم فهو حكاية أخرى لن يتسنى حتى لي استعادته، الرائحة يا لمار، رائحة الخبز حينما يخرج من قلب النار ناضجا محمر الوجه تساوي افضل المخبوزات الفرنسية كافة ورائحة رغيف الخبز التي تسري في طرقات المستشفى لها طعم جديد عليّ، تعلمين يا حبيبتي انهم قصفوا المخابز التي كان الناس يصطفون طوابير أمامها من أجل ربطة خبز لن تكفي غداء لكل هذه الافواه الطريق والقابلة للنمو بسرعة تفوق الحرب نفسها، طوابير مرهقة، مستفزة، ضاحكة، متخاصمة وزاعقة، أيدي تتشابك لتناول الأرغفة المخصصة لها او لمصارعة من يتعدى على دور غيره، لذلك تكاثر فجأة مشهد النساء وهنّ يحملن العجين المرقوق والمصفوف على مخدات مغطاة بقطعة قماش عادة ما تكون غطاء صلاة سوف يلبسونه فيما بعد، ربما دون أن يُغسل، لا ضرر من رائحة عجين لهذا القرب من الجسد.

إعلان

الكل هنا يتقن العجن والخَبز حتى الشباب الذين يرافقون أقاربهم المصابين الناجين من القصف أو النازحين مع عائلاتهم،  يتجمع الشباب ليلا حيث يعلو القصف ويحلو الأكل والشجار واللعب والسامر، أحدهم يستعير منخلا وكمشة من الخميرة من عائلة في نفس الطابق والآخر يتبرع بالدقيق بعد توصيات عديدة من أمه أن يترك لهم ما يكفي لطعام الغد، الكل يتحدث هنا عن الغد بيقين عجيب، يجمعون الملح في مناديل ورقية ويقايضونه أحيانا بالقليل من الفلفل الأحمر المطحون حتى وان خُلِط بالماء، أتابعهم بعيني في الغرفة المقابلة للممر حيث استلقي وهم يضعون المكونات في اناء بلاستيكي ويعجنون، أحدهم يقوم بصب الماء والآخر بالعجن والثالث بتحضير الشوبك واللوح لرق العجين متقمصين أدوار أمهاتهم أو زوجاتهم في تناغم تكاد تشعر معه انهم يلعبون هذه الأدوار منذ الأزل، غامزين ولامزين: اعجني كويس يا حلوة. 

: من عينيا يا ابو محمد بس الولاد تعبوني.

إعلان

الضحكات الرائقة تسمعها مختلطة برائحة الخبز التي تدخل أنفي الآن، مختلطة برائحة الدم الذي أغرق الممر بعدما أصابت شظية شابا كان يغور من وجه أمه، ممزوجة بصوت القذائف المدفعية التي تنطلق فجأة دون أن ينهق الحمار فينخز شابا صديقه من خاصرته كان قد انتفض قليلا من أثر الضربة بقوله: اوعى، ويعلو الضحك من جديد.

الايام الأولى في المستشفى كانت الخضار لا تنقطع عن النازحين -حينما كانت هناك طرق تردي إلى المستشفى- مثلما كانت رائحة قلاية البندورة تهب بمختلف الإضافات عليها، محظوظ من لديه بضعه فصوص من الثوم لإضافة نكهة ورائحة لا تترك طابقا دون التسلل إليه حتى انك تسمع أصوات متسائلة عن مصدر الرائحة أو ترى رجالا تقودهم في الممرات انوفهم، لكن قلاية احمد جارنا في الطابق تتفوق على اي قلاية أخرى، قلاية من الفلفل الاخضر مع القليل من البندورة تتفاعل مع انوف جميع من في الطابق فتبدأ بالعطس والجريان بتناغم متسق مع الريق الجاري، غزاوية انت مثلي يا لمار ومثلي تعشقين الفلفل الحار، علامة غزة المميزة، يمكن للغزي الاستغناء عن الكثير من الأكلات لكن الفلفل الاحمر وخاصة المطحون فلا، يكفي أن تنزلي غزة في موسمه وتري صناديق الفلفل الأحمر المتراصة فوق بعضها على عربات تجرها الحمير والأحصنة وكلٌّ يشتري خزين السنة، في موسم الفلفل الأحمر تشمين رائحة غزة.

أن تتفوق روائح الاكل على روائح المعقمات والأدوية التي تتميز بها المستشفيات فهذا عبث لا يحدث في الحياة الواقعية لكننا في مدينة تعيش بمحاذاة الواقع وقد تتقاطع معه أحيانا كما تفعل الآن، تغيب هذه الروائح بين روائح الطعام على قلة أنواعه وروائح الفراش المكتوم أو كما تقول النساء الغزّيات "المعطبن" حيث لا يكاد ضوء شمس يدخل من اي شباك، لكن روائح براز الاطفال تسيطر على الطابق، الاطفال يسيطرون على الطابق، على المستشفى، على الممرات فيها وعلى آذاننا،  تشمين روائح براز ومخاط من ملابس غسلتها النساء ونشرنها على قضبان الشبابيك أو على حواف السلالم، لكن يحدث أن تدير رأسك رائحة رز مبهر تدخل أنفك دون سابق إنذار حتى لو كان الرز باردا، فالطعم وحده كفيل بأن يسيل الدموع من جديد، لا أفهم هذه الدموع السخيفة التي لا تسيل الا مع كأس ماء بارد او ملعقة رز مبهر تأتي على غفلة، الاكل هنا يعتمد في معظمه على الدُّقة الغزية والزعتر والجبن والحلاوة الطحينية والمعلبات التي وصلتنا من خلال "كوبونة" من الصليب الأحمر مرتين، لم يعد باعة الخيار يمرون من أمام المستشفى، ونهيق الحمار الليلي الذي كنا نسمعه دائما قبل كل قصف بدقائق مثيرا لعنات النازحين والمتشائمين من نهيقه قد توقف، لم يعد هناك باعة للخضار ولم تعد هناك شوارع تصلح لمرور قطة منها.

لديّ أنف شديد الحساسية للروائح يستطيع التقاط الرائحة عن بعد، كنت أفهم حساسية جريجوي للروائح في رواية العطر، لكن فرز الروائح في الطابق أشبه بالمعجزة ولا رفاهية لديك في الاعتراض، اذكر حكاية روتها لي ابنة عمك تغريد عن امرأة عجوز تسكن طابقا أسفل منا، امرأة سمينة كانت تضجع على جنبها ثم تخرج ضراطا قويا يفزع النيام مقترنا برائحة تصيب كل قاطني الطابق بالغثيان، كان الشباب يقولون لها معترضين: يا خالة قتلتينا، ريحة دخان القذائف أهون من ريحة ضراطك، فترد عليهم دون أي مبالاة: يوه يا خالتي، اخليه يموتني؟ خليه يطلع برة ويفضح ولا يضل جوة ويسطح، محظوظة انا لأنني لم اسكن في نفس الطابق والا كنت أخذت قطعة من العجين وسددت بها ذلك الخرم دون أن اتردد أو تهتز لي يد، بإمكان كوب شاي بالميرامية إصلاح كل هذا الخراب.

 

الرسالة الخامسة: الفردوس ليس على الناصية الأخرى

نزحنا يا لمار من مستشفى القدس لكن يومياتي هناك مازالت عالقة بين الجدران وفي ممرات الطوابق لذا سأستمر بكتابتها إليك تحت وقع الأصوات والصور التي اختزنتها ذاكرتي مثلما اختزن بعضًا منها جهاز موبايلي، كان بحوزتي رواية ماريو باراغاس يوسا "الفردوس على الناصية الأخرى" وجدتها ضمن مكتبتي التي تركتها خلفي في غزة قبل خمسة عشر عامًا وحافظت عليها جدتك التي لا تقرأ حرفًا حتى رجوعي، وضعتها في حقيبتي ظنًا مني أن الوقت سيتاح لي لقراءتها من جديد، أخذتها ضمن ما حملت حينما تركنا البيت تحت وقع الصواريخ، هل قلت لك أن جدتك وهي تتكئ على يدي ويد عمك محمود وقفت للحظة لتصرخ فينا كي نتركها هناك؟ تخيلي! نتركها تحت القصف لشعورها بأن ثقل وزنها وصعوبة مشيها ستعرقلنا وتحول بيننا وبين الالتحاق بباقي العائلة وبالتالي لاحتمالية إصابتنا إن لم يكن موتنا، كم كان بودي أن تكون بخفة ذلك الرجل العجوز الذي رأيت ابنه يحمله على كتفيه ويركض به، كان خفيفا كطفل في عامه الرابع على الأكثر، ضغطت بيدي على يدها وقلت لها امشي يما، سنصل، امرأة كانت تطلّ علينا من شباك عمارتها نادت على أمي ملقية بشبشبٍ من النافذة: خدي يا حجة إلبسي في رجلك، لحظتها فقط انتبهت إلى أن امي قد خرجت حافية من البيت، امرأة في الثمانين خرجت تنزح من بيتها تحت وقت القصف ربما مثلما فعلت عندما كانت تبلغ من العمر أربع سنوات ونيف حافية تركض مع أهلها وقت النكبة.

كنا نركض مثل لاعبي الركبي لكن دون أن نعرف إلى أي اتجاه نلتجئ، كل شيء كان تحت مرمى القصف والصواريخ التي لا تفرق بين طفل يكركر على انزلاق ابيه ووقوعه على الدرج وبين أم تجلس أمام فرن الطين تمدّ يدًا تحمل رغيف خبز، حرقته القذيفة المباغتة، شيخ على الرصيف المقابل كان يجر بيد ابنه الصغير وبالأخرى عجلة تحمل ثلاث أرباع كبس دقيق ربما خرجت منه عجنة واحدة راكضًا دون أن ينظر خلفه، هنا نتعلم ألا ننظر خلفنا مهما كانت الأسباب مثلما أخبرتني صديقتي وسام ياسين التي تعمل مراسلة لقناة الحرة عن امرأة روت لها قصة استشهاد ابنتها وحفيدتها، كانتا وراءها يعبران طريق الموت من غزة إلى الجنوب وهي قصة سأرويها لك ربما في رسائل قادمة، تقول رأيت النقطة الحمراء للقناص تتخطاني لتنطلق منها رصاصتين وسمعت صوت ابنتي وطفلتها خلفي، مشينا دون أن نجرؤ حتى على الالتفات وراءنا، هكذا أخبرونا في الحواديت، امشي ولكن لا تنظر خلفك وهكذا فعلوا.

عبرنا شارع 8 الذي نقطن فيه في حي تل الهوا باتجاه مستشفى القدس حينما نزحنا من البيت، قرر جزء منا الذهاب إلى المدارس غير أن الجزء الآخر استجاب لصراخ زوجة عمك وهي تقول مستشفى القدس، الاقتراح كان يبدو أقرب للمنطق فالمستشفى لا تبعد أكثر من عشر دقائق مشيًا عن البيت ومن السهل علينا حينما يتوقف القصف أن نعود لبيتنا دون جهد يذكر، كنا سُذّج يا حبيبتي، غرّنا أن تل الهوا وعلى مدار الحروب الفائتة بقي سليما من الدمار، ركضنا حتى مرت سيارة أمامنا صرخنا على سائقها: خد هالمرة العجوز معك، وقف الرجل وصعدت أمي معه رفقة عمك طالعة، وبقيت أنا أحث السير إلى المستشفى ممسكة بيد ابنة عمك ميرا البالغة من العمر10 سنوات واخيها يامن البالغ من العمر 5 سنوات، مشهد ميرا وهي تضحك بشكل أقرب للهستيري وتقول ليامن: ما تخافش يا حبيبي احنا مش رح نموت، ثم تنظر الى قائلة بنفس الابتسامة: صح يا عمتو، احنا مش رح نموت وانا أحاول طمأنتها وسط لهاثي، يامن كان يعضّ بيده على يدي حتى وصلنا منتزه برشلونة الذي يجاور العمارة التي اشتريتم فيها شقتكم يا لمار، قلت لهما أمشيا بجوار الأشجار وليس جوار البنايات، قلتها وصوتي يهتز مع كل قصف آت من الخلف، وحينا رد عليّ يامن: صحيح يا عمتو عشان الأشجار ما بتوقع، لم يتوقع يامن أن كلمته هذه ستنزل على قلبي طمأنينة وسلامًا وأنها بحروفها القليلة ستصلب عودي مجددا، التقطت الكلمة من فمه وظللت أرددها طوال الطريق حتى وصلنا باب المستشفى: الأشجار ما بتوقع، الأشجار ما بتوقع، نسيت أن أخبرك، لم يعد وجود لشقتكم يا حبيبتي، صارت رمادًا مثلما هو حال باقي أغلب العمارات من حولها، لكن الأشجار هناك لم تقع.

ذهب يامن وميرا مع أهلهما إلى مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين في حي الرمال، وبقينا أنا وجدتك وجدك مع عائلة عمك زياد وعمك محمود في المستشفى، عائلتنا كبيرة أعرف وهكذا هو حال أغلب الغزّيين، نتسلى بالأكل والدبكة والغناء والشجار وصناعة الأطفال، في البداية  وقفنا على باب المستشفى ننظر إلى تلك الجموع من البشر دون أن نعرف أين سنجلس وكيف سنبيت هنا وإلى متى، كلها أسئلة كنت أجيب عليها حينما يطرحها أحد أبناء عمومتك علي: فلنعش بسياسة الخطوة خطوة، كل ساعة بساعة، وكل ليلة بليلة وكل يوم بيوم، ذهب طارق ومحمد أبناء عمك زياد ليتفقدوا الطوابق كي يجدوا مكانًا يتسع لنا، بضعة مترات طولية في ممر أو حتى على مصطبة درج، عاد الشباب ليخبرونا أنهم قد وجدوا مكانا لنا في الطابق الثالث، لم نكن نحمل معنا أمتعة تذكر، فقط ما خف حمله على الظهر وفي اليدين، كنت قد أحضرت كل وثائقي وما تبقى من مال لدي في شنطة على الخصر وما تبقى من أغراض شخصية وضعتها في حقيبة حملتها على كتفي فنخرت فيه نقفا أخذ أيامًا كي يلتئم، فرشنا على الأرض وانفرشت أعصابي عليها، كان صوت القصف بهذا القرب جديدًا على أعصابي، خمسة عشر عامًا عشتها في هدوء كنت أحسبه موتًا في البداية وفجأة بوووووووووووم تراااااااااااااااخ تررراك، القيت بجسدي على فرشة لنازحين سبقونا، وسمحت لجسدي بالانفلات مني، صوت الصواريخ كان قويًا في أذنيّ إلى الحد الذي ظننت معه أن هذا الصوت سيبقى في الداخل مثلما فعل صرصار صغير دخل أذني ذات فجر صيفي وانا نائمة فوق سطح البيت، كان عمري وقتها أقل من سبعة عشر عامًا والآن جيش من الصراصير الحديدية يقرقع في أذني وحتى كفاي الصغيرتان لم تتمكنا رغم ضغطهما من إيقاف هذا الصرير الجبار، ولسان حالي يقول: ليس في الضفة الأخرى  فردوس يا "يوسا"، نسيت أن اخبرك اني تركت الرواية في خزانة ملفات بغرفة صغيرة في طابق المستشفى ربما يجد فيها أحدهم واقعًا موازيًا أو فردوسه المفقود.

 

الرسالة السادسة: حينما تسلل خيط الريق من طرف فمي

هل تعرفين يا لمار أكثر ما يميز التواجد في غزة؟ هو أنك لا تسمعين بالكاد إلا اللهجة الغزّية، تحيطك من كل جانب، تدخل مسامك من الأنف ومن الفم ومن كل فتحات ومسامات جسدك، وكذلك يفعل الفلفل الغزيّ، في المستشفى أصبح الفلفل الأحمر المطحون عملة للمقايضة، برغيف خبز أحيانا وبكمشة من السكر في أحيان أخرى، تعرفت هناك على شباب من حارتنا كان يوردون لي قليلا منه مخبأً في زجاجة بلاستيكية ملفوفة بكيس أسود، كأنها ممنوعات يتم تهريبها تنتقل من يد لأخرى، لا أذكر كم مرة جرى ريقي بوقع لون الفلفل وهو يتوسط قطعة خبز في يد أحدهم، صرت لا أستحي من طلب شيء أشتهيه وهل هناك مشتهى في ظل جفاف المعدة غير الفلفل الأحمر.

أينما كنت أمر في المستشفى سواء في الخارج الأشبه بمحطة قطار في رمسيس حيث الباعة من كل صنف ولون، كنت أسمع الشباب ينادونني خالتو أو عمتو، في البداية كنت أنظر شذرًا لمن يخاطبني بهذه الألقاب خاصة وان منهم شبابا قد أكبرهم بعقد من الزمن لا أكثر يخاطبونني احتراما بهذه الألقاب، لذا كنت أتغاضى قليلا وأستفز كثيرا لكن الرد الحاد كان على من يخاطبني يا حاجة: هل هززت لك في سريرك؟ أم هل تراني أمشي على عكازين، الحرب يا حبيبتي أفقدتني رؤية غزة كما أتمنى لكني لن أسمح لها أن تضيف إلى عمري أعمارا لا تخصني.

كنا نظن أن سهم نصيبنا وقع في أسوأ مكان لنقيم فيه في المستشفى بسبب كثرة الأطفال والعائلات في الطابق لكنني كلما نزلت طابقًا اكتشفت كم نحن محظوظون بهذه الإقامة، الكارثة الأكبر تكمن في الطابق الأول، ليس فقط بسبب تكدس العائلات فوق بعضها إلى درجة أن "بيت الدرج" كما نطلق عليه هنا وهي المنطقة الضيقة تحت مصطبة الدرج صارت مأوى لعائلة تربو على عشرة أفراد، الأقسى هنا أن نزلاء هذا الطابق من النازحين هم من يتلقون الإصابات الواردة للمستشفى من اشتباكات بالخارج أو الناجين من قصف وهذا هو الرعب الحقيقي، حينما يغطي الرماد وآثار القصف الوجوه، تتشابه الملامح إلى حد مرعب خاصة ملامح الأطفال، كم مرة صاح أحدهم هذا حفيدي، له نفس الضحكة، هذا ابن اخي عرفته من قميصه الذي كان لي، هذه عيون ابنتي وتلك أظافرها، بعد قليل من التفحّص وتقليب الشعر والأظافر واليدين والألبسة كنت تسمع تنهيدة ارتياح يعقبها في كثير من الحالات بكاء صامت أو نحيب.

أما عن سكان الطابق السادس -وهو طابق مازال في طور البناء- من أنجب منهم فقد كسب ذرية كما نقول هنا، الحياة هناك رعب مجسد، السماء فوقك لكنها سماء غير السماء، سماء سكان الطابق السادس لا تضيئها النجوم ولا يزينها القمر بل تنيرها القنابل الفوسفورية والحرارية التي يتم إطلاقها كإنارة قادمة من الجحيم، هم لا يسمعون أصوات القصف فقط لكنهم يرونه ويشمونه كل لحظة في الليل أو النهار ولا شيء يحميهم من الانزلاق من طرف السطح غير عمدان من الحديد تقي الساكنين وغالبيتهم أطفال ونساء خطر السقوط، ينامون على قليل من الفراش حيث لا يوجد بذخ هنا ولا رفاهية قد يمتلكها المقيمين في الطوابق السفلية، لم أفهم للحظة كيف يمكنهم ممارسة الحياة هناك في "الطل" حيث تصحو عيونهم على الدمار، على العمارات المقصوفة والبيوت المهدمة والشوارع المحفورة بفعل القذائف التي تتساقط كالذباب على غزة، يبدو أن غزة هي قطعة حلوى كبيرة والا لماذا يسقط فوقها كل هذا الذباب؟

يحب الأطفال الحلوى كثيرًا تعلمين هذا يا حبيبتي فأنت منهم، والأطفال هنا ترضيهم أي قطعة حلوى حتى لو انتهت مدة صلاحيتها كحال كثير من المساعدات التي وردتنا في المستشفى، لكن الحلوى على ندرتها وقلة جودتها بدأت بالتناقص تدريجيًا من أيدي الباعة أمام المستشفى حتى أصبحت عملة نادرة، يلزم الأطفال الكثير من الطاعة كي يكسبوها كمكافأة، لا ضير في ذلك فقد استعاض الناس بساندويتشات المربى والحلاوة الطحينية كنوع من الحلى، يحضر حينما يحضر الخبز لكنه لا يغيب عند غيابه.

كنا نحو خمسة عشر ألف نسمة في مباني المستشفى المتلاصقة، نزيد وننقص حسب القصف في الخارج والتهديدات المستمرة بقصف المستشفى على رؤوسنا، كنا قرية صغيرة موزعة على طوابق وأبنية، غرباء كنا وأقرباء وأحبة صرنا، لتمضية الوقت كان الجميع هنا يتعرف عمن يتوسم فيهم صفات مشتركة له ولطريقته في الحياة، لكن الأمر لا يمنع أن تصاحب أشخاصًا لم تكن تظن أن هناك مكان يمكن أن يجمعكم، الحال في المستشفى وضعنا على خط امتد على استقامته طويلا، نقف عليه باتجاه عقارب الساعة وكلنا نلف معها، جيراننا لحسن الحظ كانوا ممن يسكنون حينا "تل الهوا" لكن المعرفة كانت في الأوضاع الطبيعية تقتصر على معرفة الرجال بالرجال والنساء -إن كان هناك تبادل زيارات- بالنساء.

لكنه ليس من الشائع في مدينة محافظة كغزة تتكتم على عريها الداخلي بملابس فضفاضة ان يجلس الشباب جنبًا إلى جنب جوار البنات، فما بالك بالحديث معهم والنوم متجاورين لا يفصل بينهم وبين الشباب لا ساتر ولا ستارة.

لا أعرف الكثير عن كل واحد منهم لكن المعايشة على مدار شهر إلا بضعة أيام تعلمك الكثير عن البشر، خاصة وأنت تراهم كما في البيت دون رتوش أو أقنعة خارجية لحفظ ماء الضعف أو الانكسار، او الشر في بعض الأحيان، بالمناسبة هل أخبرتك من قبل يا لمار أن الأيام هنا لا تجري مثلما تجري في الخارج، وأن الوقت هنا مطاطي، يمتد ويتقلص حسب أحداث النهار، ظننت سابقا أننا قضينا في المستشفى ثلاثة وعشرين يوما لكنها كانت تزيد على ذلك، دخلنا المستشفى في الثالث عشر من أكتوبر وغادرناها في الثاني عشر من نوفمبر، يومها حمل عمك محمود ابنه أحمد البكر الوحيد على أكتافه وذهب ليدفنه تحت القصف، أحمد الذي كان قد أتم للتو عامه الحادي والعشرين كان قد اشتهى كوبًا من القهوة لكنه عاد وظرف القهوة في جيبه ورصاصة اخترقت رأسه، هل قلت لك كيف سال خيط من الريق من طرف فمه؟.

 

الرسالة السابعة: حينما تُسقط الأصوات العصافيرَ من السماء بطلقة

عن الوجوه في غزة يجب أن أكتب كتابًا مفصلًا، الوجوه تقول كل شيء يا حبيبتي، لذا دعيني أحدثك يا لمار عن القسمات المتشابهة مهما كان جنس الشخص أمامي، لنبدأ من العيون اذن، كثيرا ما كنت أمشي في طرقات المستشفى وتمشي العيون جواري وأمامي، عيون متهدلة، الأجفان منسدلة بغير اكتراث والرموش ترتجف معظم الوقت، الحدقات لا تستقر في نقطة ثابتة والتغضن يطال كل الوجوه حتى لو كانت لأطفال. في الممر الذي كنا ننام فيه كانت تنام أمامنا امرأة مع أطفالها، وبيدها رضيعة لا يكف رأسها طوال الوقت عن الدوران مثل لعبة يويو، عرفت لاحقًا انها مصابة بضمور في المخ، رضيعة لم يتعد عمرها الأشهر الستة وجهها متغضن كعجوز قسمات متهالكة وعيون جاحظة وصوت أنين متقطع لا يهدأ، أمها قالت لي ذات يوم: ربنا يرحمها عنده برحمته، عند استمرار الحرب لا يوجد وقت للشفقة يا لمار مثلما لا يوجد وقت للحزن ولا للبكاء.

كنت أنزل الدرج ذات يوم فسمعت صوت شاب يغني، كان يغني أغاني ميجانا وعتابا للحبيبة التي ترك أهله ونزح وحده إلى المستشفى كي يكون إلى جوارها، المشهد كان مبهجًا بالنسبة لي، توقفت للحظة وجلست على الدرج أستمع اليه وابتسامة بدأت تفرد وجهي، شاب آخر يبدو أنه عرفني سألني ألست ابنة أبو عماد المغتربة، أجبته بنعم، ضحك وقال أنا ابن جيرانكم كنت أتابعك على شاشة التلفزيون حينما كنت تقدمين برامج، ضحكت، الضحك هنا عزيز لذا كلما سنحت لي الفرصة أسمح لنفسي بالابتسام وحتى الضحك، والشاب الآخر الذي اكتشفت انه خطيب أخته يتابع الغناء للحبيبة التي تجلس خلف الدرج تستمع إليه، لوهله أغمضت عيني وفصلت باقي الأصوات عن أذني فظل صوته الشجي رغم النشاز فيه يصدح في أذني، انتبه الشاب لإنصاتي له فابتسمت وابتسم، سألته ان سمح لي أن أصور هذه اللحظة فتحرج بسبب ظروف الحرب، قلت له ان هذه مقاومة أيضا، مقاومة الموت بالغناء وبالحب، سمح لي أن أصور المشهد بشرط ألا تظهر صورته في الفيديو، أخفضت كاميرا الموبايل وبدأت التسجيل، بدأ يحدثني عن حبيبته واسمها "سعادة" وقد كتبت لها قصيدة أراد أن يسمعني إياها بحكم معرفته بأني كاتبة، "سعادة" التي كان يحلم بعقد قرانه عليها في نوفمبر أي بعد بضعة أيام، قال حبه لها بالكلمات ثم بدأ بالغناء وصار وقع صوته على أذني شجيًا أكثر من صوت مدحت صالح الذي يطربني، متزامنًا مع صوت القصف الذي يأتي من قريب يرتج المبنى على وقعه لحظات ويرتج قلبي على وقع الأووف والآه والابتسامة على شفتي تُطمئن قلبي أن هذا الشعب له تركيبة عجيبة ليس لها مرجعية غير ذاتها.

أصوات الأطفال في المبنى تثير داخلي يا لمار مشاعر متعددة، أحيانا أجد نفسي قد امتلأت حتى النخاع وقدرة التحمل عندي باتت في السالب فينطلق صوتي عاليًا بالصراخ على أهلهم، كنت أصرخ فجأة فينقطع حبل الصوت في الطابق، الكل ينظر إليّ ولم يجرؤ أحد يومًا على مجادلتي أو الصراخ عليّ، كأن هناك اتفاق جمعي بين سكّان الطابق على الصمت حينما يعلو صوتي، لم تكن حنجرتي التي تصرخ وقتها بل شبكة الأعصاب في جسدي كله من كانت تصرخ، أصرخ فيتوقف الزمن للحظات ينظر فيها الأطفال إلي بعيون مفتوحة كأننا في لعب "حركة صنم" ثم يعاودن نفخ البلالين وفرقعتها في شبكة أعصابي الداخلية، مرة كاد أن يصيبني الجنون من طفل بعينه، كانت عائلته قوامها أم شابة نحيلة طويلة القامة تحمل على يديها طفلة لا تتعدى الأشهر الخمسة تعاني من ضمور في المخ، لم أر زوجًا للمرأة على مدار وجودنا هنا لذلك لم يكن بوسعها السيطرة على الطفل وربما لا طاقة لا، سمعتها مرة تتمنى لرضيعتها الرحمة بأن يختارها الله إلى جواره أفضل من البقاء هكذا وهي تنظر إليها عاجزة عن فعل شيء غير أن تلقمها ثديها بين الفينة والأخرى لإسكات ذلك الأنين العجيب الذي يصدر عنها، وابنها يروح ويجيء وهو ينفخ ويضرب بيده فيفرقع ما نفخه وانا أطالبه بالتوقف

لم يكترث للحظة لصوتي الزاعق فظل يشفط بفمه قطعة من القفاز الطبي الذي صار بديلا عن البلالين ثم ينفخها ويركز نظره عليّ ضاربًا بكفيه الفقاعة الصغيرة مطلقًا فرقعة أكبر من عمره، لم أتمالك نفسي ذات يوم من اللحاق به ونزع قطعة القفاز تلك من يده وتطويحها من نافذة الطابق مما أوقع بنات عمك على قفاهم من الضحك حيث رأوا جانبًا لم يروه من قبل، أعلم يا حبيبتي أن هذا ليس بطبعي لكن طَرق أصوات الصواريخ والقذائف على مسمعي جعل خطو نملة على الأرض بإيقاع رتيب يصيب عقلي بالجنون، الأهالي كانوا يطلقون أطفالهم في الطابق يجلببون ويصرخون، يتضاحكون ويضربون بعضهم بزجاجات الماء الفارغة، ولا أحد من الآباء او الأمهات يلقي إليهم بالًا وكأنهم في الشارع يسرحون. تمنيت مرة أن تتوقف الأصوات في الطابق ولو لدقائق لكني أدركت للتور مدى فداحة هذا التمني، هذا الأصوات حياة، فرح وان جللنا الحزن بغلالة داكنة، فعلٌ حينما تصمت الأفعال مع سقوط الشهداء مثل عصافير صدّاحة، فلتدعهم يصدحون يا الله، ليشاغبوا، يفرقعوا فقاعات الهواء أو يطبلون على الصواني والزجاجات الماء الفارغة، لا يهم، طالما هناك صوت يشاغب، هناك حياة تطل بوجهها على الموت وتخرج لسانها في وجهه صارخة: طز فيك فأصواتنا ستبقى.

لذا تعلمت يا حبيبتي كيف أفصل الأصوات عن بعضها، فالحياة هنا أصوات متداخلة من كومة من الصوف متعدد الألوان ينبغي عليك إمساك كل لون منها وتخليصه بمهاره من باقي الألوان كي تفصليه في بكرة لوحده، الأصوات هنا كذلك، عقلي صار يعمل كأنه مهندس صوت، يخفض زر صوت صراخ الأطفال وينقيه حتى يستخلص ضحكاتهم فقط، يعلي صوت دعاء أمي بعد صلاة الفجر، أمي لها طقوس خاصة في الدعاء خاصة عند صلاة الفجر تفتتح دعائها بتحية الصباح "سبحان من أصبح الصباح سبحان من أطلق الجناح الله يرحمك يا والدي ويا والدتي هالصباح وكل صباح" حفظت ذاكرتي هذا الدعاء فصرت أردده تلقائيًا رغم سنوات الغربة، ثم تستكمل جدتك الدعاء لكل أبنائها واحدا واحدا وزوجاتهم وبناتهم وأبنائهم مع الدعاء لكل المسلمين أيضاً ثم تختتم دعاءها بي، تدعو لي " الله يجعلك في كل طريق رفيق وفي كل خطوة سلامة" وبعدها يأتي الدعاء الأجمل الذي كلما كنت في ضيق أكلمها كي أسمعه "الله يهديلك كل عاصي ويطيعلك كل قلب قاسي" لم أسمعه من أحد أخر غيرها، تدعو فتحطّ فراشات بيض على قلبي، تدعو فيغرق قلبي في حضن سحاب دافئ، تدعو فيختفي أي صوت آخر، يبقى صوتها معلقًا فوق رأسي مجمرة بخور صافٍ.

صدر الكتاب حديثاً عن دار المتوسط.

الكاتب: فاتنة الغرة

هوامش

موضوعات

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع